أناخت نهارها , ليسقط في وعيها بحدة أرعبها ماض ليس ببعيد . لوهلة داهمتها فكرة : لو أنه ينفصل عن كينونتها , يحمل أيامه بكل ما احتوت ويمعن سفرا في اللاشيء
وحين أفاقت تحسسته يمتد في عروق حاضرها , ويبني عرائش لغدها.
حاولت أن تكون هادئة , جلست باسترخاء على مقعد طويل , وكما لو أنها حاولت أن تبعد عن نفسها تهمة , حدَّثت ذاتها : إن أي حوار صامتٍ داخلها , أو مسموع , تسمعه هي وتعيه الجدران والمقاعد أكثر مما سيعيه هو , وعلى كلٍ ؛ فما هي فيه ليس محاكمة أو تراكمات من لحظات ندم تتكوم إلى أن صارت جدارا يهددها بالسقوط.
ضمت يديها إلى صدرها , وأراحت هامتها عليهما , واعترفت - بصدق مرير - بأن شيئا ما , ربما كان في جحيم الكآبة قد شق كينونتها إلى شقين ,
ابتسمت بذهول للغة التي تحدث بها نفسها , وبدت لها كل حياتها كابتسامتها , بلا معنى.
تفاجئها الصغيرة وهي تشد طرف ثوبها , تصلب إحساسها بالعبث . هي الآن مع صغيرتها تبتسم بحلاوة لها , ترفعها عن الأرض .. تحملها عاليا...عاليا...تضحك , تقول لها :
ليذهب العالم إلى الجحيم أنا وأنت سنصنع محرقة عظيمة , ومن خلال الدخان الكثيف وألسنة النار , طفح وجهه , بدا طيبا حنونا, أجفلت للصورة المعلقة بين أهدابها همست لروحها , أجل طيب ، ولكنه غبي ! , ما أصعب أن تعاشر رجلا غبيا !! .
أنزلت الصغيرة , وضعتها على الأرض , دموعها تنساب كما لو أنها انتظرت هذه اللحظة منذ أمد بعيد , لكن المحرقة بين أهدابها ما تزال تنفث دخانها , ووجهه امتلأ بسواد الدخان , حتى غامت ملامح الطيبة فيه.
جرس الهاتف أراحها لحظة , أحست بها تحمل من الهوج ما يكفي لحسم الأمر دون أن يكون بمقدورها أن تتاكد أنها ستتحمل النتائج, ودت لو تكون أفكارها مجرد زوبعة مهما امتدت ؛ فهي بلا شك راحلة , لكنها في قرارة نفسها كانت تعي تماما أنها ليست كذلك.
أغمضت عينيها ، وجاء ذلك الوجه من المحرقة , كانا معا , يستمتعان بمشاهدة التلفاز , بينما أنامله راحت تعبث بشعرها, أريد كوب ماء.
لم تفهم أو بالأصح أرادت أن لا تفهم ! , قالت مازحة :
وأنا كذلك أريد , أحضر كوبين بدلا من واحد , لم ترق له الممازحة, بدا متجهما , قامت...أحضرت الماء, جلست في ركن بعيد,كان من السخف أن تدع أنامله تداعب شعرها ثانية.
....يغيب الوجه,بصعوبة ترغمه على الغياب, لا تريد أن تستحضر مهاترات كثيرة كهذه . هي فقط تريد أن تؤكد لذاتها وللمرة الألف أنها ليست زوبعة وتذهب رغم وعيها
ذلك ؛ بل واقع يتحدى كينونتها , والتي تصر أن تبقي أناها في نظر نفسها امرأة لها من الكبرياء ما للرجال من صلف في إصدار الأوامر .
وبلغة المثقفة علق في رأسها سؤال : لماذا عليَّ ان أغيب إذا أراد هو أن يكون حاضرا ؟ , وبدت لها سلسة تنازلاتها حبلا خشنا منتنا يلتف حول عنقها ! .
صور تتدافع في مخيلتها , صور مكللة بالغيم والضباب والدخان , ولكن لها حضورها القاسي .. بوضوحه يوم زفافها , يوم تحديها لكل العيون الغبية المستطلعة , تلك العيون
التي لم تفهم أن الحب يخرج من حساب السنين , كان يكبرها بنحو عشرين سنة , وله من زوجته المتوفاة اربعة أولاد وتدافعوا كلهم إلى مخيلتها , وأحست بفيض من إحساس غامض بوهن حين أطل وجه الصغيرة معفرا بالشقاوة.
أراحت بصرها على لوحة تحتل مساحة واسعة من الجدار , أمعنت النظر فيها دون ان تميز بين الخطوط والألوان , مضت ساعة والألوان ما زالت مختلطة ببعضها .
احتوتها المدرسة في صباح اليوم التالي , ارتدت ثيابها بعناية , هواجس الأمس اختفت تحت وطاة الشرح المتواصل وتصحيح الأوراق ، وحكايا المعلمات التي لا تنتهي , لكنها في لحظة لم يخطفها الشرح أو الحكايا عادت إلى نفسها أحست - أو لعلها أرادت ذلك - بأن المدرسة عبء على حياتها , وأن لها ضلعا فيما يحدث من خلاف بينهما , تهيأ لها لو أنها كرست كل حياتها لبيتها ؛ لكان ذلك مدعاة لأن تنال مزيدا من الاهتمام ,كانت الفكرة مباغتة , وأدركت بعد لحظات أنها فكرة غبية .
العمل جزء من أناها , وأيقنت يائسة أن المشكلة ليست هنا
أحست بالاضطراب , خربشت بالقلم على أوراق الطالبات..ابتسمت بوجوههن , كيف يمكنني أن أقنعه
بالكف عن مناداتي لتنظيف حذائه...!
أغمضت عينيها , المحرقة بدخانها الكثيف ابتلعت الصورة , صوت الصغيرة يندس بين الدخان , يملأ روحها..آه ما أجمل أن نكون معا أنا وأنت فقط .
أفاقت على صوت الجرس يعلن بدء الاستراحة اجتمعت مع زميلاتها على المائدة .. أكلت بشراهة ، وضحكت كثيرا لكل تعليق أو نكتة قالتها إحداهن , وكانت تسعل إذ تضحك
فدخان المحرقة كان يملأ الأجواء من حولها !