تملكني حنين إلى هناك، إلى جانب تلك الأشجار الباسقة، والأدواح السامقة، وخرير المياه الجارية، وزقزقة العصافير حين تختلط بطنين النحل ورفارف الفرشات، فتصدر همسات تهدهد وجهي وتقذفني إلى أفياء الأمل المفقود.
وثبت وثبتي الأولى على أرضها منذ سنوات، اجتاح فؤادي سيل جارف من المشاعر المتضاربة، انتقلت بجوارحي إلى ذلك المقام وخالجني إحساس غريب، ارتحل جسدي إلى منحدر النهر. فتجسدت أمامي بدلالها، وغنجها، وابتسامتها الحالمة.. هي نفسها كما تركتني هازئة، ورمتني بنظرة أخيرة ساخرة.
حاولت قدح زناد الماضي، فغمرني موج التذكر، هممت بالتقدم، فتسمرت بدون حراك، تراجعت في حركة لا إرادية، فانتابني شعور بالوحدة والغربة، هتف صوت خافت بداخلي:
-هي الأماكن فقط ما عساها تفعل؟
نعم، هي أطلال من الأمس البعيد، وأنا تناسيتها وهي كذلك، تجاهلنا بعضنا ولم تعد لي حاجة بها ولا هي. حاولت إقناع نفسي، فاستعبرت مقلتي، وتمردت الدمعات، وانسلت في زخم على خدي. هممت بالتقدم من جديد فأبى جسدي.. كيف له أن يعصي أمري وهو الخادم المطيع؟
ضمرت أنين صرخاتي في أعماقي، لا عزاء لرزيتي ولا رثاء لمصيبتي. هرولت منسحباً من الربية فطوقني شالها الزهري، انتفضت وانتفضت علني أتخلص من هذا الرباط. سحبني إلى ظله، عبث بأحاسيسي وهز مشاعري، قاومت وقاومت فوجدتني حبيساً لهواه في قفص الشوق الضائع. أشرت بيدي إلى السماء راجياً مساعدة عبثية، فطبعت فوق شفتي قبلة دافئة اجتاحت تفاصيلها جسدي، ضممتها إلى صدري، وكبلت يدها بالشال.
-الآن تمكنت منك، قلت في لحظة عابرة.
صفعتني أوراق الخريف المتساقطة، وانتبهت فكان الشال قد طار واليد قد فكت الوثاق. عدت القهقري وركبت جياد الخيال وسابقت الزمن ونصبت خيمتي وجلست أنا وهي نتسامر.. أستمع إلى عذوبة صوتها أحيانا، وتلامسني بأناملها الرقيقة أحيانا أخرى...
هبت نسمات شرقية تحمل معها حبات ندى، حطت فوق ناصيتي وبللت حاجبي، استفقت فوجدت خيمتي سراباً ووطني خيالاً عبثياً. تنهدت وأسرعت الخطى، تخطيت كل المروج، كل الأشواك، وأمسكتني خصلة من شعرها الذهبي فتعثرت، ثم زحفت. رسمت طريقي على التراب كالرضيع، التفت إلى يساري، حدجت الصخرة المطلة على النهر، والمياه الدافقة تتطاير قطراتها على ضفتيه، فتسلل إلى أنفاسي عبق عطرها الباريسي، أخذني كل المآخذ، سافر بي إلى أقطار الدنيا الجميلة وانكسرت قارورته في لحظة جنون تملكني، واسترجعت لوعة اللقاء الأول، وسردت بصوت مسموع سيرة حب مهدور، فذكرتني الجوامد، ورثتني الصوامت وعاتبتني الكواسر وتذكرت عبثيتي حتى عند الافتراق الأخير.
المجلة العربية عدد مارس 2019