المقامة التمرميديّة
إِتْحَافُ المُرِيدْ، بِأَخْبَارِ بِلاَدِ التَّمَرْمِيدْ...
بقلم سعيد الجندوبي
اشتدّ الحرّ في شهر جويلية الأغرّ (أي شهر يوليو)، ودعاني داعي السفر... فاشتقتُ إلى التِّجوال، تاركا الحاسوب والجوّال... وقلت لنفسي: اكتشاف ومعرفة البلدان، أنفع وأبقى لبني الإنسان...
ولمّا عزمت على الخروج، استعنت بكتب الجغرافيا وبالخرائط وبمواقع النجوم وبمساكن البروج... فاكتشفتُ بلادا يحمل أحد أبوابها اسم "العُلُوج"، ويسكنها قوم يسبّحون بحمد حاكم يقال له "البَجبوج" (وهي كنية الرئيس التونسي السابق لدى أنصاره)...
تقصيّت أمر وأخبار البلدْ، حتّى لا أصابُ عند الزيارة بالحسْرة والنّكدْ... وبحثتُ في كتب الأوّلين والآخرين عن عادتهم وأوصافهم ودياناتهم... فوجدتُهم قوما يحسنون العناق والبُوسْ، ويدينون بديانة يدعى رسولها "النبيّ حوسْ" (حوس كلمة زلّ بها لسان الرئيس في إحدى خطبه الانتخابية، وكان بربد قول النبي نوح)... ومن غريب عاداتهم وعجيب طقوسهم أنهم يحتقرون سكّان ما وراء "البْلايْك" (كلمة يطلقها بعض أهل العاصمة على من سواهم من سكّان البوادي)، ويسلّمُون في عباب البحر على "الفْلايكْ" (من الفلك وهي الزوارق)، اقتداءً – على حسب قولهم – بحاكمهم البجبوج، الذي يستمدّ أسرار سلطانه من الحاكم الكبير للعلوج...
عجبتُ لأمر البلادْ، وازددتُ شوقا لاكتشاف ما يُشاع عنْ أُفقه من انسدادْ... عملا بحكمة افرنجةِ وادي "الرُّونْ[1]" ، بُورْ نِيبَا مُورِيرْ كُون[2]... وحطَطْتُ الرّحالْ بمحطّة "الأرتالْ" (وهي القطارات)، وطفقتُ أبحث عن فندقٍ واسمه في هذا البلد "أوتالْ"... فاعترضني قبل أن أصله خلق كثير، منهم من يركب عربات صفراء (سيّارات الأجرة في تونس صفراء اللون)، ومنهم من على رجليه يسير... عليهم أثار النعمة، وفي أعينهم شرّ ونقمة... سألتُ عن اسم المكان، فأجابتني سمراء شقراء تمضغ علكة كالأتان:
- "ووووه… هاذي برشلونة (وهي ساحة معروفة في العاصمة التونسيّة)… اليّ ما يعرفوهاش برشا جبورة كِيفِك!" (أي يجهلها السذج ممن يشبهونك من أهل البادية)...
فهمتُ عندها معنى وأصل كلمة "برشا" وهي عند هؤلاء الأقوام جارية على كلّ لسان...
ركبتُ بعد طول طواف عربة صفراء، عاملني سائقها بعد أن تأكّد من أنني قادم من "الأبعاد" معاملة الوزراء والسفراء والأسيادْ... فأغلق العدّادْ، وراح يشكو حال البلادْ... وأفهمني بأنّ الكوارث حلّتْ، وبأنّ الأمور اختلّتْ، مذْ أنْ رحل عنها "الزينْ" (زين العابدين بن علي الذي أطاحت به ثورة يناير 2011)، والدليل على ذلك طيور شارع بورقيبة، تلك التي باتت منذ الثورة إلى حدّ اليوم كئيبة... ثمّ تنهّد، وبكلتا يديه للسماء أشار ولوّحْ قائلا:
- "آما الحيّ يروّح" (مثل تونسي يشير إلى حتميّة رجوع الغائب)…
استوقفه فجأة شرطيّ ذو صفارة... وصرخ في وجه سائقنا:
- "شبيك تلوّح (لماذا تفرط في السرعة؟)؟ ألمْ تر حُمرة الإنارة؟"
فأجاب صاحب التاكسي، بكلمة لم أَفْقه معناها في مثل هذا الموقف الريسكي[3] ، إذْ قال:
- "زميلْ!"
فابتسم الشرطي، وأضحى وجهه مستبشرا جميلْ... وتخلّى فجأة عن لغة العراك وحيّا السّائق ب:
- "ربّي معاكْ!"
وصلتُ في نهاية الأمر إلى "الأُوتالْ"، بعد أن أخذ مني سائق التاكسي كلّ ما تحتويه جيوبي من مالْ، متعلّلا بانحدار الدينارْ، وباشتعال الأسعارْ... حاورتُه عبثا، فقلت له:
- "ما دخل السائح الغريب في الدينارْ وفي الأسعارْ؟"
فأجابني ضاحكا:
- "ابتسمْ، أنت في دولة الخُنّارْ" (أنت في دولة العجائب والغرائب)...
وانطلق لا يُشقّ له غُبارْ...
ألقيت الحقيبة، واستلقيت على أريكة كانت مني قريبة... ضحك نادل الأوتالْ وبادرني بالسؤال:
- "شنوّا؟! مَرمدوكْ... وعلى عِينكْ صكّوكْ؟!" (مرمدوك أي بهذلوك)
أجبته وقد غلبني الإرهاق:
- "أعطني يا هذا المفتاحْ... حتّى أستلقي على فراشي وارتاحْ."..
في الغرفة، فتحتُ التلفاز بحثا عن النومْ... فإذا ببرنامج ضيفه رئيس الوزراء، كبير القَومْ... سأله المُنشط الحريص، عمّا جدّ بينه عائلة الرئيس... فتنهّد الوزير وأجابْ:
- "قيل لي استقيل، ولاّ نْمرْمدوك وحنكْ البابْ"... (أي استقل وإلاّ سنبهذلك ونطردك، وقد حدث هذا بالفعل).
فعجبْتُ لهذا البلدْ، الذي "يُمرمَدُ" فيه الوزير، والسائح الغريب، والمواطن الفقيرْ... وتسألتُ في نفسي: "من يحكم هذي البلاد في الأخيرْ؟"
وداهمني سلطان الكرى فأصبحتُ من النّيام، تهزّني هزّا أضغاث الأحلام، أبطالها مافيات[4] وعصابات كتلك التي نشاهدها في الأفْلاَم…
[1] Le Rhône.
[2] Pour ne pas mourir con.
[3] Risqué.
[4] Mafias.