كلما زادت قيم المرء الاخلاقية تجلت "حقيقة الوجود التصوري الفردي"للموجودات.و زادت فرصه في اكتشاف الاشياء المخفية.و لا يقف الامر عند هذه الناحية فقط،بل انها تتجاوز ما نتصوره، فلربما يكون الفرد الذي يمتلك قيما اخلاقية،اندفاعا ثقافيا و قوة معرفية،بالاضافة الى سعة الخيال و التّذوق الجمالي،و الشعور بالواجب الانساني تجاه الجميع.فهذه الامور كلها قد توجد تحت مظلة واحدة و هي مظلة القيم الاخلاقية التي نتبناها.و لذلك فان المرء الذي يتبنى قيم اخلاقية معينة ثابتة في الاصل و الاساس و مؤثرة في نظامه السلوكي ،يجب ان نعتقد ان تصرفاته تأتي نتيجة لتلك القيم.

و لان اغلب القيم بعيدة المنال،ما لم نبحث عنها في داخلنا،و ندرسها في سلوكياتنا.فان السواد الأعظم من الناس،لا يدركون قيمهم،اي انهم لا يعرفونها بشكل واعي،بل هم يتصرفون بشكل لا واعي.و للإشارة فان الفرد الذي لا يدرك قيمه،فانه بالتأكيد لا يعرفها،لان الظروف و التجارب اثرت فيه بشكل لا واعي،مما جعلت قيم هذا الفرد تتكون تلقائيا،دون وعي و دراسة و تبصر داخلي.و لعمري فان لهذا الامر تداعيات اخلاقيات كبرى.فاننا مثلا لو راينا بلدا تسوده العنصرية-التي تمثل قيمة غير اخلاقية تماما-فسنرى ان الاغلبية في ذلك البلد قد تطبعوا على مجاراة مثل هذه العنصرية،بشكل مباشر او غير مباشر.و من الصعب فعلا ان نجد شخصا في بلد متطرف و منغلق،متحررا و مدركا.نعم صعب لاننا نعرف ان اخلاق المجتمع و احواله المتباينة و ظروفه تتطبع في نظام الفردي اللاواعي،مما يؤثر على سلوكياته،بحيث يجعلها متناسبة مع الظرف و الوضع الاجتماعي العام.

و بالتأكيد،نحن لا نملك زمام الامور بشكل منتظم في التأثيرات الاجتماعية المختلفة لاننا لا نستطيع ان نتحكم في ظواهر طبيعية تحدث في المجتمع،نتيجة لاسباب معينة.لكن هل يمكن ان نقول فعلا ان التحكم قد فقد تماما من جانبنا؟لا اعتقد ذلك،لكنني من جهة اخرى ارى شخصيا ان معارضة الظروف ليس أمرا سهلا.بل هو يحتاج الى فرد مدرك يمتلك مبادئ،و لان مثل هذا الشخص يصعب ان يوجد في كل مكان،فاننا بحاجة ماسة الى جعل نظامنا التعليمي افضل.و بالتالي نحن نكسب كثيرا،ان كان هناك نظاما تعليمي افضل،لاننا سنضمن بلوغ مرحلة مهمة للوصول الى مرء لديه قيم اخلاقية واضحة،و من جهة اخرى فاننا سننتج فرد لديه القدرة على المشاركة في البناء الاجتماعي.

الى الان تبدو ملامح المرء الذي يمتلك قيم اخلاقية غير واضحة.فهل من الواقعي ان نقول ان التعليم وحده سيقودنا الى هذا المرء.

نعم و لا في الوقت ذاته؟ نعم،لان التعليم لا يعني فقط إعطاء معلومات جافة و عتيقة.بل و يساعد في التنمية الاخلاقية للمرء،كالتعاون و احترام القانون الاخلاقي،و قيم الصدق و الكذب و تنمية الحس الجماعي المشترك،و المسؤولية الفردية.كل هذه الامور يمكننا ان نتعلمها في المؤسسات التعليمية.لكن من جهة اخرى يمكننا ان نتعلم الجهل ،اذا كان البناء التعليمي في البلد سيئا.و ليس في هذا الامر من غرابة!لان التعليم السيء لا ينتج فردا سيئا،بل و ينتج فردا له القابلية على ان يتعلم ألوان شتى من التصرفات البعيدة عن الاخلاقيات الانسانية،التي يشترك فيها الكثير من أبناء هذا الجنس الفريد.

و لقد أجبنا على السوال اعلاه ب لا ايضا.و ذلك لان التعليم الجاف وحده و تعلم سلوكيات اخلاقية معينة في المؤسسات التعليمية لا يعني اننا سنحصل على مرء ذا قيم اخلاقية صادقة و نابعة من ذاته.فربما نجد فردا متعلما متخلقًا في مؤسسة تعليميةما،لكننا سنجده غير ذلك في موسسات المجتمع الاخرى!و هنا نعلم ان الذنب ليس ذنب الفرد اذا كان قصارا،بل ذنب المسؤولين عن توجيهه.لان التوجيه و الإشراف المراعي للحقوق و الإرادة البعيد عن الاجبار و التقليد المضلل،يعمل على ان يكون المرء،ذا قيما ثابتة نابعة من داخله،لتنعكس على المحيط الخارجي الذي يعيش فيه.و يمكنني ان استنتج بحذر "ان التوجيه و الإشراف للمتعلم كلما كان مستمر و تحرري اكثر كلما كان ذلك المتعلم اكثر قدرة على ان يتلائم مع الاخلاقيات إنسانية،لكن بشرط ان تكون تلك التوجيهات بعيدة عن التعصب لرأي ما،او الاجبار او اي وسيلة اخرى لا تمت للاخلاق الانسانية بصلة.و كل هذا طبعا تحت إشراف لجان اكثر تخصص و متابعة و دراسة".

هناك شيء اخر اود ذكره في المؤسسة التعليمية الذي ان توفر مع بقية العوامل المؤثرة،فسوف تزيد احتمالية ان يكون الفرد ذا قيم اخلاقية نابعة من الداخل و ليس من اي مكان اخر.

انه التشجيع و الحرية.و اقصد بالتشجيع،انه اذا كان المرء يحب الفن،فانه من الواجب على من يحيطون به ان يشجعوه،خصوصا القائمين بالمؤسسة التعليمية-و كذلك الحال مع الأصدقاء و الوالدين-فلو وجد المتعلم من يشجعه على ان يزاول فنا ما،او علما ما،او هواية ما.فسنجد ان معدل نجاحه فيما يريده-ان توفرت لديه الشروط الكافية طبعا لفعل ما يريده-اكثر من اولئك الذي لا يحصلون على التشجيع من قبل المحيطين بهم .

اما الحرية فاقصد ان يكون المتعلم حرا في الإدلاء برأيه،حتى لو كان يخالف القائمين على تعليمه.و لعمري فان لهذه الحرية،نتائج عظمى في توسيع رحابة الصدر،و تقبل الاختلافات القومية او الدينية او المكانية او اي نوع من انواع الاختلاف.و كذلك الحرية في اختيار المجال الذي يريد المتعلم ان يتخصص فيه،دون إشارة الى افضلية تخصص على اخر،لانه في الحقيقة لا يوجد شيء في العلم اسمه افضلية تخصص على اخر،فعلم الاحياء ليس افضل من علم القانون،لاننا نعرف ان الكل له وظيفة معينة،يخدم بها المجتمع و نفسه ايضا.و ان حدث نقص في متخصصي تخصص معين،فان بوادر الأزمة الاجتماعية في ذلك التخصص سوف تبدأ بالظهور.

و للإشارة فان هذه المرحلة تعد مرحلة مفصلية ليس فقط في بناء الأنظمة النفسية و الاجتماعية للفرد،بل و في تحديد مجرى تلك الأنظمة بشكل كبير،و التي ستكون لاحقا ما يسمى بالمستقبل. و لذلك فقد عملت الدول المتقدة على جعل التعليم افضل،و افضل بكثير،لان السياسات عندهم ادركت انه اذا أرادوا ان يكونوا مستمرين في البقاء و قادرين على مواجهة الأزمات.فانه واجب عليهم ان يجعلوا تعليم بلادهم ارقى.

فالتعليم كما قال مانديلا هو"اقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم".


المرحلة الاخرى التي تلي مرحلة التعليم و الإشراف و التوجيه هي مرحلة التثقيف.و باعتقادي فان هذه المرحلة لا يمكن ان ننتقل اليها،ما لم نحصل على ذلك القسط الوافر من منافع المرحلة الاولى في جعل الفرد يمتلك قيما اخلاقية إنسانية.

هذه المرحلة ليست مرحلة منفصلة عن المرحلة السابقة.بل انها حصاد لها.فلو تعلمت في المؤسسة التعليمية ان تتلقى دروسا علمية مثيرة للدهشة،و رائعة المتعة و المنفعة،فانه من الوارد جدا ان تترسب تأثير الدروس في نظامك النفسي،مؤدية الى ان تختار تخصصا معين،له علاقة وثيقة بتلك الدروس،لكن الاختلاف هنا اي في مرحلة التثقيف،هو انه لا احد سوف يقوم بتعليمك،بل سوف تنبع قيمك التعليمية من ذاتك،فستقوم بشراء الكتب و مشاهدة الأفلام الوثائقية،و ستتعرف على الكثير من التجارب العلمية في اثناء رحلتك الثقافية هذه.هذا من حيث الثقافة العلمية.اما من حيث الثقافة الاخلاقية،فان الامر مشابه تماما للثقافة العلمية .فانك لو كنت تحترم القانون و تتعاون مع أصدقائك مثلا بتوجيهات و إشراف معين من قبل القائمين بالمؤسسة التعليمية وفقا للشروط التي ذكرناها سابقا،فستغيب احتمالية ان تتطبع بمثل هذه السلوكيات.لكن السمة المميزة هنا هي "ان التوجه الاخلاقي هو توجه ذاتي انساني بحت بعيدا عن إشراف الاخرين،ان إشراف داخلي على التصرفات الخارجية،و قد جاء هذا الإشراف الداخلي نتيجة لتاثير عوامل معقدة في أنظمة الانسان النفسية و الاجتماعية".

يمكنني ان اصف مرحلة التثقيف باختصار شديد على انها"مرحلة تلي مرحلة التعليم،و تمتاز هذه المرحلة بان الفرد فيها يتوجه نحو العلم و الاخلاق ذاتيا،و ليس تحت توجيه و إشراف خارجي.بل تحت إشراف و توجيه داخلي ينبع من القيم التي تكونت في أنظمة المرء كنتيجة للتوجيهات و التجارب في مرحلة التعليم".

هاتان المرحلتان ليستا في منعزل عن التحكم الذاتي،اي ان التعليم و التثقيف لا يمكن ان يجعلا المرء ذا قيم اخلاقية اذا ما توجه ولو بقليل من الانجذاب نحوهما.لكن يمكننا القول و بنوع ما من الثقة"ان التعليم المعتمد على التجارب و الخبرات،و التثقيف القائم على أسس التعليم و المعتمد على التفكير الفردي بدرجة ما،يجعلا المرء اكثر قدرة على امتلاك هذه القيم".بعد كل هذا،هل يمكننا القول اننا في غنى عن هاتان المرحلتان المهمتان في حياة الفرد القيمية؟لربما نعم،فاذا كان الفرد يمتلك نظاما شخصيا معتمدا على قيم استحصلت ذاتيا من خلال القراءة و التعرض المختلف للتجارب الحياتية المختلفة فانه يستطيع ان يكون و بكل ثقة فردا يمتلك نظاما قيميا،يشابه و لربما يفوق ذلك الذي يتعرض لمرحلة التعليم و التثقيف مع تحكم ذاتي بسيط".

هناك نوعا اخر من الأفراد،الذين يمتلكون تحكما ذاتيا صلبا،بالتزامن مع مرحلتي التثقيف و التعليم.و هولاء يبدون النمط الوسطي للنوع الاول و الثاني اللذين تم ذكرهما سابقا.هذا النوع من الأفراد يتصف بانه الاكثر تألقا في مرونته و انظمته الاجتماعية.لكن ما يهم في النهاية انه فرد متخلق و منتج.

ما اريد استنتاجه مما سبق هو"ان الفرد الذي يمتلك قيما اخلاقية هو ذلك الفرد الذي يكون اما اجتاز مرحلتا التعليم و التثقيف مع تحكم ذاتي بسيط او صلب ،و اما انه كون قيمه ذاتيا.و للإشارة فان هولاء الأفراد من وجهة نظر ما،هم على نفس النموذج من الانتاج و البناء،حيث انهم جميعا ينفعون المجتمع و يؤثر ون فيه