أحدث المشاركات
صفحة 5 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة
النتائج 41 إلى 50 من 57

الموضوع: لإيلاف ذكرى

  1. #41
    الصورة الرمزية محمد سمير السحار شاعر
    تاريخ التسجيل : Dec 2005
    المشاركات : 2,014
    المواضيع : 144
    الردود : 2014
    المعدل اليومي : 0.30

    افتراضي

    غفر الله لوالدتكم ورحمها بواسع رحمته وأسكنها فسيح جنانه وجعل قبرها روضة من رياض الجنّة
    عظّم الله أجركم وأحسن عزاؤكم وألهمكم الصبر والسلوان
    ًأطال الله في عمركم وجعله خيرًا لكم في الدنيا والآخرة
    مع أطيب التحيّة والأمنيات
    إلى الشَّامِ أَرْنو بِعيْنٍ وأُرْنو
    إلى القُدْسِ بالشَّامِ فالشَّامُ عَيْني

  2. #42
    الصورة الرمزية مصطفى السنجاري شاعر
    تاريخ التسجيل : Oct 2008
    الدولة : العراق/ نينوى/ سنجار
    المشاركات : 4,670
    المواضيع : 165
    الردود : 4670
    المعدل اليومي : 0.83

    افتراضي

    رفقا بقرائك يا عمري
    ورفقا بزملائك
    تعبت ولم اصل الى البيت الأخير
    كنت كمن يرتقي جبلا
    ربما لي عودة
    انت في القمة وتبقى
    صعب ان تكون نسرا في مملكة الدجاج
    أُحِبُّكّـ فَوقَ حُـبِّ الذّاتِ حَتّـــــى
    كأنّ اللهَ لَمْ يَخلقْ ســـــواكـ

    مصطفى السنجاري

  3. #43
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي


    وَهَــا طُــفْتُ مَــنْفَى الــحُلْمِ يَــجْتَرُّنِي السُّدَى=بِـــوَجْـــهٍ خَــرِيــفِــيٍّ وَطَـــرْفٍ مُــبَــلَّـــلِ
    فَــيَــا رَبَّ هَـــذَا الــقَــلْبِ مَـــاذَا تَــعَــلُّقِي=بِــأَذْيَ ـالِ مَـــنْ يَــسْــلُو وَمَـــاذَا تَــعَــقُّلِـــي
    وَيَــا سَــرْمَدِيَّ الــشَّوْقِ مَــا الــذَّوْقُ فِي فَمٍ=إِذَا الــحُــزْنُ سَـــاوَى بَــيْنَ شَــهِدٍ وَحَــنْظَلِ
    فَـــلَا تُــلْــقِمَانِي، صَــاحِــبَيَّ، فَـــمَ الــرَّحَى=وَلَا حَـطْــمَ أَضْـــرَاسِ الــزَّمَانِ الــهَمَرْجَـلِ
    وَلَا تَــسْـقِيَانِي الــوَعْــدَ مِــنْ ضَــرْعِ صَــبْــوَةٍ=وَلَا تُــشْــقِــيَانِـي بَــيْــنَ مَــــاضٍ وَمُــقْــبِـــلِ
    كَــفَرْتُ بِــخَوْضِ العِشْقِ فِي حِضْنِ فَاطِمٍ=وَتُــقْتُ لِـحَوْضِ الــرِّفْقِ فِــي حِــضْنِهَا العَلِي
    في البيت الأول ..
    أحاسيس من الألم والوحدة والفقد ولكنها كانت صادقة وذا إيقاع هادئ متّزن فيه شيء من انكسار وجمال صور مثل ..
    (
    طفت منفى الحلم يجترّني السُّدى = بوجه خريفي وطرف مبلل)
    بدأ (
    طفت منفى) وانتهى بـ ( طرف مبلل) وهما مرتبطتان برابط قويّ فالجملة الأولى في الصدر هي فعل ، وفي العجز هي نتيجة هذا الفعل ، فهو لمّا طاف في منفاه يمشي بلا فائدة وبلا وجهة مقصودة وقد اصبح لونه مصفرًّا كالخريف وتجمّعت في قلبه غيوم الأحزان والمواجع فهطلت أدمعه فتبللّ طرف العين من بقايا الأدمع الجارية .

    استعمال الألفاظ كان أنيقا ومُقسّمًا بدقّة
    ( طفت منفى ) (يجترّني السدى) ( بوجه خريفيّ) ( وطرف مبلّل) ، والأخير وهو ( وطرف مبلل) كان أنيقًا جميل التركيب والسبب الذائقة الجيّدة في اختيار المفردات تتبُّعًا للأحاسيس الموسيقية

    بين ( طفت وطرف) جناس ناقص
    وأما ( منفى ومبلل) كلاهما يبدآن بحرف الميم وكأنمّا أرض منفاه قد تبلّلت من غزارة دموعه


    ولو لاحظنا لوجدنا علاقة بين كل جملتين من هذه الجمل الأربع في هذا البيت فانظروا معي إن لم نرتّب التقسيم كما في البيت :
    ( طفت منفى ، طرف مبلّل) و (يجترّني السدى ، بوجه خريفيّ) أي طفت المنفى بطرفٍ مبلّل ويجترّني السدى بوجه خريفيّ

    (
    طفت منفى وطرف مبلل) قلنا أنها فعل ونتيجة هذا الفعل
    (
    يجترّني السدى وبوجه خريفيّ) وهنا أيضا فعل ونتيجته ، فلمّا اجترّى السدى وكأنّما هو الذي يجرّه ليمشي هكذا من دون قصد وفائدة اصبح وجهه خريفيًّا نتيجة لهذا المشي الذي يُوحي اجتراره بكثرة التفكير والهمّ والألم والانكسار .
    كان بيتًا موفّقا في دقّة تركيبه وحُسن ألفاظه وتأدية معناه .

    (
    بوجه خريفي) شبه وجهه بلون الخريف ووجه الشبه هو الاصفرار والوحدة والفقد والفراق لأن الخريف غالبا يرمز لهذه المعاني الوجدانية المؤلمة والشجيّة في إحساسها وموسيقاها غالبا ، وهو تشبيه بليغ ومجمل .
    (
    يجترّني الأسى) هنا استعارة مكنية حيث ذكر المشبه وهو الأسى وحذف المشبه به وهو الإنسان الذي يجرّ غيره إلى مكان ما للعقاب أو لأمر مهمّ ، والجامع بينهما الإحساس بالضياع والمشي بحيرة وانكسار ودون هدف .

    وفي البيت الثاني (
    تعلقي وتعقلي ) بينهما جناس
    وفي البيت الثالث (
    مالذوق في فمٍ إذا الحزن ساوى بين شهدٍ وحنظل) بين (شهد وحنظل) طباق

    في هذين البيتين وردت أسئلة استفهامية ..

    في البيت الثاني : كانت توحي هذه الاسئلة بالحيرة وكأن الشاعر احتار بين الاضطراب الذي يقع مابين تعلّق القلب وتعقّل المرء أي عقله ، بمعنى مابين تغلّب العاطفة في القلب تارة وتغلّب العقل عليه تارة أخرى ، وكأنه قد تعب من ذلك فبثّ في نجواه لربّه هذه الأحاسيس التي أرهقته بعد تعلّق القلب بأذيال من يسلو أي أنه متعلّق بطرف هذا الشخص الذي هجره وفارقه ، والتعلّق بالأذيال هي صورة جيّدة توحي بالتمسّك ببقايا المحبوب الذي لايزال قابعًا في خَلَده ، والذيل يكون من الخلف ففيه دلالة كبيرة على افتراق الطرق والرحيل أو الهجر .

    أما في البيت الثالث : كان الاستفهام تقريريًّا ، وهو يقرّر عن طريق هذا السؤال أنّ قد يأتي وقت يستوي فيه الحلو والمرّ فما عدتَ تفرّق بينهما ولاتميّز طعم كلّ واحدٍ منهما وهذا يدلّ على الشعور بالمرارة من هذه الآلام وهذا الهجران وهذا الغدر الذي يحدث له .


    (
    فلاَ تُــلْــقِمَانِي، صَــاحِــبَيَّ، فَـــمَ الــرَّحَى=وَلَا حَـطْــمَ أَضْـــرَاسِ الــزَّمَانِ الــهَمَرْجَـلِ
    وَلَا تَــسْـقِيَانِي الــوَعْــدَ مِــنْ ضَــرْعِ صَــبْــوَةٍ=وَلَا تُــشْــقِــيَانِـي بَــيْــنَ مَــــاضٍ وَمُــقْــبِـــلِ
    )

    وفي هذين البيتين تكرّّر النهي كما تكرّر الاستفهام في البيتين السابقين

    الشاعر هنا يخاطب صاحبا له أو صاحبين وهذا موجود في الشعر العربي قد يخاطب الشاعر صاحبا واحدا له ويقول ياصاحبيّ ، وقد يُجرّد واحدا من نفسه ويخاطبه على أنه شخص آخر ، وهو أسلوب حواريّ جميل يجعل الشعر متنوّعا ، كما أنّ محاورة الصاحب يُعطي معنى الاقتراب والمودّة والمشاركة معهم في الحديث عن الهموم والأوجاع وهذا فيه سلوٌّ للنفس وتخفيف عليها ، ولا بأس في ذلك .

    يقول (
    صاحبيّ لاتلقماني فم الرحى ) فهو يناديهما ياصاحبيّ ثم ينهاهما فيقول :
    لاتلقماني (
    فم الرحى) وهي كناية عن المتاعب والأوجاع وكلّ مايُسبّب في هلاك الإنسان وقتله روحيًّا بشكل خاص .

    وجعل للرحى فم وهنا استعارة مكنية حيث ذكر المشبه وهو الرحى وحذف المشبه به وأظنه سمك من اسماك البحر والأقرب أن يكون الحوت فيكون شبّه الرحى بالحوت والجامع بينهما هو التهام مايجدانه من فريسة وبلعها ، والقرينة التي دلّت على المشبه به المحذوف هي (تلقماني) .
    وكأنما يقول لصاحبيه لاتزيدانني متاعبًا فوق متاعبي وتدخلاني بطرح آرائكما لمشكلتي ولما أعاني منه فترمياني للهلاك .

    ثم يقول في العجز (
    ولا حطم أضراس الزمان الهمرجل) وهو بيت يحمل نفس معنى البيت الأول تقريبا .
    الهمرجل : يعني الجواد الخفيف السريع أو الجمل الضخم .

    ينهاهما في العجز أن يلقماه أيضا أضراس الزمان الذي سيوخزه ويوجعه بسرعة طحن أضراسه للشاعر ، وهذا قد يوحي بنائبات الزمان التي تنزل على المرء .
    وهننا ايضا استعارة مكنية فشبه الزمان بالجواد السريع والقرينة ( أضراس ) والجامع بينهما هو وقوع الآلام والأوجاع المتتالية السريعة على الإنسان ، والله أعلم .
    كما قلت المعنى مكرّر في الصدر والعجز ، وكأنّما أُتي بالعجز من أجل تجديد الصورة فقط التي تؤدي إلى نفس المعنى المكرور وقد يكون هذا التكرار لتأكيد النهي عن القيام بما يوقعه في المتاعب والمهالك .

    ثم يقول (
    ولا تسقياني الوعد من ضرع صبوة = ولا تشقياني بين ماض ومقبل)
    ينهاهما عن أن يسقوه من الوعود أو يحثّوه على تصديقها النابعة من الاشتياق والحب للمحبوب ، لأنه إن سقوه ذلك فقد يؤدي إلى شقاءه ، لذلك ذكر ذلك في العجز باسلوب النهي فقال (
    ولا تشقياني بين ماض ومقبل) اي لاتجعلاني أعاني الشقاء مما مرّ في القديم ومن الوعود الذين تريدون أن تسقياني بها فأعاني الشقاء في المستقبل والأيام المقبلة .
    (
    ماض ومقبل) طباق

    رأينا أنه قد أتى بأسئلة استفهامية فيها الحيرة وفيها التقرير في بيتين ، ثم خاطب صاحبيه في بيتين آخرين وهو ينهاهما وكان مع هذا النهي الزجر الذي يحمل شيئا من شعور الضجر والملل من كثرة تكرّر هذه الأوجاع والآلام وتُعاد هي مع أسبابها وعواقبها المؤلمة ، وقد علت مشاعر الضجر في البيت الآتي وكان فيه الانفجار مع القرار ، حيث يقول :

    (
    كَــفَرْتُ بِــخَوْضِ العِشْقِ فِي حِضْنِ فَاطِمٍ=وَتُــقْتُ لِـحَوْضِ الــرِّفْقِ فِــي حِــضْنِهَا العَلِي)
    إني قد أيقنت أن لاجدوى من هذا العشق وأنه يفتح أبوابا للمتاعب ويجعلك تغرق في بحر التعلّق حتى تهلك إن لم تنفذ بجلدك وتحسم أمرك ، فهاهو يصرخ كفرت بخوض بحار العشق في أحضان المحبوبة ، واشتقت للحب الأرقى والأسمى والأنقى والأكثر راحة وأمنا واطمئنانا لحضن أمي .
    ونلاحظ أنّ العجز يأتي بعكس الصدر فالصدر يكفر فيه بهذا النوع من العشق والتعلّق الزائف والهادم للنفس والهادر للوقت ، ويؤمن بالحب السامي الرزين الذي لايجعله يتوه ويزيح عنه الهموم وهو حب أمه .

    فقد عبّر عن الحب بنوعيه بـ ( الحضن )

    (
    حضنها العلي) أي حضن الأم ، ويرمز بلفظة (العلي) أي معاني السمو والارتياح التي تجعلك شامخا وتُعزّز من ذاتك ولا تهدمها ، وبهذا الوصف هو يعرّض للحضن الآخر الذي لم يردفه بوصف وجعله محذوفا ولكن يُفهم في باب التعريض بأنه الحضن الأسفل عكس (العلي) لأن هذا النوع من العشق يهدمك ويجعلك تمشي في وهم وضياع وعلى غير هدى ويُحطّم قلبك .

    كما أنه قال في الصدر (
    عشق) وفي العجز قال ( تقت) مما يدل على أن العشق هو أحد مراحل الجنون الذي يغيب فيها عقل الإنسان ويهيم ويهذي ، وأما التوق وهو الاشتياق فهو ملازم للعاطفة الصادقة والمحبّة السويّة المعتدلة التي ترفع من الإنسان وتبني ثقته وتحفظ له كرامته وهي من المعاني الفضيلة التي يدعو إليها الإسلام ، وحتى بين الزوجين فالعلاقة إن وصلت لحدّ الجنون أوردتك للمهالك والإسلام يعلمنا في كل شيء أن لا إفراط ولاتفريط والاعتدال محمود ومطلوب حفاظا على الروح وصحّة البدن وسلامة النفس .

    ثم ينتقل بعد ذلك في الأبيات القدمة للحديث عن الأم ومشاعر فقدها والاشتياق لها والذكريات معها وهو تسلسل في الأغراض والمواضيع مترابط ومقبول .


  4. #44
    الصورة الرمزية جهاد إبراهيم درويش شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 2,675
    المواضيع : 86
    الردود : 2675
    المعدل اليومي : 0.51

    افتراضي

    عظم الله أجركم وأحسن عزاءكم وغفر لوالدتكم ولوالدينا ولجميع موتى المسلمين
    وسدد الله خطاك وأعانك وأخذ بيدك للذي يحب ويرضى
    وكعادة شعرك فرغم الوجع والحزن الذي تحمله في جوانح قلبك حلقت بنا في بحور الحكمة وقدمت لنا معلقة لامية تميزت بالعمق والجمال

    تقبل خالص الود وأعطر التحايا

  5. #45
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    بعد الحديث عن المحبوبة ، انتقل بمدخل جميل إلى حب وموضوع آخر وهو عن الأم ومدى اقتراب الأم من أبنائها واحتوائها همومهم قد لاتحتويها لا زوجة ولا محبوبة ولا صديقا ، فيقول :

    فَـــإِنَّ حَــنَــانَ الأُمِّ فِـــي كَــوْثَــرِ الــمُــنَى=أَرَقُّ وَأَنْــقَــى مِـــنْ حَــبِــيــبٍ مُــــدَلّـــلِ
    وَمَـــا الــــيُــتْــمُ إِلَّا فَـــقْـــدُ أُمٍّ وَأُمَّـــــةٍ=وَغَـــــد رُ حَــبِــيــبٍ وَامْــتِــهــانُ مُــبَــجَّـل
    يشعر الإنسان مع أمه أنه هو المدلّل ، بينما مع الحبيبة أو بعض الزوجات هو من يقوم بفعل التدليل وهي المدلّلة ، لذا قال ( أرقّ وأنقى) بمعنى أنها مشاعر جميلة وسامية تحتويها الطمأنينة في حضن الأم .
    وشبه حنان الأم بالكوثر ، والكوثر في الجنةهو أفضل وأعذب من أنهار الدنيا أجمع ، ويقصد بالكوثر هنا اي حنان الأم أعذب وانقى وأعمق من المحبوب المتدلّل ، وجعل المنى والأماني تتعلّق بحضن الأم وحنانها كونها بمحبتها لأبنائها تعينهم وتدعمهم معنويًّا بشكل كبير لبناء أحلامهم وثبات خطواتهم الأولى في الطريق .

    ثم يقول في البيت الذي يليه أن اليتم الحقيقي هو عدة أمور :
    - فقد الأم
    - فقد الأمّة : وردت عدة معاني لها منها (
    أَمَّمَتِ الدَّوْلَةُ الشَّرِكاتِ الكُبْرى : جَعَلَتْ وَسائِلَ الإِنْتاجِ وَإنْتاجَها مِلْكاً لَها
    ) وهنا قصد مايفقده الإنسان من أملاكه الخاصة أو ملكه من حكم ومنصب ..إلخ .
    - وغدر حبيبٍ .
    - وامتهان مبجّل أي إهانة وتحقير الشخص العظيم الذي يستحق التعظيم فيُستهان به ولايُعطى قدره وحقّه في زمن يعبث فيه الناس ويرفعون الوضيع ويُسقطون العظيم .

    وأعجبني الترتيب هنا واراه مرتّبا على حسب الأهمية والألولوية ، ففقدان الأم والأب هو أعظمها ثم يليه أملاك الإنسان وملكه ثم يليه غدر الحبيب ثم امتهان المبجل ، وقد يكون الأخيرين أي
    ( غدر الحبيب وامتهان المبجل) في نفس المستوى لكن أُخّر الثاني من أجل القافية .
    وهذا البيت الثاني فيه تقسيم لطيف وجميل كما قلنا حسب الأهمية .


    خُـــذَانِــي إِلَــيْــهَــا فِـــي رَحِــيــلٍ مُــعَــجَّلٍ=وَلَا تُــبْــقِــيَانِي رَهْــــنَ مَــــوْتٍ مُــؤَجَّــلِ
    خُــذَانِــي إِلَــيْــهَا إِنَّ فِـــي الـــرُّوحِ وَحْــشَةً=تُــذِيــبُ فُـــؤَادِي كُــلَّــمَا الــتَّوْقُ عَــنَّ لِــي
    خُــذَانِي فَــظَهْرُ الأَرْضِ قَـدْ صَــارَ غُــرْبَــةً=وَفِــي لَـحْـدِهَــا الــمَــعْمُورِ بِــالــبِرِّ مَــنْـزِلِــي
    الله الله .. أبيات جميلة رغم الإحساس المؤلم فيها جدا
    عاد الشاعر ليخاطب صاحبيه فيقول لهما : خذاني إلى أمي عاجلا ولاتجعلوني أبقى وأنتظر موت مؤجّل أي إلى مايحين أجلي ، وهنا استعجال الموت نابعا من شدة الألم والإحساس بالغربة والفقد وتبدّل أحوال من حوله من البشر والمجتمع إلى الأسوء وكأنه يرى أخذه إلى الموت نجاة وراحة ، ولا أرى عتبًا او ملامة في التعبير عن هذه الأحاسيس الصادقة ، بل أن المؤمن إن اشتدّت عليه الكربات وخاف على نفسه من شدة الفتن وتبدّل الأحوال له ان يدعي بما هو ماثور عن النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحينيي ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)
    ثم في البيت الثاني يُظهر مدى استوحاشه من هذا الفقد والحنين الذي قد أذاب فؤاده فلم يعد يحتمل هذا الاشتياق وهذا أحد أسباب قوله في البيت الأول ( خذاني إليها في رحيل معجّل).

    والبيت الثالث يذكر فيه سببا ثالثا وهو أن الموجودين على ظهر هذه الأرض من الأحياء قد صاروا على غير عادتهم وبدّلوا كثيرا من المناهج والمبادئ وغيّروا الطرق حتى اصبح المؤمن يشعر انه غريب وهو بين أهله ووطنه إضافة إلى الاغتراب عن وطنه مضطرا ، حتى اصبح اللحد ومن في القبور في باطن الأرض أفضل منزلا مما هم عليها ،وهذا أحد أسباب قوله في البيت الأول أيضا ( خذاني إليها في رحيل معجّل) .

    ( وفي لحدها المعمور بالبرّ منزلي) أي مكاني الذي أتمناه هو معها أي نفس مصيرها في اللحد وأنا قد عمرته وأنا حي بالبرّ وآن الأوان لأن يكون منزلي معها ، بل القبور هي منازل الناس الحقيقية بعد الحياة الدنيا ن وهذه خيرُ موعظة أوردها الشاعر وخير مشاعر صادقة عذبة تضيء بالنقاء والصفاء .

    يُــمَــزِّقُ شَــجْــوُ الـحُــزْنِ قَــلْـبِـي بِــفَــقْدِهَـا=وَيَــجْ ـثُمُ صِــنْــدِيدُ الأَسَـى فَـــوْقَ كَــلكَلــي
    وَيَــرْسُــمُ وَجْــهًــا فِـــي مَــرَايَــا تَــوَهُّــمِـي=سَـنِــيّ ــا بِــفِــرْدَوْسِ الــخَــيَــالِ الــمُــفَضَّــلِ
    تَــوَارَيـتِ يَــا أُمِّــي فَــمَا الــشَّمْسُ تَــسْتَحِي=إِذَا أَشْــرَقَــتْ دِفْــئًــا وَلَا الــبَـــدْرُ يَــأْتَــلِــي
    ثم يشرح هنا ماذا فعل الحزن به بعد فقد أمه ، وأعجبتني صورة الأسى ..
    (ويجثم صنديد الأسى فوق كلكلي)
    الكلكل :هو الثقل والضغط على صدره مما يصيبه بتعب وإعياء ، وأيضا يعني الصدر ، وهو يقصد أن هذا الأسى قد جثم فوق صدر الشاعر فأثقل عليه
    والصنديد : هو الرجل الشريف والشجاع ، ولكنه يعني بهذه الكلمة هنا بوصف (الشديد) اي ان هذا الاسى شديدا ثقيلا على صدره

    شبه الأسى بالرجل الشديد ووجه الشبه محذوف وهو اشتراكهما في الشدة وتوجيه الأوامر والضغط على من هم تحت ولايتهم أو رعايتهم أو الإثقال عليهم بالأوامر والصناديد يحتلون مرتبة ومكانة عالية في المجتمع غالبا ، وهو جعل الأسى مثل الصنديد الشديد وجعله يحتل المكانة العالية في جسده وهي الصدر فيثقله حينما يجثم فوقه ، وهو تشبيه بليغ ومجمل ، وهو من التشبيهات المميزة .

    وأظنه في البيت الثاني يُكمل فهو قال أن الحزن قد مزق شجوه من شدة الفقد ، والأسى جثم بكلكله ، وقد رسم وجها يحبّه في مرايا توهمه ، بمعنى أنه في وهمه رسم وجها من سناء في خيال الشاعر الذي وصفه خياله بالفردوس وهو وجه مفضّل لديه وقد يقصد بهذا أمه والله أعلم .
    والمرايا والتوهم قد تربط بينهما علاقة تخيّل الأشياء غير الواقعية أو توهّم حدوث اشياء لم تحدث أو تمنّي امنيات بعيدة في خياله لاتحدث ولكنه يتوهمها كمن ينظر للمرآة ويتوهم أمورا لن تحصل من الأساس ، ولكني ألمس استمتاعه وشعوره بالراحة في هذا البيت وهو يسرح ويتعمّق في خياله .

    والبيت الثالث : هو أكثر هؤلاء الثلاثة شاعرية وألقًا وكان محلّقا بحزنه عميقا في إحساسه جميلا في صورته وهي صورة الفقد والرحيل بلفظة معبّرة جدا تبعث الأسى وينهمر لها العين ( تواريتِ يا أمي) فقد اختفيت تحت الثرى ، والحياة مستمرة في ظاهرها كما هي وعبّر عن استمرارها بتعاقب الليل والنهار وأتى بما يدلّ على تعاقبهما وهو الشمس المشرقة بدفئها وهي رمز لوقت النهار ، والبدر بنوره وهو رمز لوقت الليل .
    فما الشمس استحت وغابت بعد تواريك ولا البدر اهتم ونوره مستمرا اي لم يشاركاه الحزن في فقد أمه وغيابها عنه تحت الأرض ، ولكنّ مع استمرار الشمس والبدر الظاهر فإن حزن مستمرا في داخله وإن ظهور الشمس بدفئها تذكره بدفء الأم وعطفها ، وإن البدر في الليل يبعث في داخله الاشتياق لها ففي كلا الحالتين لم يشاركانه حزنه واستمرا في الظهور ..!

    وأرى أن الشمس والبدر هذه هي طريقة مشاركتهما لفرحة الإنسان أو حزنه وهو ظهورهما وماتمنحهما للإنسان من معاني وأحاسيس .


    وَمَــــــا لِــلَــيَــالِــي لَا تَـــنُـــوحُ تَــلَــهُّــفًــا=عَـلَـ ى فَـجْــرِهَا الـمَجْبُولِ مِـنْ نُـورِكِ الـجَلِـي
    وَلَـــوْ أَنْــصَــفُوا لَاسْــتَــأْثَرُوكِ عَــلَى الــمَدَى=بِـــعِــطْــرٍ سَـــمَـــاوِيٍّ وَذِكْـــــرٍ مُـــرَتَّـــلِ
    وهنا يخاطب الشاعر أمه ، ويقول بأسلوب شاعري استفهامي تقريري : كيف لليالي لاتنوح لهفة على الفجر الذي قد جُبل على سطوع نوره الواضح ونور الفجر هذا هو مثل نورك ، فإني أتلهف إلى لقياك ورؤية نورك الجليّ الذي جُبلتِ عليه وهو طبيعتك وليس نورا مصطنعا كما يتلهف الليل لطلوع نور الفجر وصفة النور صفة ملازمة للفجر .

    وكأنما الشاعر يشبه نفسه بالليل المشتاق الذي أسودّت مشاعره من احتراق الحزن وحرائق الجراح وهو يتلهّف لهذا النور الجلي والواضح الذي يبدّد عتمته ويجعل مشاعره ساطعة مشرقة وهو نور أمه الذي شبهها بطلوع الفجر بعد ظلام الليل .

    ولو الناس كلهم أنصفوك وأعطوك حقك وقدرك يا أماه دون حدوث عقوق أو انشغال أو نسيان عنك لاستأثروا بك لأنفسهم ولزموا قدميك وقدّموك على كل أحلامهم وأمنياتهم وأعمالهم وأزواجهم ... إلخ ، ولجعلوك كالعطر النقيّ النديّ الخالص ومثل الذكر والقرآن الذي يرتلونه دوما .

    ( بعطر سماوي) أ ظنه خصّ العطر بصفة سماويّ كونه نقيًّا نديّا طبيعيّ الرائحة كالمطر ،دون روائح صناعية ومركّبة ومختلطة بل هو عطر نقي طبيعي خالص كروائح الطبيعة الخلاّبة وكرائحة ماء المطر .

    ( ذكر مرتّل) وصف الأم بذلك وهو يريد أنهم لو أنصفوا واستأثروا الأم لأصحب على ألسنتهم مثل الذكر المرتّل ويقصد : ذكر الأم والحديث عنها في الأشعار وفي الكتابات ومع الجميع يصبح ذكر الأم كأنه قرآن مقدّس يرتّل من عظمة حقها وأجر برّها.
    وهذا معنى لايخرج أبدا عن المعاني المأمور بها المسلم في القرآن عن برّ الوالدين وعظمة مرتبتهما التي استهان فيها الأغلبية أو تناسوها أو هجروها وقدّموا عليها الزوجة والحبيبة والأصدقاء وغيرها من الأمور التي يحبوها .

    لِـمَـنْ يَــسْــتَرِيحُ الــنَّــحْلُ يَــا أُمِّ فِــي الــرُّبَــى=وَكُــلُّ شَــذَىً مَـهْمَـا يَـفِ الــعَهْدُ يَــخْــذُلِ
    تَـشَــظَّيْتُ كَــالــبِّلَوْرِ بَــعْــدَكِ فِـــي الــقُـرَى=فَـــمَــا لِــــيَ بَــعْــدَ اللهِ إِلَّاكِ مِـــنْ وَلِـــي
    وَمَـــا زِلْـــتُ يَـــا أُمَّـــاهُ كَــالطِّـفْــلِ كُــلَّمَــا=ذُكِـرْتِ جَـرَى فِــي مُـقْلَةِ الــعَطْفِ فُــلفُلِــي
    وفي هذه الأبيات يشكو الشاعر لأمه ويقول لها ..

    كيف يستريح النحل النشيط في الربى وهو كلما أدى عمله وجد أن شذى الأزهار كلما فاحت خذلته إذا ذبلت ، وهو يستمر في اللف فوق الربى للمحافظة على حياة الجميع وعلى تعاونهم واجتهادهم .
    وقد أرى أن الشاعر شبّه نفسه بالنحل ، وجعل الربى هي مملكته والأزهار هي من يعتني بها ليتعاونوا معه ولكنّ بعضها قد يستمر شذاها فترة ثم تذبل والذبول هنا لايعني الموت بل هو فقدان النشاط والرقود والتكاسل عن التعاون وتحقيق الأهداف والإنجازات التي تخدم الجميع وترفع من شأن المجتمع ،مما يُشعره بالخذلان .

    ثم يقول في البيت الذي يليه : أني بعد فقدك يا أمي أصبحك كالبلّور المتشظّي الذي قد فجّره الحزن والأسى فتناثرت شظاياه على القرى ، فمالي بعد الله في هذا الحالة إلا عطفك وحبك وحنانك واحتوائك .

    وهذا البيت نستطيع إسقاطه على أمة الإسلام وكيف يفجّرها الأعداء ويفجرون بعضهم البعض بالكيد والحقد والمشاكل الداخلية إضافة إلى الخارجية حتى اصبحت هذه الدول والقرى الإسلامية كأنها شظايا ، ولكن المعنى الأول هو الأقرب والأنسب والظاهر ، وهذا قد يكون معنى ابعد يتعلّق بأبيات قادمة يتحدث فيها الشاعر عن المجتمع وكأن إحساسه بأمته كحبل متين متصل مع مشاعره الخاصة .

    ثم يخبر أمه أنه مازال كالطفل الذي تكثر احتياجاته ويعتمد على أمه ويريدها ويستشيرها في كل شيء فيقول :
    أني كالطفل يا أمي كلما ذُكرتِ أو ذُكر اسم الأم جرى في مقلة العطف حنينا وفقدا لك

    وقال هنا ( جرى في مقلة العطف فلفل)
    وصف المقلة بالعطف وذلك لأنه حينما تُذكر سيرة الأم يرقّ قلبه فيشتاق لعطفها فيحنّ وتتبع العين والمقل قلبه فتبرق وتلمع احتياجا لعطف أمه وتنزل الدموع وكأنها حبات فلفل .

    وهنا إما أنه يقصد بالفلفل :
    - صفة لدمع مقله أي أن دموعه نزلت ساخنة حارقة من عِظم مايشعر به من ألم وفقد ووجع .
    - أو أنه يشبه حبات دموعه التي تسقط بشجر ثمر الفلفل (وهو شجر معمر متسلق أو زاحف ويكون ثمره كحبات صغيرة جدا ذات لون أخضر أو أحمر) فحجمه قد ينفع تشبيهه بحبات الدموع التي تبدأ بالخروج من مقل العين كالفلفل أو البلورة في بداية خروجها وسقوطها ، وهو تشبيه جيّد .



  6. #46
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,101
    المواضيع : 317
    الردود : 21101
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    رحم الله والدتك وطيب ثراها ـ أدعو الله أن يرحمها برحمته الواسعة،
    وأن يسكنها الفردوس الأعلى
    ما أجملها من قصيدة رائعة البيان والبديع، والمعاني والعبارة، والعاطفة، والسبك والجرس
    ذات مضمون راق، وحس نبيل، ونفس طويل، وفكر ناضج، وأسلوب رائع
    أحسنت وأجدت هذه الرائعة التي تقطر ألما، وحبا ووفاء وبرا
    دامت حروفك متوهجة بنبض إحساسك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    وشكرا لبراءة الجودي على رؤيتها النقدية الرائعة.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  7. #47
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي

    تَــــبَــدَّلَ كُــــلُّ الــرَّهْــطِ يَـــا أُمِّ خِــلــفَةً=وَلَـــكِــنْ فَـــتَــاكِ الـــحُــرُّ لَـــمْ يَــتَــبَــدَّلِ
    هنا بدأ الشاعر يسردُ حال ووضع الأمّة الإسلامية وبالمقابل يذكر خلالاً فيه كان من المفترض أن يثبت عليها المسلمين لأنها من نهجهم ولكنهم خالفوها ، بينما هو كما أوضح في الأبيات التزم بها ولم يبدّلها أو يغيّرها لأنه يراها طريقا للصواب .
    وقد أعجبني إثبات فعل التبدّل في بداية الصدر ثم نفي فعل التبدّل عن نفسه حيث بثبت لنفسه العكس ، وهذا الإثبات والنفي يوحي بتوكيد المعنى الذي أراده الشاعر .

    حَــصَدْتُ رَوَابِــي الــحُلْمِ لَــمْ يَبْقَ لِي سِوَى=وُرَيْــقَــاتِ عُــمْــرٍ مِــنْ سَــرَابٍ وَسُــنْبُـــلِ
    أَسِــيــرُ كَــأَنِّــي أَفْـــرشُ الـــدَّرْبَ وَحْــدَةً=وَأَسَـــرِي كَـــأَنِّــي دَرْسَ بِــئْــرٍ مُــعَــطَّـــلِ
    أُمَــارِسُ طَــقْسَ الــنَّزْفِ بِــالعَزْفِ شَاعِرًا=وَأَرْوِي بَــسَــاتِــينَ الــنُّــهَى مَـــاءَ جَــدْوَلِــي
    وأُسْــرِجُ قِــنْــدِيلَ الــحِــجَا زَيْـــتَ حِــكْمَتِي=وَأَمْـــلَأُ طِـــرْسَ الــعِلمِ مِــنْ فِــكْرِ فَــطْحَلِ
    رِكَــابِــي احْـتِـسَابِي فِــي اغْـتِرَابِي وَرِحْــلَتِـي=عَـــلَــى هَــرَجِ الأَنْــفَــاسِ رَيَّـــا قَــرْنَــفُـــلِ
    ثم يتحدّث الشاعر عن طريقه في سبيل تحقيق حلمٍ شريف له ، فهاهو يحصد روابي الحلم اي حقّق أغلبها ولم يبقَ له إلا مجرد نزر يسير من العمر وسراب الدنيا وجمالها الذي يرمز إليه بـ (
    سنبل) .
    وقد يكون مصدر جمالها هو في أمله لتحقيق ماتبقّى من أحلام وأهداف بقدر ما يستطيع ، وكما هو معلوم عمر الإنسان محدّد وهو يحاول أن يستغله فيما يكون نافعا ويترك أثرا طيّبا وصالحا بعد الرحيل ، وشبه الحلم بالروابي ووجه الشبه محذوف وهو المساحات الواسعة الممتدّة التي لاتكون محصورة وجمال اخضرارها وخصوبتها فالأحلام تشبه الروابي في ذلك ، وهذا تشبيه مؤكّد ومجمل.

    ثم يعبّر في البيت الثاني عن وحدته بالسير في الدرب وكأنه هذا الدرب مفروش بالوحدة ، وهذا التصوير يُعطي الإحساس الهائل بحجم هذه الوحدة التي يشعر بها الشاعر، وفي العجز يمُثّل نفسه مع وحدته في صورة بئر معطّل أي مهجور ، وليس ذلك فحسب إنما قد دُرست معالم هذا البئر وكأنه يقول أن هذه الوحدة الكبيرة التي يشعر بها جعلته وكأنه من الأطلال المنسيّة ، والأطلال غالبا تكون قيّمة وثمينة ولايشعر بقيمتها إلا ذوو الأصل والشرف من يُقدّرون القيمة الحقيقة ويتركون المظاهر المزيّفة .

    وفي البيت الثالث .. رغم حالته السابقة والإحساس بالوحدة إلا أن ذلك كان شعورا ملهما له فجعل شعره الذي يعزفه كالطقس الذي تكون فيه الغيوم ماطرة ، وقد رمز لذلك بــ (
    النزف) فالنزف هو مايسيل من الدماء بكثرة إن جُرح الإنسان، وليس يسيل في تغيرات الطقس إلا ماء الغيم وهو المطر ، وكما يستمتع الناس بتغيّر الطقس ونزول المطر فإنهم يسعدون ويستمتعون بشعر هذا الشاعر الذي يعزف وإن كان عزفه فيه مافيه من ألم وأسى وحزن يحسّون به نابعة من جراحه النازفة .
    وبين النزف والعزف ( جناس ناقص)
    ثم في العجز يقول أنه من خلال عزفه للشعر فهو يروي بساتين النهى أي اصحاب العقول الوارفة الذي تحبّ كل جميل يرتوون من ماء جداوله العذبة ، ففي الصدر جعل عزفه كالطقس الماطر النازف وفي العجز جعل شعره كماء الجدول العذب يروي أولي النّهى .

    وفي البيت الرابع : يقول أنه يسرح قنديل الحِجا بزيت حكمته ، والِحجا هو العقل الذي يحاول دوما قول الألغاز واكتشافها وحلّها ،
    وكأنما يقصد الشاعر قصائده الذي يجعل أبياتها كاللغز فيأوّلها ويحاول القراء اكتشاف معانيها عن طريق تأويلات متعدّدة ، وهذه الأبيات أغلب مصدر نورها هو زيت الحكمة .
    ثم يقول في العجز وأني أملأ طرس العلم أي اوراق العلم بفكر نيّر عظيم ، والفطحل هو السيل العظيم أو صاحب الحجم الممتلئ وأيضا الغزير العلم ، فهو يريد أن يقول أنّ فكره غزيرا عزيما يملأ به أوراق العلم وتجدها أيضا منعكسة في مرآة قصائده .

    ثم يقول أنه في سبيل هذا العلم والفكر يركب ويغترب ويرحل محتسبًا الأجر ، وفي رحلته هذه يكون أثر كلامه وفعله وقصيده مثل أنفاس القرنفل ورائحته ، وهو يشير بذلك إلى انتشار الذكر الحسن عنه والله أعلم .


    مـكِــبًّا عَــلَــى الآدَابِ أَسْـمَــو إِلَــى الــعُــلَا=بِــمِــنْــه اجِ ذِي عَـــدْلٍ وَمِــعْــرَاجِ مُــرْسَــلِ
    شَــرِيــفًــا عَـــلَــى الــعِــلَّاتِ لَا يَــسْــتَخِفُّنِي=حَــسُ ــودٌ وَلَا يَــــهْــتَــمُّ لَــيْــثِــي بِــتَــتْــفُلِ
    أُنَــافِــحُ مِـلْءَ الـــذَّوْدِ عَـــنْ كُــلِّ شِــيمَـةٍ=وَأَصْــفَــحُ مِــلْءَ الــهَــوْدِ عَــنْ كُــلِّ أَعْــزَلِ
    فَــأُنْــكِــرُ مِــنْ قَـــوْمِــي تَــوَاكُــلَ غَــفْــلَـــةٍ=وَيُــنْـ كِــرُ مِـــنِّــي الــقَــوْمُ جُــهْــدَ الــتَّــوَكُّلِ

    في البيت الأول
    : يُكمل في هذه الأبيات طريقه وانشغاله بالآداب بمنهج عادل متبعا الكتاب والسنة ويدعو إلى مافيهما من أقوال وأفعال وصفات وفضائل وأخلاق وهذا كله يسمو به إلى العلا فما حقيقة الفنّ والأدب إن كان بعيدا عن الفضيلة والخير .

    ثم يقول أني أعلو وأسمو وأجتنب العلاّت والمآخذ وأكون شريفًا لا أنزل إلى المستوى الأقل كي لا أسقط في حفر الخلل الخُلُقي والفعلي مما ينقص من شرفي ومروءتي ، وكذلك لا يستخفّ عقلي حسود لأرد على كل رميه وقذفه عني ، ولا يهتم الليث أي الاسد بمكر الثعلب ،
    وهو يُكنّي نفسه بالأسد وعدوّه الحاسد بالثعلب ، وصفات كل منهما معروفة .

    ثم يقول أنه ينافح أي يدافع عن كل الشيم والأخلاق التي تبدّلت عند رهط من الناس فيقومون بمحاربتها وتغيير جوهرها أو التخلّي عنها وهو يحاربهم بالمنافحة عنها ، وأنه يصفح عمن هو أعزل اي جاهل أو تائب عائد إلى الصواب والتمسّك بهذه الشيم .

    والهود من معانيه الهائد أي العائد التائب ومن معانيه البطئ في السير والترجيع في الغناء والسكون واللين والرقّة في الأصوات وفي المشي .
    وربما يقصد أن يشبه الصفح عن كل أعزل بالهود حيث أن الصفح يُلقي في القلب سكونا وهدوئا أو إحساسا مريحا .

    في البيت الثاني : يقول أنه ينكر على قومه خطأ الاعتماد على الغير والرقود وقلّة الصنعة والإنجاز ، وهم يُنكرون على الاجتهاد وتحمل المسؤولية والنشاط والإنجاز ، وكأن هذه الصفات التي تبدّلت عند بعض أمّته اصبحوا يرون الفضل والخير في العكس أي في القعود ويُنكرون الصحيح بحجّة أنه تعب وصعب ولابد من الراحة الطويلة والتي في حقيقتها همة وعزم قد فترا .


    إِذَا كُــنْــتَ ذَا عِـــلــمٍ وَحِـــلْــمٍ وَفِــطْــنَــةٍ=فَــلَــ ْتَ سِــوَى مُــسْــتَنْكَـرِ الــقَدْرِ مُــهْمَــلِ
    وَإِنْ شِــئْــتِ عِـــزًّا يَـــا صَــبــيَّةَ فَــارْقَصِــي=وَإِنْ شِــئْتَ مَــجْدًا يَــا ابْــنَ لَــهْوِكَ فَــارْكُلِ
    فَـــكُــلُّ نَــفِــيسٍ أَرْخَـــصَ الــجَــهْلُ دُرَّهُ=وَكُــلُّ خَــسِــيسِ زَيَّــنَ الــحَــالَ بِــالحُلِــي
    يَــقُــولُونَ مُــغْــتَرٌّ شَــقَــى الــوَهْــمُ كَــدْحَــهُ=وَلَــيْــسَ لَــهُ فِــي الــصَــوْبِ غَــيْرُ اَلــتَبَلُّـــلِ
    وَمَـــا أَنَـــا إِلَّا تــكْسِفُ الــشَّمْسَ هَــالَتِـــي=وَلَا ذَنْــبَ لِــي إِنْ لَــمْ يَــرَ الــبَدْرُ أَرْجُــلِــي
    وَإِنِّــــي عَــلَــى مَـــا يُــعْــجِزُ الــفَــذَّ قَـــادِرٌ=بِـــأَبْــرَا ِ عَــقْــلٍ ضَـــمَّ أَلْـــفَ عَــقْــنَقَــلِ
    ثم يخاطب القارئ هنا وكأنه ينبّهه على أمر قد يستغربه فيُخبره بالتجربة أن لايستغرب إن رأى الإنسان من نفسه أنه صاحب علم وفطنة أن يكون يُنكر غيره ذلك عليه ويهملونه ،كو
    نهم يفكرن بعقلية سطحية مختلفة فثيابهم تختلف عن ثيابه وفكرهم يختلف عن فكره ،اختلافا كبيرا ليس الاختلاف بين الآراء الذي يكون معم على نفس الطريق بل مبثابة اختلاف عقيدة عن عقيدة تحتاج إلى فرمتة وتغيير في تلك العقول التي تبدّلت افكارها وأخلاقها .

    في البيت الثاني :ثم يخاطب الصبيّة البنت فيقول لها إن أردت العزّ والغنى فارقصي وتفسّخي وتخلّي عن حيائك ستجدين العزّ بين الأراذل والسفهاء،
    وهذا أسلوب ساخر ، لأن العز لن يكون إلا بالستر والحجاب والفضيلة والهمة وفي أمور الخير والحق .

    ثم يقول في عجز البيت (
    وإن شئت مجدا يا ابن لهوك فاركل) إن شئت المجد أيها الصبي أو الشاب فاغرق في اللهو والملذات والشرب واركل كل فضيلة وشيمة وخير .
    وهو أسلوب ساخر أيضا لأن طريق المجد هو في البعد عن الملذات وترك المحرمات والالتزام بالهدى والفضائل .
    وكلمة (اركل) ترمز إلى الطيش واللا مبالاة وعدم احترام الغير وعدم إعطاء كل شيء حقه وقدره .

    في هذه الأبيات نلاحظ أن الشاعر أتى بصفات القوم الذين تبدّلوا في أخلاقهم وأفعالهم وهو كما قال إن أردت العز فارقصي وإن شئت المجد فاركل ، وإنك سوف يُنكر عليك ويهملوك إن كنت صاحب علم وقدر وفطنة ثم يأتي ببيت آخر كمثال على تبدّل حال هذا الرهط.
    فيقول في البيت الثالث : إنّ كل ثمين نفيس جعلوه رخيصا وبخسوا حقه وما ذالك إلا للجهل الذي يقود إلى السفاهة والظلم ، وإن كل خسيس تزيّن في ظاهره بحليّ رخيصة تُرضي أذواق السفهاء فقد اعتبروا ثمينا ومُقدّرا عندهم .

    ثم يشير الشاعر في البيت الرابع إلى قولهم عنه ويردُ على هذا القول بإثبات الصفات الحميدة فيه وهو قولهم أنه مغترّ يتبع وهمه ولم ينل من مقصده وهدفه والطريق الذي يتجه إليها إلا مقدار قليل كما يتبلّل ثوب الإنسان بقليل من الماء ، وقولهم هذا في بخس وتقليل لحقّه وقدره .

    فيرد عليهم في البيت الخامس
    : ما أنا إلا مثل الشمس المضيئة إن مرّت عليها حالة من حالات الكسوف ، أو أنه يقصد بذلك أن من شعاعه وضياء هالته تكسف أي تخجل الشمس حين رؤية تلك الهالة لعظمها وقدرها وهو تشبيه مقلوب ، ثم يقول وليس لي ذنب إن لم يرّ نور البدر في ظلمة الليل ارجلي وهي تسير في طريق الهدى والفضائل وتسعى إلى المحامد وكل مايُشرّف الإنسان من علوّ وبذل همّة والله أعلم .

    ثم يتحداهم في البيت السادس : أي من يقولون عليه أنك ما أصبت مما تريد إلا بمقدار التبلل ن فيقول ما أنا إلا قادر على كل مالم يقدر عليه الأفذاذ ، وذلك بمقدرته العقلية ومامنحه الله من ذكاء وقدرة تحمّل وهمة وصبر .

    وشبه عقله بالأبراج ثم قال أن عقله ضمّ ألف عقنقل ( والعقنقل) هو الكثيب العظيم المتداخل من الرمل أو الوادي العظيم المتسع .

    ولو نظرنا فإن الأبراج تكون مرتفعة على سور المدينة ومنها يراقب الجنود وأهل الفلك .

    ويقصد الشاعر أن عقله قد ارتفع درجات فهو في سموّ وعلو لذا يختلف عن عقلية غيره في طريقة تفكيره وأسلوب حياته وأن عقله هذا يوجد به عدد كبير من الكثبان العظيمة أو الوديان المتسعة وهو دلالة على قوّة تفكيره وحنكته وحكمته وغزاره علمه وأفكاره التي تُلهم غيره .

    وكلمة ( ألف) هو عدد يستعمله العرب للدلالة على الكثرة فيتم تصوير هذه الكثرة العظيمة بهذا العدد ( ألف) أو (ألف ألف) ، كما نقول في عصرنا مليون دلالة على تصوير الشيئ الكثير جدا ، وهذا التصوير الأخير كان جميلا ومميزا .

    فَــيَــا لَـــيْــتَ قَـــوْمِــي يَــعْــلَمُونَ وَلَــيْــتَنــِي=أَرَى عِــنْــدَ دَأَبٍ نَــاهِــضٍ مِـــنْ مُــعَــوَّلِ
    ثم هنا يتمنّى وقد تكون أمنية بعيدة أن يعلم قومه حقيقة تبدلهم ويبصرون طريق الصواب ويرجعون عما هم فيه من رقود ، ثم يتمنى مرة أخرى أن أن يجد من يعينه وشخص يُعتمد عليه نشيط ودؤوب ينهض بهمّة لإكمال السير نحو المجد وبنائه .


    وَيَـــوْمَ جِــدَالٍ إِذْ عَــقَرْت عَــنِ الــهَـــوَى=فُـــؤَادِي فَـــلَــمْ يَــجْــمَــحْ وَلَـــمْ يَــتَــجَمَّلِ
    يُـــرَاوِدُنِـــي عَـــــنْ دَمْــعَــتَــيهِ بِــبَــسْــمَةٍ=تُــذِيـ ُ نِـيَــاطَ الــصَــدِّ فِــي صُــمِّ جَــنْــدَلِ
    فَــقُــلتُ وَفِـــيٌّ أَنْــتَ مَـــا زِلْـــتَ بَــعْدَمَــا=جَــفَــتْـ كَ الَّــتِـــي هَــيَّــجْــتَهَا بِــالــتَــغَـــزُّلِ
    وَهَل عُدْتَ بَعْدَ الوَصْلِ فِي السُّخْطِ وَالرِّضَا=بِــغَــيْــرِ عَــقَــابِــيــلِ الــهَــوَى الــمُـتَــمَلْـمِـلِ
    تَــطُوفُ بِــضَبْحِ الــشَّوْقِ فِــي سَأْمَةِ الدُّجَى=كَــأَنَّــكَ جُــرْحُ الــوَقْتِ فِــي رَأْسِ بَــرْجَلِ
    ثم يقول أنه في يوم من أيام جداله مع محبوبته قد عقر هواه أي ذبحه ولايريد عودة هذا الهوى إلى قلبه ، ولكن فؤاده خالفه
    فهو لم يجمح أي لم يتوقف بل سار ، ولم يتجمّل أي لم يصبر تهدأة صاحبه له ولم يتلطف بفؤاد صاحبه إنما خالفه للتوجّه نحو هوى المحبوبة ، وهذا يعيد له الذكرى فتدمع عينيه ويبتسم بمحبة ويعذبه الشوق والحنين فيذوب نياط الصدّ وهو يقصد العرق المتصل بالقلب والقلب هو الذي صدر منه الصدود فنسب العرق للفعل الصادر من قلبه وقت الجدال والغضب واتخاذ قرار الصدّ وعقر الهوى ، فهذا الفؤاد وذكرى هواه والسير نحوه والشوق أذاب نياط الصدّ ( في صم جندل) أي الشيء الشديد العظيم ، وكأنه يشبّه نفسه بعد عقر هواه بالصخرة الصمّاء الشديدة إلا أن هذا الحنين والاشتياق والذكرى الذي عاد بالهوى إلى فؤاده أذاب نياط قلبه وجعله ليّنا بالحنين لمن يحب .

    ثم يخاطب الشاعر فؤاده ويقول له أنت مازلت وفيًّا رغم جفاء محبوبتك ، ويقول في البيت الذي يليه على شكل شكل استفهام تقريري : أنت لم تعد بعد الوصل في كلا الحالتين في السخط والرضا بغير العداوة والدواهي من هذا العشق .

    ثم يقول إنك يافؤادي تطوف بالشوق في الليل وقد غلبت السآمة من بعد الحبيب وجفائه ولم تعد تصبر لوصاله وإنك بهذه الحالة التي تطوف فيها والطواف يستلزم الدوران الكامل، وشبه هذا الطواف برأس برجل,
    رأس برجل :وهي الآلة الهندسية التي تُرسم بهال الدوائر والأقواس .
    وهذا كله نتيجة للجرح الذي تعاني منه ويجعلك تدور وتطوف هذا الوقت كله .

    بِــلَــيْلٍ رَهِــيفِ الــنَّوْحِ يَــنْسَــلُّ مِــنْ يَــدِي=كَــمَنْفُوشِ عِــهْنٍ لَــمْ يَــذُقْ طَــعْمَ مِــغْــزَلِ
    حَـــوَارِيِّ إِطْـــرَاقٍ مَـــجَــازِيِّ مَــنْــطِــقٍ=طُـــفُــو ِــيِّ إِلْـــحَـــاحٍ ضَــبَــابِــيِّ هَــيْــكَــلِ
    إِذَا جَـــنَّ أَلــقَــانِي إِلَـــى جَـــوْفِ غُــصَّةٍ=وَإِنْ حَــنَّ أَبْـقَــانِي عَــلَــى غُــصْنِ مُــمْحــلِ
    يُــسَــامِرُنِي كَــيْ يُــوقِــظَ الــوَطْــرَ بِــالأَسَى=عَــلَــى فِــكْــرَةِ الـنَّـهْرِ الَّــذِي فِــيَّ يَــصْطَلِــي
    وَإِنِّــي وَهَــذَا الــلَّيْلُ كَــالصَّوْتِ وَالــصَّدَى=وَكَــاَلــض ــوْءِ وَالــظِّــلِّ اشْـمَــخَــرَّا لِـمُـخْــتَلِ
    وَمَــــا الــلَّــيْــلُ إِلَّا تُــرْجُــمــانُ سَـــرَائِــرِي=وَسُــبْـ حَــةُ أَفْــكَــارِي وَحِـنْــطَــةُ مُــنْــخُلِــي
    وَمَــهْــمَــا تَــمَــطَّــى بِــاَلــهُــمُومِ فَــإِنَّ لِـــي=فَــرَادِيــسَ صَـفْــوٍ مِــنْ خَــيَــالٍ مُــحَــجَّــلِ
    ثم يصف الشاعر هنا الليل والليل له علاقة بالشوق والحب لذا كل الأغراض والمواضيع هنا متناسبة وكأنها موضوع واحد لترابطها ..

    فيقول ليل الاشتياق هذا رهيف جدّا وشبّه رهافته بالعهن المنفوش أي القطن على حالته ولم يترتّب ويهذّب والقطن رقيق وخفيف جدا ، ويقصد بذلك وصف نفسه فهو يرى نفسه في هذا الليل المرهف لعظم شوقه فيه وجرحه وأساه لبعد المحبوبة وهجرها وكأنه عهن منفوش لم تلمسه يدٌ حانية لتغزل خيوطه وتفتلها وتلفّها وترتّبها .

    ثم يصف نفسه في البيت الثاني وهو عبارة عن صفات قسّمها الشاعر بين صدر وعجز فيقول : أنه (
    حواري إطراق) أي إطراقه يدلُّ على نقائه و صدق في موالاته لذا ناسبه هذا الإطراق وهو إطراق المخلصين والأوفياء والنبلاء .
    (
    مجازيّ منطقٍ) أي منطقه ومنطوقه يعتمد على المجاز والتلميح والصور الفنيّة التي تجعل الخيال خصبًا والله أعلم
    (
    طفوليّ إلحاح) أي هو مثل الطفل في إلحاحه وحاجته في تلبية رغباته .
    (
    ضبابيّ هيكل) اي نوره الوهّاج يتوقّد في قلبه ، أما هيكله الشكليّ فهو ضبابي من الحزن والوحدة والألم ولا يلحظه إلا من يقدّر قيمة الإنسان وروحه وفكره .

    ثم يقول أن الليل إذا جنّ أي أتى ألقاني في جوف أغصّ فيه من البكاء والحزن خصوصا من الاشتياق ، وإن حنّ عليّ هذا الليل جعلني على غصن ممحل كالعصفور الذي لايستطيع التغريد وفقد حلاوة الحبّ .

    (جنّ وحنّ) بينهما جناس ناقص


    (
    يوقظ الوطر بالأسى على فكرة النهر الذي فيّ يصطلي) يقول إن هذا الليل يوقظ وطره أي حاجته بالأسى ، وكأن الأسى هو عامل من العوامل التي تجعل أنهار الأفكار تعبر عقله ليلا فيصطلي بها وتظهر آثار الاسى واضحة في قصائده .

    ثم يقول أنه وهذا الليل وكأنهم اصحاب كالصدى الذي يلازم الصوت ، فيقول أنه هو الصوت والليل هو الصدى لأنه قال قبل هذا الوصف
    (وإني وهذا الليل)
    ، ثم قال أنه كالضوء والليل هو الظل فقد اشمخرّا وامتدّت قامتهما وعنقهما رفعةً وسموًّا لكل مختلٍ صافي الذهن والنفس .

    ثم يقول
    ما هذا الليل إلا بمثابة شخص يترجم كل ماخفي في نفسي ولم أبده لأحد ،فالسريرة هي بواطن الإنسان والذي يظهر شيئا منها أو حقيقتها إذا كان في خلوة مع نفسه فهذا الليل يترجم سرائري .

    وهو أيضا بمثابة سبحة لأفكاري ،جعل أفكاره العظيمة بمثابة الأذكار المقدّسة التي يرددها المسلم وهو يمسك السبحة وهو يريد بذلك كما قلنا عظمة أفكاره التي تحافظ على الفضيلة والهدى ومن يقراها يجد فيها الحكمة ويجد منها السكينة .

    ويقول أن هذا الليل ايضا هو (
    حنطة منخلي) أي مانقّاه من الشوائب فشبه افكاره بالحنطة ووجه الشبه هو فائدتهما العظمى لصحة الإنسان فكا يصح بدن المؤمن باختيار الغذاء السليم يصحّ عقله باختيار الفِكر السليم الخالي من الشبهات والعِلل ، وهذا البيت جميل في معانيه .


    ثم يقول أن هذا الليل مهما تمطّى وتأخّر ولم يرحل فلن يقتلني فيه الأسى وإن بلغ مني كل مبلغ ، وذلك لأنّ لدي في قلبي وفكري فراديس أي جنان فيها مالذّ وطاب من الخيال المحجّل أي المشرق المضيء والفكر العظيم والخلق النبيل والحرف الأصيل .

  8. #48
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.10

    افتراضي


    وَيَــوْمَ امْــتَطَيْتُ الــصَّمْتَ فِــي أَوْجِ دَهْشَةٍ=بِـــأَنَّ الـــرَّزَايَــا كِـــدْنَ حَـــدَّ الــتَّــوَغُّــلِ
    أَدُوسُ عَــلَــى الــبـنْــزِينِ وَالــرِّيــحُ تَــقْــتَفِــي=بِــأَنْـ فَاسٍ مَــذْعُــورٍ مِــنَ الــمَوْتِ مُــذْهَــلِ
    كَــأَنِّــي أَشَـــقُّ الأَرْضَ مِـــنْ أُمِّ رَأْسِــهَــا=لِأَدْفِـــ َ هَـــمِّــي فِـــي زَئِــيــرٍ مُــجَــلجــلِ
    أُحَـــدِّقُ فِـــي الآفَـــاقِ وَالــهَدْءُ صَــاخِبٌ=بِـــزَفْــرَةِ حُـــرٍّ لَا يَـــرَى الــعَــدْلَ يَــعْــتَلِــي
    في البيت الأول تشبيه حيث شبه الصمت بظهر الخيل الذي يُمتطى ، وهذا الامتطاء المفاجئ للصمت كان عن اندهاش وعجبٍ من أمر هذه الرزايا التي تجمعت عليه وكادت تتوغل وتضيق عليه أنفساه فتقتله ، ومصدر الدهشة هو النجاة منها بعد أن كادت تتوغل وتطرحه صريعا من ثقلها .

    وهو تعبير جميل بألفاظ راقية (
    امتطيت ، أوج ، دهشة ، الرزايا) كلها اختيارات تدلّ على الذوق الفنيّ والإحساس المرهف لدى الشاعر .

    ثم يقول أدوس على البنزين ، وهذا الدوس غالبا لايصدر إلا من إنسان مذهول أو متوتر أو غاضب والأقرب هي الحالة الأولى وهي الذهول والذعر من هذه الرزايا التي كادت تُهلكه ، فالموت مهما أيقنّا وآمنا بحقيقته إلا أنه مصدر من مصادر الحزن لفراق الأحبة والجمال الذي عاشه الإنسان في الدنيا وهو لاشك لايساوي قدر أنملة من جمال الآخرة لكنه إحساس يُذهل كل البشر ويُذعرون منه

    وجميل قوله (
    بأنفاس مذعور) فهذا دقة في الوصف حيث أنّ الشعور بالذعر يجعل الأنفاس مضطربة فعلا .

    رغم أن الكثير يرى عدم استعمال المصطلحات العصرية كما هي أي التي لم تُعرّب ولم تترجم إلى العربية ولم نجد لفظا فصيحا لنستنغي عنها لا أرى بأسا أحيانا في إدخال بعض الكلمات التي تدلّ على العصر الذي عاشه الشاعر ولكن لايكون هذا استعمال دائم له في قصائده بل من باب التغيير أحيانا .

    المهم أن لايكون بابا سمير من هذا الذهول قد خالف القانون بالسرعة الزائدة والتفحيط الشبابي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


    ثم يقول : (
    كأني أشق الأرض من أم رأسها = لأدفن همي في زئير مجلجل)
    هذا البيت جميل في تصويره وفي معناه ، فهو يقول أني بسبب هذا الذعر كأني أشق الأرض من أساسها وهذا يعكس شعور الذهول لديه الذي أفقده التركيز فما كان منه إلا أن يستعمل لفظة السرعة وما في معناها للتعبير عن ذلك ، وقد أجاد ، وأكد هذا في العجز في قوله (
    لأدفن همّي) فبقيادة السيارة بهذه السرعة قد يُنسيه ويخفّف ذعره ويدفن همه ، وأمر آخر يجعله يدفن همه وهو ( الزئير المجلجل) !

    قد يتساءل أحدنا ، كيف لهذا الزئير أن يدفن همّه بل أنه قد يبينه أكثر ؟

    و أقول ..
    أنّ الأسد حينما يزأر يُخيف السامعين بصوته المجلجل القويّ ولن يميّزوا ماباعث هذا الصوت !
    فكم من قائد ومدير صرخ صرخة مجلجلة يأمر وينهى وفي داخله همّ عظيم مكبوت داخله، فيظهر همه بطرق غير مباشرة بحيث يبدو أمام الأعين قوي محافظ على شدّته وصرامته بينما في داخله يصرخ ألما أو ذعرا ، ولن يكشف باعث هذا الصوت غالبا إلا المقرّبين منه ومن يفهموه .

    وهنا مما فخّم حجم هذا الصورة هو اجتماع الصوتين انشقاق الأرض من الذعر ودفن الهم عن طريق صوت الزئير المجلجل فهي قوتان إن اتحدتا زُلزل أمامه كل باطل وتهاوى كل فاسد .

    وقد يسأل احدهم ماعلاقته بالباطل والفاسد ؟
    فاقول : لو تأملنا الصورة لوجدنا وإن استعملت في هم وذعر خاص إلا أنّا نستطيع إسقاطها على قوّة الحق الذي يشقّ الأرض فيهزّ كل باطل ويزأر هذا الحق بصوت مجلجل يفرح له المؤمنون ويذعر منه المنافقون ويخشى منه الكافرون .

    ( ربما خيالي شطح ، لكني ألمح هذا التفسير البعيد من خلال استعمال الألفاظ القوية والاصوات شديد العلوّ التي تصمّ الأذان من شدتها في هذا البيت ) .

    ومما يؤكد تفسيري البعيد هو البيت الذي يليه حيث قال (
    أحدّق في الآفاق والهدء صاخبٌ = بزفرة حرّ لايرى العدل يعتلي)
    بعد ما أخرج هذا الزئير المجلجل وأعتبرها زفرة هي من زفرات الأحرار الذي يشعرون بارتياح قليل بعدما صرخوا في وجه الظالم بالحق مع استمرار الحزن والأسف على واقع الأمة وحالها مما هي فيه من ذل وهوان ، فما كان منه إلا أن يعود للتحديق المستمر في الأفق وهي صورة تدلّ على الطموح والأمل والسعي للمجد بعزم الرجال وأصحاب الهمم .
    والهدء الصاخب أي هزيع الليل من أوله إلى ثلث رغم هدوئه الظاهر إلا أنه يصخب بالمشاعر والأحاسيس وتزدحم فيه أصوات الضمير وحيويٌّ بنجومه وكواكبه وكائناته الليلية النشِطة .
    وهاهو يزفر اسفًا على حاضر الأمة المُبكيّ وعلى مجدها الغابر ، وحدّد السبب الأساسي لخروج هذه الزفرة وهو اختفاء الحق وموت وكتم أنفاسه إجبارا وانتشار الظلم وارتفاع أمواج الطغيان المدمّرة .

    وأشيد بهذه الأبيات الأربعة وبشكل خاص البيتين الأخيرين منها لما فيها من جمال معنى وتصوير قويّ مناسب لمراد الشاعر .

    وَتَــرْمِــقُــنِي "خَــيْــلِــي" بِــعَــيْــنَيْ غَــضَــنْفَــرٍ=أَلُــوف شَــغُــوفٍ صَـــارِمِ الــوَجْهِ مُــجَفَــلِ
    وهو في هذا الليل الساكن الصاخب ، يُحدق في الأفق ويزفر زفرة حر لعدم تحقق العدالة واعتلاء الحق ، قال
    أن خيلي يرمقني ، مما يدل على أنه بعد الدعس على البنزين وهذا الذعر توقف في مكان خالٍ يعرفه ويوجد به خيلٌ خاص به ، وهاهو خيله يرمقه كأنّما يشاركه معاناته لكنها نظرة تبدو في ظاهرها قوية مثل الغضنفر أي الأسد وهذه النظرة تدلّ على توهّج روحه وشغفه وسعيه الدائم وتعكس ورغم صرامة ملامحه إلا أنه مجفل أي نافر يشارك صاحبه في الذعر والنفور من واقع الأمة الإسلامية وكأنما الخيل يعكس شخصية صاحبه الذي يجالسه .


    إِ
    ذَا مَـــا جَــرَتْ أَغْــرَى الــجَــمَالَ قَــوَامُهَــا=تَـمِـيـسَ بِـفَــرْشٍ فَــاخِـرِ الـنَّـسْجِ مُـخَــمِّلِـي
    وَإِنْ زَمْــجَــرَتْ ذَلَّـــتْ لَــهَا الأَرْضُ عُــنْوَةً=تَـكَــادُ تَـحُــثُّ الــرَكْــبَ صَــوْبَ الــتَّرَجُّــلِ
    وفي هذين البيتين يصف جمال قوام الخيل وهي تسير وشبه شعرها الذي يميس خلفها بالفرش المخملي الفاخر فحينما تمشي ويتحرك شعرها يكون كقطعة واحدة متسعة تميل يمينا ويسارا لهذا شبّهها بالفرش المخملي الناعم وهو استعارة تصريحية حذف المشبه وذكر المشبه به وهو (الفرش المخمليّ).

    ثم مدح صوت الخيل حينما تزمجر وهي غاضبة راكضة وكأنّ الأرض عبدا ذلّ لها فامتلكته واصبح تحت حكمها عنوة وإجبارا ، وهي بسرعتها وركضها الرائع كأنما تحث الراكبين عليها بالترجّل لتركض خفيفة حرّة غير مقيّدة بالامتطاء ، وكذلك هم الأحرار .

    ثم أنّا نستطيع إسقاط الخيل على السيارة كونها مركبة عصرية ويشترك الاثنان في ذلك في طريقة الرمق بالعين ، والصوت المزمجر والفرش المخملي الفاخر قد ينعكس على لون السيارة .



    جَــلَسْتُ وَمَــا فِـي الــكَوْنِ فُــسْحَةُ ضَــائِقٍ=عَــلَى سَــفْحِ طَــوْدٍ نَــاضِرِ الــعُشْبِ مُــرْفلِ
    وَفِـــي رَغْــدِ مَـهْــدِ الــوَهْــدِ تَــغْــفُو بُــحَيْـرَةٌ=عَــلَــى شَــطِّــهَا اسْــتَــلقَى جَـــلَالُ الــتَّأَمُّلِ
    تُــطِلُّ عَــلَيْنَا الــشَّمْسُ مِــنْ خَــلْفِ غَــيْمَةٍ=بِــخُــصْــلَ ـةِ ضَـــوْءٍ أُرْهِـــفَــتْ بِــالــتَّــأَفُّــلِ
    تَــمــيــلُ لَـــهَــا والـــكَــوْنُ سَـــاجٍ كَــأَنَّــهَا=عَــنَــاق ــيدُ سِــحْــرٍ مِــنْ جُـمَــانٍ مُــفَــصَّـلِ
    وَيَــسْــبَــحُ سِـــرْبٌ مِـــنْ إِوَزٍّ مُــزَرْكَــشٍ=ويَـــمْــ َحُ سِـــرْبٌ مِـــنْ ظِــبَــاءٍ وَأُيَّـــلِ
    ثم انتقل الشاعر إلى وصف الطبيعة الخلاّبة التي تُعتبر سياحة وفسحة للمؤمن وكل حرّ ليجد مافي هذا الكون من طبيعة أبدعها الخالق سبحانه لتجلي كل ضائقة يشعر بها المهموم ، وخصص جلوسه بسفح طود لأن الطود وهو الجبل يكون أسفله غليظا وقريبا للأرض تستطيع الجلوس فيه أكثر من الأعلى ويستطيع من هناك أن يتأمل جيدا ذلك العشب المرفّل الذي تجد فيه نعيما وترفًا وراحة لعين وقلب الناظر إليه .

    ثم يقول (
    وفي رغد مهد الوهد تغفو بحيرة ) شبه الوهد وهو المكان المنخفض بمهاد الطفل ووجه الشبه الامتداد وحجم المكان المحصور والفرش الليّن المهيّأ في كل منهما ، وجعل البحيرة كالطفل الرضيع في المهد يغفو في أمان وسكون ، ثم يقول ( على شطها استلقى جلال التأمل) أي على شاطئ البحيرة منظر رائع تسرح في العين وهي تتأمله ،وهو تشبيه بديع وجميل حقيقة .

    (
    مهد الوهد) استعارة مكنية فالمشبة هي الأماكن المنخفضة والمشبه به مهد الطفل وقلنا الجامع بينهم المكان المحصور والامتداد والفرش المهيأ اللين .
    (
    تغفو البحيرة) استعارة مكنية ، ذكر المشبه البحيرة وحذف المشبة به وهو الطفل الرضيع في المهد والجامع بينهما الإحساس بالأمان والسكون .

    (
    على شطها استلقى جلال التأمل
    ) استعارة مكنية ، ذكر المشبه وهو التأمل وحذف المشبه به وهو الإنسان الذي له ملك أو هيبة ويعلوه الوقار والسكينة والجامع بينهما هو منظر العظمة والجمال الساكن الهادئ الذي يجعل الناظر إليه يوقّره ويقدّره ويحترمه لمكانته المادية المحسوسة أو المعنوية الفكرية وكلاهما فيه منظر مُلهم لكل متأمل وحكيم ، وهذه استعارة بصورة راقية وألفاظ أنيقة عكست قدر جلال هذا التأمّل وصفائه وحذقه .

    وفي هذا المكان السفح الذي يجلس عليه ويمتدّ نظره إلى العشب المرفل ، والبحيرة الغافية في المكان المنخفض الذي شبهه بمهد الطفل، هنا تطلّ عليهم الشمس الجميلة من خلف غيمة وهي عابرة طريقها وقد بدت منها خصلة من شعاعها المضيء هذه الخصلة قد أرهقها التأفّل أي الكِبر وهو يقصد هنا تكبّر الشمس بسبب شدّة جمالها .
    وإن منظرها يميل له القلب والكون ساج أي هادئ ، وكأنّ اشعة هذه الشمس (
    عناقيد سحر من جمان مفصّل )

    كيف تكون عناقيد سحر؟
    العناقيد غالبا تكون متدلية للأسفل ، لكنه خصص العناقيد هنا بالسحر فجعل للسحر تأثيرا على خيوط الشمس ،بحيث يكون شكلها مختلفا عن عادة شكل العناقيد المتدلية للأسفل غالبا ،وكأن السحر قد حولها إلى خيوط ممتدة في كل اتجاه من الشكل الدائري للشمس ، وأنّ هذه الخيوط كأنّ فيه جمان مفصّل أي مفرّق حول قرص الشمس .
    ووجه الشبه بين أشعة الشمس والجمان هو :مصدر الضياء الذي يظهر منههما وتباعد كل من الجمان والخيوط عن بعضه البعض .


    ثم يصف الحيوانات الموجودة في هذا المكان من الإوز السابح في البحيرة ، والظباء أي الغزلان والأيّل السائر في هذه الأرض ، والأيّل هو من فصيلة الأيليات لذكوره أظلاف وقرون متشعبة بها تجويف وتُعرف بالوعل أيضا .

    وكله منظر ممتع للمتأمّل ويجعل الإنسان يتفكّر في خلق الله وكيف هذا التآزر بين عناصر البيئة وطبيعتها من جبل وسفح ووهد وبحير وحيوانات وسماء وتعاونها على العيش في حياة رغيدة سعيدة ، مشرقة هادئة ، خالية من الأحقاد والضغائن والاضطرابات ، وهذا فيه درسٌ للنهوض والتىزر بين عناصر المجتمع لخلق حياة فريدة يفخر فيها الإنسان لاسيما المؤمن الذي أُمر بتعمير الأرض بالإيمان والصالحات ونشر الخير ومكافحة الفساد والخراب والظلم الذي يدمّرها ويشوّه طبيعتها .

    وحقيقة أبيات الوصف للطبيعة هي من أجمل الأبيات في دقّة رسمها بإحساس مرهف وذوق انتقائيّ رفيع ، وأظن هذه الأبيات المتسلسلة في وصف الطبيعة تدخل ضمن التشبيه التمثيلي المركّب


    فَــمَــاذَا أَلَــجَّ الــدَّمْــعَ فِــي عِــذْقِ مُــقْلَتــِي=عَــلَــى حِــيــنِ سَـهْــوٍ مِـــنْ وَقَـــارٍ مُــكَــبّلِ
    كَــأَنَّ بُــرَاقَ الــحَدْسِ لَــمْ يَــدْرِ مَــا اعْتَرَى=حَـيَــارَى عَـرَاجِــينِ الـــرُّؤَى مِــنْ تَــحَــوُّلِ
    مَــوَاقِــيــتُ أَمْـــنٍ فِـــي نَــوَاضِــرِ خَــاطِــرٍ=يَــوَاقِــيـ تُ يُـــمْــنٍ فِـــي أَكُـــفِّ مُــخَــوَّلِ
    وَمَـــا حَــزَبَ الأَحْــلامَ شَـــيْءٌ كَــحَزْبِهَـا=وَلَا اشْــتَــدَّ عَــتْــمُ الــكَــرْبِ إِلَّا وَيَــنْــجَلــي
    ثم يعود الشاعر للأبيات الوجدانية والتعبير عن حزنه ، أن الوصف السابق كله وما أضفى عليه من مشاعر مختلطة من ضمنها الحزن جعل دمعه يلجّ ويزدحم في عذق مقلتيه ، شبه رموش عينه بعذق النخلة وهو سعفها ذكر المشبه وحذف المشبه به وأتى بشيء من لوازمه وهو ( عذق) على سبيل الاستعارة المكنية ، والجامع بينهما الطول وتقوّس الشكل .

    يقول : أن دمعه قد خرج من مقلتيه وبلل رموش عينه على حين سهو من ذهاب الوقار لأن الوقار يُكبّل المرء ويجعله أكثر تصبّرا وحفاظا على ضبط نفسه وأعصابه حتى لاتنهار روحه ولا تتأزم نفسيته ، لذا قال وقار مكبّل لأنه ضابط لهذه العواطف .

    ثم يقول أن حدسه الذي يشبه البُراق وهي الدابة الذي ركبها الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ووجه الشبه بينهما هو الصعود أو الطيران ، يقول أن حدسه كالبراق (لم يدرِ) أي ينفي عن حدسه الدراية عن معرفة ماذا اعترى الرؤى من تبدّل وتحوّل !
    وهو إما يقصد أحبابه واصحابه أو يقصد رهط من أمة الإسلام الذين ذكرهم في أبيات سابقة .

    (
    عراجين الرؤى) شبه الرؤى بـــــ العراجين وهي العذق التي تحمل التمر وكالعنقود من العنب .
    وهذا التشبيه رائع والربط به موفّق ، حيث أن هذه الثمر تعتريها بعض التغيّرات في فترة من الفترات فيتبدّل حالها ولونها وقد تيبس وتجفّ أيضا .

    كأن هذه الرؤى مُنحوها من هم أهل لها وخوّلهم أي سُمح لهم التصرّف بشأنها ، سواء في حياة الشاعر الخاصة أو عمن خُوّلوا لتحقيق أهداف وأمور ترتقي بالمجتمع والأمة الإسلامية .

    فيقول :أن هذه الرؤى (
    في مواقيت أمنٍ) .. أي في مكان آمن تطمئن إليه النفس وفي مكان تُحفظ فيه ولن تضيع سدى وهذا المكان هو الخاطر في القلب الذي تعبُر فيه الأفكار والرؤى العميقة .

    وأيضا هذه الرؤى هي (
    يواقيت يمن
    ) أي كالياقوت ممنونة ومباركة لعِظمها وسموّ ماتهدف إليه وماتخطط له وماستبنيه من مجد وعزّة وكانت بكفّ شخص مخوّل مُنح هذه السلطة ليتصرّف بالرؤى بجكمة ورويّة وجدّية وهو أهلٌ لذلك .

    وبين (
    مواقيت أمن ويواقيت يمن) مقابلة .

    ثم قال وما أصاب الأحلام من حادث عارض مؤسف أعظم مما يصيبها من اشتداد الكرب وعتمته فهو يحول بينها وبين تحقيقها ولن يتم تحقيقها إلا مع تحسّن نفسية المكروب الذي توقّفت أحلامه وأصبح يراها معتمة مستحيلة التحقيق ،ولكنّ ماكرب يشتدّ إلا والفرج قريب ، يأتي فتنجلي كلّ شدة .

    وكما قلنا في البيت السابق نستطيع أن نأول البيتين على أنه حلم وؤوى تخصّ الشاعر ونستطيع إسقاطه على المجتمع المسلم بشكل عام ومايُقعدها عن أحلامها ورؤاها وماتمرّ به من ظلم وكربات يُسجن فيها أهل الحق ويُذلُّ منها الرجال فتعيقها عن السير لمجدها بمثابرة وعزم .


    كَـمَــا جِــئْتَ فَـحْوَى الــدَّهْرِ يَـأْتِيكَ نَــحْوهُ=وَإِنَّ نَــصِــيــبًــا مِـــــنْ هَــــوَاكَ لَــمُــبْــتَلِ
    وَثِـــقْ بِــالَّــذِي يُــورِيكَ بِــالعَذْلِ مَــاحِضًا=كَـمِــثْلِ الَّــذِي يَــرْوِيكَ مِــنْ صَــفْوِ مَــنْهَــلِ
    وَإِيَّــــاكَ وَالــحَــبْــرُ الـــذِّي عَـــدَّ فَــضْــلَـــهُ=وَلَــيْـ سَ لَـــهُ فِـــي الــفَضْلِ حَــبَّةُ خَــرْدَلِ
    بَـــلَايَــا الــبَــرَايَــا فِـــي فَــسَــادِ ضَـمَــائِــرٍ=وَمِـــنْ نَـــزْعَـــةٍ لِــلــجَــوْرِ أَوْ لِــلــتَّــوَسُّـــلِ
    وَإِنَّ بِــلادًا لَا تَــــرَى الــعَــدْلَ مَــنْــهَجًـا=تَـــظَـــ ُّ بِـــــلادًا تُــبْــتَــلَــى بِــالــتَّــغَــوُّلِ
    وَإِنَّ شُــعُــوبًــا أَخْــبَــتَــتْ لِـــلــذِي بَـــغَــى=حَـقِــيــقٌ بِـــأَنْ تَــشْــقَى بِـــذُلِّ الــتَّــبَـــذُّلِ
    أَتَــخْشَى مِــنَ الــكُوفِيدِ كَالطِّفْلِ فِي الدُّجَى=وَلَــمْ تَــخْــشَ أَمْــرَ اللَّهِ فِــي كُــلِّ مَــحْفـلِ
    كَـــأَنَّ انْــتِــشَارَ الـــدَّاءِ لَـــمْ يَــكُ بَــلْسَمًا=يُــرَقِّــي خَــلَاقِ الإِنْــسِ بَــعْــدَ الــتَّــسَفُّـــلِ
    ثم يخاطب الشاعر القارئ هنا فيقول : (
    كما جئت فحوى الدهر) معنى فحوى أي مضمون ومعنى الكلام الذي يرمي إليه القائل .

    فالشاعر هنا يعطي نصيحة وهي أنّك مثل ماتفهم من الدروس والعبر الذي يرمي إليها الدهر وكأنه إنسان فصيح بليغ ويعلّمك الحياة ومراوغتها والمرونة معها وتقبّل ظروفها من خلال المواقف والرزايا فإنه بقدر اقترابك وفهمك وفطنتك لما يرمي إليه الدهر سيُقرّبك من طرقه وأسراره ونواحيه و تأتيك مقاصده وتصبح ماهرا في التعامل مع ذلك وإنّك بقدر علمك وفهمك لهذه التقلبات في الحياة سيأخذك هواك أي حبّك نصيبًا من الابتلاء .
    هذا البيت ألمح فيه شيئا من الفلسفة ، فلسفة الإنسان وتعامله مع تقلّبات الدهر والصوارف والابتلاءات والعمق في التفكير والذكاء في التعامل معها بالأخذ والعطاء والقبول والرضا لأن السخط سيزيدك شخصا ولن يغير شيئا .


    ثم يقول في نصيحة ثانية : ثق بالذي يعاتبك عتاب مخلص محبّ للخير لك كما تثق تماما فيمن يرويك من نبع الوداد الصافي العذب .


    ثم ينصح نصيحة ثالثة بأسلوب تحذيري باستعمال لفظة (
    إيّاك) أي احذر من الحَبر أي العالم الذي يُعدّد أفضاله وكأنه يمدح ويثني على نفسه فإنه إن فعل ذلك فهو لايمتلك من الفضل حبة خردل ، وهذه الصورة توحي بتقليل مالديه من الفضائل والخصال الحميدة حتى وإن أُترس داخله علما ، فما فائدة العلم دون فضائل ودون أخلاق حميدة !

    وهذا أسلوب تلميحي بجهله رغم مالديه من علم لكنه لم يبصر النور فيه ، وهو منطقي ولايخرج عن الآداب الإسلامية .

    لأن العالم الحقيقي متواضع كالسنبلة المنحنية الممتلئة بالخير فهو مملوء بماء العلم في بساتين الفضائل ويخشى الله ولايمدح نفسه ولايتمنّن بعطائه بل يرى نفسه الأقل ويبكي خشية التقصير وعدم تأدية العلم على وجهه الصحيح ، ولم أرّ عالما حقيقيا يُشار إليه بالبنان ووضع الله محبته في قلوب عباده يمدح نفسه بل أنه يستحي حال ظهوره وانتشار سمعته ويتصرّف كالعامة خشية أن تجرّه نفسه إلى العجب والتكبّر أو الإحساس بالتفضّل على الغير رغم تفضّله عليهم بما منحه الله من علم وفهمه ومساعدة الناس في فهمه .

    ثم يقول أنّ أغلب مشكلات البرايا أي الخلق محصورة في الضمائر فإنّ الضمائر هي أصوات القلوب التي تعاتبك إن فسدت وماتت فسدت حياتك وحالك وإن صلُحت صلُح حالك وعيشُك .

    ثم عدد أمرين آخرين هما من المشكلات وبلايا العباد حصرها في ثلاثة أمور :
    - فساد الضمائر .
    - نزعة الجور ، أي حب التسلط والتجبّر وومارسة اي نوع من أنواع الظلم على الآخرين فلا يتقي الله في الناس إلا القليل .
    - التوسّل ، وهو التقرّب والتذلل ورجاء الله والخضوع للآخر وهي التي لاتكون إلا لله فما كان منها لغير الله اصبح كالعبد المأسور المأمور غالبا .

    (
    بلايا ، البرايا) جناس ناقص .

    فئة فسدت ضمائرها وماتت قلوبها فإما هي تميل إلى الجور وتكون الظالمة ، وإنا هي لاتفهم من الحياة غير الرضا بالهوان والتعلّق بغير الله والتوسّل بذلّة مما يجعلهم من الفئة المستعبدة وقد رضوا بهذا الهوان ، او يقصد الشاعر بمن يقترب ويتوسّل إليك بشدّة فإن لبّيْت حاجته وساعدته غرز سكينًا في ظهرك ، بعدما شبع منك ، وكلا الحالتين تُعتبر من بلايا البرايا فعلا .

    ثم يقول إن البلاد التي لاترى العدل في منهجها ، وتطبيق العدل أساسٌ ينبع من تعاليم الكتاب والسنّة، فإن هذه الأمة التي تظلم ولا تسلك طريق العدل قد ابتُليت بالتغوّل اي بالبعد عن المحجة فسيهلكون في طريق الضلال المتشابك الذي لايبين ولايكون واضحا كالحق والعدل .


    ويقول في البيت الذي يليه : إن الشعوب التي أُخبتت أي رضيت وسكنت لمن بغى عليهم وتجبّر ولم تناضل وتقاوم وتمنعه عن ذلك فإنه حّقّ لها بعدم الانتفاضة والنهوض أن تعيش بهذا الشقاء والذلّ والتبذّل أي عيش ليس فيه صون لكرامتها وحشمة نفسها فلا تتحرّز من الأمور المستقبحة وهذا يرفضه كلّ حرّ ومؤمن .

    بعد ماوصلوا إلى ماوصلوا إليه من الذلّ والمهانة والتبذّل أي التفسّخ والعري والبعد عن كل فضيلة بارتكاب النواهي والتقصير في الأوامر وترك جلّها وتمويه بعضها واستعمال مايناسب اهوائهم منها فقط وبعد أن عمّ هذا الظلم والفساد بألوانه وأنواعه فزعوا حينما أتى (الكوفيد) أي وباء كورونا .
    وشبّه خوفهم من هذا الوباء بخوف الطفل الشديد حينما يحلّ الظلام أو يمشي في الدجى وحده ، ولا خير في أمّة خافت من مخلوق هو تحت حكم الخالق سبحانه ، خشيت منه اكثر من خشيتها من ربها فإنها لو خافت ربها لما قعدت في هذا الهوان ولما تبذّلت وفسدت .

    ثم يقول أنّ هذا الوباء ورغم حصوله ترى جزء منهم لم يتغيروا ولم يرتدعوا بل استمروا في غيّهم ومرحلة مفاجئتهم بهذا الوباء المباغت كان مجرد وقت كاستراحة لهم فلم يكن بلسما ودواء كافيا لأخلاقها التي وصلت بهم إلى الحضيض وجرّتهم للعيش في أسفل الحياة ، وكأن كورونا لم تُجدي معهم للارتقاء بأخلاقهم .

    وقد يحتاجون عدّة نفضات وصفعات ليمحّص الله عباده، وليميز المؤمن من المنافق والطيب الطاهر من الخبيث الفاسد الذي هوى بالأمة بفكره وفساده وظلمه .


    وألاحظ في الابيات السابقة كثرة حرف ( التاء) وهي من حروف الهمس وكأنّما الشاعر يلقي نصائحه عن تجربة صادقة ومعها زفرة ألم لهذا الوضع يزفرها عن طريق هذا الحرف الذي يهمسُ لك همسة محبّ حتى لاتقع في الوحل أو حتى تتجنّب هذه الأصناف وتتجنّب أفعالهم .


    سَــئِــمْتُ فُــراتَ الــعَيْشِ فِــي شَــطْءِ ذِلَّــةٍ=وَإِنْ كُــنْـــتُ لَـــمْ أَخْــنَــعْ وَلَـــمْ أَتَــذَلَّــلِ
    وَلَــكِــنْ شَــجَــانِي الــعَجْزُ فِــي أُمَّــةٍ هَــفَتْ=إِلَــى دَعَـــةِ الــنَّــجْوَى وَدَعْــوَى الــتَّنَصُّــلِ
    وَقَــدْ يَــدَعُ الأَسْــبَابَ مَــنْ لَــيْسَ يَــسْتَبــِي=وَلَا يَــدَعُ الــمَــعْنَـى الَّــذِي لَــيْــسَ يَــنْطَلِــي
    ثم يصوّر الشاعر هنا صورة توحي بالرفض التامّ للرضوخ في عيش ناعم مترف يشبه الماء في عذوبته وجمال حضارته وتطوّره ولكنه في يقبع في شاطئ الذلّة خالٍ من أي معنى من معاني الكرامة والعزّة التي تسعى إلى تحقيقها العدالة لحفظ الأنفس وصيانتها عن ظلم البغاة ، فيقول :
    وإني إن كنت أعيش في هذا العصر وفي نفس هذا المجتمع وأسكن نفس أوطانهم إلا أني لم أحني رأسي وأخنع كما خضعوا وتذلّلوا .

    ثم يقول أنّ ماحلّ عليّ من ألمٍ وانكسار وما شجاني إلا هذا العجز في أمّة أصبحت تهفو وتشتاق إلى الدّعة والراحة لأنها عوّدت نفسها على ذلك ، وكما يقال : إنّ النّفس على ماتعوّدت عليه ، فإن عودتها على الهمة واحتمال الصعاب اجتهدت وجاهدت واحتملت المشاقّ ن وإن عودتها على العكس رضخت وكسلت .

    فالشاعر حدّد أمرين يعتبران من المشاكل الأساسية لعدم تطور الأمة الإسلامية وبقاءها على ماهي عليه وهو العجز الذي دعاها إلى أمرين :

    -
    دعة النجوى أي الراحة والقعود في المجالس وتبادل الأحاديث أو التناجي فيما بينهم مما يُسبب التفرقة والالتهاء بهذه الأمور التي تضيّع الوقت فتجعل المرء عاجزا عن الصعود للقمم.

    -
    ودعوى التنصّل أي الانسحاب والهروب من المسؤوليات التي تكون كأساس كل فرد من افراد المجتمع فيقوم بما هو واجب وحق عليه لربه ولنفسه ولأسرته ولمجتمعه ولوطنه ويتجنّب المواضع والأمور التي تُبطئ من همّته فيتكاسل عن مدّ يديه للرقي بالخلُق والمجتمع والمحافظة على مجد وعزّة الأمة الإسلامية .

    (
    دعة ودعوى) جناس ناقص

    ثم يقول في البيت الأخير من هذه الأبيات : قد يدع المرء الأسباب أي يتركها إن كانت لا تأسره ولا تعجبه حتى لو كان فيها خيرا ومصلحة للنهوض وتطوير نفسه ومجتمعه ، وإنه بمقابل ذلك لايترك المعنى الواضح الذي لاينطلي أي لاينخدع به من اتصف بالحصافة والنبهاهة من أولي النّهى .

    وكأنّ الشاعر يرمي بهذا القول إلى معنى أفهم منه : أنّ بعض الفئات لاتنهض وتقوم بفعل الأسباب وتحاول لأنها ضعيفة عاجزة لاتتحمّل الخوض في التجارب واحتمال المهام الصعبة التي تحملها أكتاف الرجال من مسؤوليات لينهضوا بالأمّة ، لكنه بالمقابل ينشغل بالتوافه من الأمور والمعاني المفهومة التي لاتنطلي على أحد وكأنه يريد توضيح أنه بعدم تركه لهذه المعاني والبحث في خوافيها الظاهرة تضيّع وقته .

    وقد يكون مقصد الشاعر هو قول : كان من الأجدر القيام بالأسباب للنهوض والعمل والإنجاز حتى لو لم تستهويه وتأسره هذه الأسباب في بداية الطريق ، بدلا من الانشغال في الأمور الواضحة من معاني الحياة والتي لاتستحق التوقّف مطوّلا ويكفي منها العبور ولاتنطلي عليك مقصادها ولاتخدعك الأيام بمواقفها .

    فربما المعنى هنا ، يشمل الحياة بما فيها من أمور ومعانٍ واضحة من تصرّفات ناسها وتقلّبات أحوالها والانشغال بصغائرها الظاهرة .

    (
    ولايدع المعنى الذي ليس ينطلي) كأنه يوجّه له أمرا فيقول : ( دع المعنى الذي لاينطلي عليك ، ولاتدع الأسباب التي لاتأسرك ولا تستهويك فقد تصل بك في النهاية إن صبرت إلى ما يأسرك فعلا وتمطمح إليه ).
    والله أعلم ، قد يفهمها بعض النقّاد بشكل أفضل وأعمق .


    إِلَامَ أُعَــزِّي الــنَّفْسَ فِــي كُــلِّ مَنْ قَضَــى=وَأَحْــمِــلُ هَــمَّ الــقَــوْمِ مِـــنْ غَــيْرِ مِــعْــوَلِ
    وَفِــيــمَ أُلُـــوكُ الـلَّــوْمَ فِــي شَــرِّ مَــا جَــرَى=وَأَجْــلِــدُ ظَـــهْــرَ الــعَــزْمِ رَغْـــمَ الــتَــبَــزُّلِ
    وَإِنِّـــي وَأَيْـــمُ الــلَّــهِ مَـــا الــيَأْسُ مَــذْهَبِي=وَلَــكِــنَّ صَـرْفَ الــبُؤْسِ لِــليَأْسِ يَــجْتَلِـــي
    وَأَنِّـــي إِذَا مَــا اسْــتَيْأَسَ الــقَلْبُ بِــالأَذَى=أَلُــــوذُ بِـــآيَـــاتِ الــكِــتَــابِ الــمُــنَـــزَّلِ
    أَلَا رُبَّ مَـــوْتٍ يَــرْفَعُ الــذِّكْرَ فِــي الــوَرَى=مَــتَــى انْــتَــهَــجَ الــمَــرْءُ الــسَّــبِيلَ بِــأَمْــثَــلِ
    وَرُبَّ حَــيــاةٍ تُـــرْهِــقُ الـــوَثْــرَ بِــالــثَــرَى=وَتُــخْـ زِي الــثُّــرَيَّـا مِـــنْ عُــرَاةِ الــتَّسَرْبُــلِ
    فَــإِنْ كُـــنْــتُ يَـــوْمًــا لَا مَـحَــالَةَ مَــيِّــتًـا=أَلَا فَــلْـيَكُنْ فِــي نُــصْــرَةِ الــحَــقِّ مَــقْــتَلِــي
    وفي الأبيات الأخيرة من المعلقة يقول الشاعر ، إلى متى أعزي النفس في كل من قضى على نفسه بالذلّ والشقاء أو كل مانقضى من الماضي وماحلّ على الأمة من هوان ، وإلى متى أحمل همّ القوم من غير معول أي من غير أن أجد من يثق باعتماده عليّ واستعانته بي وبفكري وبما أقوم به لننهض بهذه الأمة .

    ثم يقول متسائلا مرة أخرى وهي أسئلة فيها شيء من الإحساس بالإحباط والحزن : من يستحق لألوك أمامه اللوم أي يقصد لألقي عليه اللوم ، وصوّره على أنه يلوكه لبيان لمدى القهر والرفض لهذا الواقع الذي حدث فيه ماحدث من فساد وشرّ .
    فيقول :من يستحق أن القي باللوم عنده وأحدّثه معاتبا عن شرّ ماجرى للأمة ، هل سأجد من سيُجدي معه اللوم ويحرك ضميره وينهض معي!

    ولماذا أجلد ظهر العزم وأتقدّم مبادرا مجتهدا رغم التبزل في الأمة أي تفرّقها أحزابا وفئات وتشققها بالخلافات فيصعب توحيدها .

    وتحتاج لنهوض قوي ومجموعة كبيرة لها نفوذ ولديها عدة وعتاد لترضخهم وتجمعهم على خط الاستقامة والحق والعدل دون تفرقة وبغضاء .

    ثم يقول أنه من خلال أسئلته قد يُفهم منها أنه يائس ، فيُنكر ذلك بالحلف بقوله ( وإني وأيم الله) فيؤكّد للقارئ بمؤكدين :
    هما :

    -( إنّ) وهو حرف للتوكيد .
    - والقسم أو الحلف ( وأيم الله).


    وذلك حتى يصدّقه القارئ فيما سيخبره فهو يقول أنّ اليأس ليس من مذهبي بتاتا ، ولكن الشدائد حينما تتابع وتحلّ بقوّة تجعل شيئا من يأس الإنسان يجتلي أي يظهر .

    ثم يقول : إن القلب لو لم يحتمل الأذى ودخل اليأس فيه ، فإني أتعوذ بالله من ذلك عن طريق الالتجاء إلى قراءة الكتاب المنزلّ أي آيات القرآن الكريم ، فقراءته تجعل الإيمان يتوهّج في قلبه المؤمن وتُطمئنه وتريحه وتسعده فلا يدخل الشيطان مداخلا على القلب وقت شدة حزنه فيُلقي فيها اليأس ، وهذه وصيّة ناجعة .

    ثم يقول : متى جعل الإنسان نهجه الحق والعدل واتباع الكتاب والسنة وحرص على سلوك الطريق الأمثل الذي يؤدي إلى الصواب ويحرصُ على الأفضل والأمثل والأجمل والأكمل رغم يقينه باعتراء النقص الإنسانيّ لعمله ، فإنّ فعل هذا يرفع له ذكره بعد موته ويُصبح وقتها من الماضي ولكن أثره وبصمته باقية .



    وَرُبَّ حَــيــاةٍ تُـــرْهِــقُ الـــوَثْــرَ بِــالــثَــرَى=وَتُــخْـ زِي الــثُّــرَيَّـا مِـــنْ عُــرَاةِ الــتَّسَرْبُــلِ
    فَــإِنْ كُـــنْــتُ يَـــوْمًــا لَا مَـحَــالَةَ مَــيِّــتًـا=أَلَا فَــلْـيَكُنْ فِــي نُــصْــرَةِ الــحَــقِّ مَــقْــتَلِــي
    ثم يقول : وربّ حياة بتوطئتها وسهولتها وليونتها وغنى عيشها ونعيمها أي حياة ميسّرة سهلة قد (
    ترهق الثرى وتخزي الثريّا )أي :

    - ترهق بأفعالها المستقبحة الثرى فتفسده وتجعله عليلا كجسد المريض .
    - وتخزي بابتذالها وعدم صونها لعزّتها وشرفها الثريّا لما وقعت فيه من عريّ وتجرّد عن ثياب الفضيلة والمبادئ والأخلاق فلم تتسربل بها بل خلعتها فتبدّلت أخلاقها .


    وفي الخاتمة يقول الشاعر :

    بعد ما أوضّح كل ماحلّ بهذه الأمة من هوان والحال المتردّي ، ثم سعيه الدائم بعزم واجتهاد من أجل المجد والرقي ، فإن كان بعد ذلك لامحالة ميت ، ولاهروب من الموت في كل الأحوال ،
    فليكن على الأقل مقتلي في نصرة الحق عزيزا شامخا لا ذليلا باكيا .

    وقد أحسن الخاتمة معنى وقوة وتُعتبر الخاتمة من الأبيات التي يُستشهد بها وتجري مجرى الحكم والأمثال .

  9. #49
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jul 2018
    المشاركات : 403
    المواضيع : 7
    الردود : 403
    المعدل اليومي : 0.19

    افتراضي

    الشاعر القدير د. سمير العمري
    تنقلت بنا بين الحكمة والفخر والرثاء في معلقة حملت الكثير من الرسائل
    رحم الله والدتكم وأعانكم على فقدانها
    وأطال عمركم في الخير
    تحيتي وتقديري
    آمال يوسف شعراوي

  10. #50
    الصورة الرمزية د. سمير العمري المؤسس
    مدير عام الملتقى
    رئيس رابطة الواحة الثقافية

    تاريخ التسجيل : Nov 2002
    الدولة : هنا بينكم
    العمر : 59
    المشاركات : 41,182
    المواضيع : 1126
    الردود : 41182
    المعدل اليومي : 5.27

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة براءة الجودي مشاهدة المشاركة
    ماشاءالله بارك الله هي معلّقة وليست قصيدة

    جمعت مابين الأسلوب الجزل والسهل الممتنع وتمتّعت بالحكمة وورد فيها صورا فنية تستحق التأمّل في معناها كما اعتدنا من والدنا الدكتور سمير العمري
    الأغراض هنا متعددة على نسق شعراء الجاهلية ولكن بصورة حديثة حيث ان المواضيع متداخلة ومتناسبة بطريقة متسلسلة مترابطة ، ولكلّ عصر ولكل زمان سماته الأدبية الخاصة به
    ويذكرني هذا بالبارودي حينما أحيا الشعر القديم في رصانته وجزالته حينما عبث الشعراء بالشعر وأنهكوه بالضعف والركاكة والجمود والإكثار من البديع بدون مضامين وشاعرية تحيي الروح فيه ، وهنا الدكتور سمير يشبه مافعله البارودي بإحياء الشعر القديم والنهضة به في صورة متناسبة مع متطلبات الشعر العصرية والحديثة التي نعيشها في وقتنا باسلوب متين متماسك و صور فنية مميزة وشاعرية وطول نفس قد لايقدر عليها إلا قلة من الشعراء ، معلقة بديعة في الشكل والمضمون .

    كل التقدير
    بارك الله بك أيتها الشاعرة الكريمة والناقدة المبدعة ولا حرمني الله من تفاعلك الراقي وحسك الواعي وأدبك الجم.
    دام دفعك!
    ودمت بخير وعافية!


    تقديري
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

صفحة 5 من 6 الأولىالأولى 123456 الأخيرةالأخيرة