بيع الاستجرار
عرف الفقهاء هذا البيع فقالوا:
"أما بيع الاستجرار فهو مأخوذ من قولهم استجر المال: إذا أخذه شيئا فشيئا دون أن يجري بينهما مساومة أو إيجاب وقبول في كل مرة.
والاستجرار على نوعين:
الأول: الاستجرار بثمن مؤخر من مؤخر.
والثاني: الاستجرار بمبلغ مقدم."
هذا البيع نتج من الحياة فى مجتمع لا يحكم بحكم الله فهو نوع من الدين المرتبط سداده بحين ميسرة وحين ميسرة تكون إما قبض الراتب فيظل الموظف يستدين طوال الشهر من البياعين البقال والجزار والخضرى وما شاكل ذلك وعندما يقبض الراتب يوزعه عليهم ويظل يحيا هكذا معظم حياته وإما أن يكون فلاحا فيظل يستدين على أساس الحصاد وبيع المحصول وعندما يبيع المحصول يسدد ما عليه أو الكثير منه وإما أن يعمل عملا أخر ويسدد ما عليه كلما آتاه مال من العمل يوم أو أكثر
هذا الشكل من البيع ناتج من كون الدولة غير مسلمة فحكامها لا يعطون الناس حقوقهم ومن ثم لجئوا إلى هذه الأشكال من الديون المؤقتة
وأما تقسيم الفقهاء هذا البيع إلى الاستجرار بثمن مؤخر كما فى القول :
"أما الاستجرار بثمن مؤخر فهو ما ذكره الحصكفي في الدر المختار بقوله: (ما يستجره الإنسان من البياع إذا حاسبه على أثمانها بعد استهلاكها) وحاصله أن الرجل يتفاهم مع صاحب الدكان ولا تقع بينهما مساومة بل يعطيه البياع الشيء المطلوب بدون ذكر الثمن ولا تلفظ الإيجاب والقبول فيستعمله المشتري وفي نهاية الشهر مثلا يحاسبه بكل ما أخذ ويعطيه الثمن دفعة واحدة.
والقواعد المعروفة تأبى جواز هذا البيع لأننا إن قلنا بانعقاد هذا البيع عندما استلم المشتري شيئا من هذه الأشياء فإنه بيع ثمن مجهول لأنه لم تقع بينهما مساومة ولا بيان ثمن وإن قلنا: إن البيع ينعقد عند تصفية الحساب فإن المبيعات عندئذ معدومة مستهلكة وهذا يتضمن محظورين الأول: أن يقع الاستهلاك من المشتري قبل أن يقع الشراء من المالك والثاني: أن يقع بيع ما هو معدوم ومن هنا صرح بعض الفقهاء بعدم جواز هذا البيع وهو مذهب عامة الشافعية. وقال النووي:
(فأما إذا أخذ منه شيئا ولم يعطه شيئا ولم يتلفظا ببيع بل نويا أخذه بثمنه المعتاد كما يفعله كثير من فهذا باطل بلا خلاف لأنه ليس ببيع لفظي ولا معاطاة ولا يعد بيعا فهو باطل ولنعلم هذا ولنحترز منه ولا نغتر بكثرة من يفعله فان كثيرا من الناس يأخذ الحوائج من البياع مرة بعد مرة من غير مبايعة ولا معاطاة ثم بعد مدة يحاسبه ويعطيه العوض وهذا باطل بلا خلاف لما ذكرناه) "
أما كون الاستجرار بيعا فقط فهو خطأ لأنه دين وبيع معا فهو دين لأنه لا يسدد الثمن إلا بعد مدة وهو بيع لأنه يأخذ سلعا طعامية غالبا بدلا من النقود لكى يقدر على الحياة هو وأسرته
صحيح أن هذا الدين يخالف شروط الدين من وجود عقد مكتوب وكاتب للدين وشهود وأما كونه بيع فهو صحيح لأنه بالتراضى كما قال تعالى "يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"
وحكاية عدم معرفة أسعار السلع شىء وهمى فالناس يعرفون غالبا ثمن السلعة خاصة أن المجتمعات التى تتعامل بتلك المعاملة تكون مجتمعات مجالسة فى الغالب بين أهل الشارع أو أهل المهن المختلفة ومن ثم فهم يسألون بعضهم البعض والكثير من الناس يسألون البائع عن ثمن السلعة لأنهم يكتبون ما أخذوه فى كراسة عندهم لمعرفة ما عليهم
كما قلنا بدلا من تحريم بعض الفقهاء لتلك البيوع عليهم أن يعرفوا أن اصل المشكلة الحكام الذين يمنعون الناس حقوقهم فبدلا من قسمة مال الدولة على كل الأفراد بالعدل يأخذون هم معظم مال الدولة ولا يبقون للناس سوى الفتات الذى يتعاملون به كما فى هذا البيع ولهذا اضطر العديد من الفقهاء نتيجة سكوتهم على منكر الحكام فى المال إلى إباحة هذه البيوع فى النهاية ليتمكن الناس من الاستمرار فى الحياة وفى هذا قال محمد تقى العثمانى فى كتابه بحوث في قضايا فقهية معاصرة:
"ويبدو أن مذهب الشافعية أقل المذاهب مرونة في بيوع التعاطي والاستجرار ولكن جماعة منهم ذهبوا إلى جوازهما ومنهم الإمام الغزالي رحمه الله تعالى قال العلامة الرملي رحمه الله:
(أما الاستجرار من بياع فباطل اتفاقا: أي حيث لم يقدر الثمن كل مرة على أن الغزالي سامح فيه أيضا بناء على جواز المعاطاة) وقال الخطيب الشربيني رحمه الله:
وأخذ الحاجات من البياع يقع على ضربين:
أحدهما أن يقول: أعطني بكذا لحما أو خبزا مثلا وهذا هو الغالب، فيدفع إليه مطلوبه فيقبضه ويرضى به، ثم بعد مدة يحاسبه ويؤدي ما اجتمع عليه، فهذا مجزوم بصحته عند من يجوز المعاطاة فيما أراه.
والثاني: أن يلتمس مطلوبه من غير تعرض لثمن كأعطني رطل خبز أو لحم مثلا فهذا محتمل، وهذا ما رأى الغزالي إباحته ومنعها المصنف أي النووي)
وأما المالكية فقد ذكروا مسألة الاستجرار بمبلغ مقدم قال مالك في الموطأ:
(ولا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهما ثم يأخذ منه بربع أو بثلث أو بكسر معلوم سلعة معلومة فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم وقال الرجل آخذ منك بسعر كل يوم فهذا لا يحل لأنه غرر يقل مرة ويكثر مرة ولم يفترقا على بيع معلوم)
ومن هنا بعلم أن وجه المنع عندهم هو كون الثمن مجهولا ولا فرق في هذا بين أن يكون الاستجرار بمبلغ مقدم أو بثمن مؤخر وفي هذا يتفق المالكية مع أكثر الشافعية.
وأما الحنابلة فقد اختلفت في هذا وجاء في النكت والفوائد السنية لابن مفلح:
(وقال أبو داود في مسائله باب في الشراء ولا يسمى الثمن سمعت أحمد سئل عن الرجل يبعث إلى البقال فيأخذ منه الشيء بعد الشيء ثم يحاسبه بعد ذلك قال أرجو أن لا يكون بذلك بأس قال أبو داود قيل لأحمد يكون البيع ساعتئذ قال لا قال الشيخ تقي الدين وظاهر هذا أنهما اتفقا على الثمن بعد قبض المبيع والتصرف فيه وأن البيع لم يكن وقت القبض وإنما كان وقت التحاسب وأن معناه صحة البيع بالسعر)
وبه تبين أن رواية الجواز عند الحنابلة مبنية على جوز البيع بسعر السوق وفيه عند الحنابلة روايتان وأما الحنفية فقد أفتى المتأخرون منهم بجواز الاستجرار ولو لم يذكر الثمن عند أخذ الحاجات من البياع وجاء في الدر المختار:
(ما يستجره الانسان من البياع إذا حاسبه على أثمانها بعد استهلاكها جاز استحسانا) .
وقال ابن نجيم:
(ومما تسامحوا فيه وأخرجوه عن هذه القاعدة ما في القنية الأشياء التي تؤخذ من البياع على وجه الخرج كما هو العادة من غير بيع كالعدس والملح والزيت ونحوها ثم اشتراها بعد ما انعدمت صح فيجوز بيع المعدوم هنا) .
وبه تبين أن الاستجرار جائز عند الحنفية استحسانا ولكن اختلفت عباراتهم في تكييف وجه الاستحسان "
وبعد أن ذكر العثمانى أقوال فقهاء المذاهب عاد فذكر بعض منها ليعرفنا خلاصة الكلام فقال:
"والذي تلخص لي بعد دراسة كلام الفقهاء في الكتب المختلفة هو ما يلي:
إن الاستجرار بثمن مؤخر لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن ذكر البائع الثمن كلما يأخذ منه المشتري شيئا أو يكون ثمن ذلك الشيء معلوم للجانبين بأي طريق وهذا لا خلاف في جوازه عند الجمهور القائلين بجواز التعاطي فيقع بيع كل شيء عند أخذه على سبيل التعاطي ويقع المحاسبة عند نهاية مجموعة من البيوع. فلا يلزم منه البيع بثمن مجهول ولا بيع ما هو معدوم ويجوز ذلك عند الحنفية والحنابلة وعند الغزالي وابن سريج وغيرهما من الشافعية وأما على المشهور من مذهب الشافعية فيقع جوازه عند التلفظ بالإيجاب والقبول وقد ذكرنا أن الراجح في التعاطي قول الجمهور
الحالة الثانية: أن لا يذكر الثمن في كل مرة ولكن يتفق الفريقان عند الفاهم الابتدائي أن المشتري سوف يستجر هذه الأشياء بسعر السوق وفي هذه الحالة يتوقف جواز البيع عند الأخذ على جواز البيع بسعر السوق والمعروف عند الأئمة الأربعة أن بيع الشيء بسعره أو بثمن مثله أو بالرقم لا يجوز إلا إذا كان معلوما لدى المتبايعين في المجلس ولكن هناك رواية في مذهب الشافعية وأخرى في مذهب الحنابلة تجيز البيع بسعر السوق أما في مذهب الشافعية فهو وجه حكاه الرافعي وذكره النووي بقوله:
(وحكى الرافعى وجها ثالثا أنه يصح مطلقا للتمكن من معرفته كما لو قال بعت هذه الصبرة كل صاع بدرهم يصح البيع وإن كانت جملة الثمن في الحال مجهولة وهذا ضعيف شاذ)
وأما في مذهب الحنابلة فهو رواية عن الإمام أحمد واختارها الشيخ تقي الدين وقد ذكرنا عبارته من قبل وكذلك ذهب إلى الجواز العلامة ابن القيم وذكر أنه منصوص من الإمام أحمد وهو الذي اختاره شيخه ابن تيمية.
والذي يظهر لي بعد مراجعة كلام الفقهاء وأدلتهم في هذا الموضوع أن الأشياء على قسمين:
قسم تتفاوت أسعاره بتفاوت الآحاد ولا يمكن تحديد سعرها بمعيار منضبط معلوم فمن التجار من يبيعه بعشرة مثلا ومنهم من يبيعه بأكثر وأقل فالذين ذهبوا إلى حرمة البيع بسعر السوق إنما أرادوا المنع في مثل هذا القسم من المبيعات لأن سعر السوق إذا لم يكن معلوما للمتبايعين في مثل هذه الأشياء اصطلاح غير مستقر فيبقى الثمن مجهولا بجهالة تقضي إلى النزاع.
ولكن هناك قسماً آخر من المبيعات، وهو الذي لا تتفاوت آحاده، ولا تتفاوت أسعاره، وإنها تنضبط بمعيار معلوم يعرفه كل أحد معلوم يعرفه كل أحد، ولا يحتمل أن يقع الخطأ أو النزاع في تطبيقه، والذين ذهبوا إلى الجواز إنما أرادوا هذا القسم، لأن ذكر مثل هذا المعيار المضبوط يقوم مقام ذكر الثمن، فليس فيه جهالة تفضي إلى النزاع وإلى هذا المعنى يشير الإمام المحقق ابن الهمام حيث يقول:
(ومما لا يجوز البيع به: البيع بقيمته، أو بما حل به، أو بما تريد أو تحب، أو برأس ماله، أو بما اشتراه، أو بمثل ما اشترى فلان، لا يجوز ... وكذا لا يجوز بمثل ما يبيع الناس، إلا أن يكون شيئاً لا يتفاوت كالخبز واللحم).
وذكر ابن عابدين مثله عن صاحب النهر الفائق، فقال:
(وخرج أيضاً ما لو كان الثمن مجهولاً، كالبيع بقيمته أو برأس ماله أو بما اشتراه فلان ... ومنه أيضاً ما لو باعه بمثل ما يبيع الناس، إلا أن يكون شيئاً لا يتفاوت)
وهذا فيما أرى أعدل الأقوال وأوفق بالأصول المجمع عليها، فإنه لا مانع من جواز البيع بالسعر إلا جهالة الثمن التي تفضي إلى المنازعة، وإذا ارتفع احتمال المنازعة بتعين معيار منضبط ارتفع المانع، وجاز البيع. وقد ظهر اليوم أشياء كثيرة ينضبط ثمن مثلها بمعيار معلوم لا يحتمل وقوع النزاع في تطبيقه، وفي مثل هذه الأشياء يجوز العقد، ويجوز الاستجرار على أساس سعر السوق"
ومن حرموا هذا البيع للجهالة بالسعر وعدم المساومة مخطئون فليس هناك جهالة عند معظم الشارين كما أن المساومة ليست أصلا فى البيه وإنما البيع أصله التراضى شرط ألا يكون الربخ من السلعة يساوى الضعف أو اكثر كما قال تعالى فى المكاسب التجارية :
" لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة" فالربا هنا هو المكسب التجارى
كما أن الناس عندما يجدون أن بياع ما قد غبنهم فى سعر شىء يتركونه للشراء من بائع أخر وبعضهم لا يعود للبائع الأول أبدا وإن لم يذكر له سبب تركه كما أن كثير من الناس لا يساومون لأسباب مختلفة وأنا منهم لعدم تضييع الوقت وكثير من التجار يعرفون هذا
ومما سبق نجد فى النهاية أن الفقهاء اضطروا إلى إباحة هذا النوع من البيع وسيان كان هذا الاضطرار حفاظا على حياة الناس بدلا من موتهم جوعا أو موافقة بالاكراه أو بالقلب وهى قليلة على ما يقوم به الحكام من ظلم للناس فى منعهم حقوقهم من مال الله لأن فى النهاية العديد منهم يصيب من هذا المال فى صورة عطايا من الحكام سواء كانت هذه العطايا هدايا أو رواتب مباشرة أو عطايا للمدارس والجوامع التى يقومون بالعمل فيها
الإنسان فى هذا البيع مضطر فلو لم يفعل مات هو وعياله جوعا وحتى البائه هو الأخر مضطر للموافقة على هذا البيع لأنه لو رفض هذه البيع فلن يجد مكسبا من تجارته التى تعتمد غالبا على البيع لهؤلاء المضطرين ومن ثم لن يقدر على النفقة على أسرته ومن ثم فهى دائرة لا تنتهى من الظلم لن يوقفها إلا العدل عندما ينال كل إنسان نصيبه العادل كما قال تعالى " وقدر فيها أقواتها فى أربعة أيام سواء للسائلين"