بحر الموفور بين معروف الرصافي ونازك الملائكة

أشارت الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة في هوامش وتعقيبات ديوانها (يغيرألوانه البحر)
إلى قصيدة للشاعر الكبير معروف الرصافي (سمعت شعرا للعندليب) وذكرت أن القصيدة حين نشرت في المجلات العراقية آنذاك أثارت نقاشات عديدة حولها فمنهم من قال أن الرصافي خرج عن وزن مخلع البسيط بينما اقترح آخرون تسمية الوزن (مستفعلاتن مستفعلاتن) كبحر جديد, وتقول الشاعرة نازك أن الرصافي ابتدأ بهذا الوزن لكنه في بعض (الأشطر) عاد لوزن المخلع, وأنها ناقشت موضوع القصيدة مع طلابها في جامعة البصرة حينها. (ورأيي في هذا أنه لم يعد لوزن المخلع بل زاحف مستفعلاتن الثانية بالخبن في بعض الأشطر لأنه لم يخل بالوزن الذي اعتمده)
وتقول أيضا أن ما طرحه الرصافي هو ما شجعها لتبني طرح وزن جديد يضاف للأوزان الصافية للشعر الحر وهو (مستفعلاتن مستفعلاتن) وسمته (بحر الموفور) ولم تتحدث عن جواز استخدامه في الشعر العمودي,لأن الشاعر الكبير معروف الرصافي تحدث عن ذلك بقصيدة. وحاولت أن تبحث إن كتب شيئا عنه ولم تجد كما حاولت الإستفسار من أصدقاء مقربين له إن كان قد ذكر شيئا عنه لكن لم تحظ بأية إجابة.
ولن أتحدث عن تجربتها والتي شرحتها في الجزء الأول لكن سأستعرض قصيدة شاعر العراق الكبير معروف الرصافي.
فالقصيدة كما هي في أدناه
سمعت شعرًا للعندليب (معروف الرصافي)
*******
سمعتُ شعرًا للعندليبِ * تلاهُ فوق الغصنِ الرَّطيبِ
إذ قالَ نفسي نفسٌ رفيعةْ * لم تهوَ إلّا حسنَ الطبيعةْ
عشقتُ منها حُسنَ الرَّبيعِ * أحسنْ بذاكَ الحسنِ البديعِ
فالعيشُ عندي فوقَ الغصونِ * لا في قصورٍ ولا حصونِ
أطيرُ فيها من فرطِ وجدي * من غصنِ وردٍ لغصنِ وردِ
وفي فروعِ الأشجارِ بيتي * فالظِّلُّ فوقي والزَّهرُ تحَتي
فسَلٍ نَسيمَ الأسحارِ عنّي * كم هزّ عطفُ الأغصانِ لَحني
وسلْ بِشَدوي زهرَ الرِّياضِ * أنِّي بحكمِ الأزهارِ راضِ
فكم زهورٍ لِما أفوهُ * أصغَتْ وقالتْ لا فُضّ فوهُ
يا قومُ إنِّي خُلقتُ حرّاً * لمْ أرضَ إلَّا الفَضا مَقَرّا
فإنْ أردتُم أنْ تؤنِسوني * ففي المَباني لا تَحبِسوني
وإن أردتُم أنْ تُنطقوني * فَأطلِقوني, فَأطلِقوني
*******
والتقطيع العروضي للقصيدة:
سمعتُ شِعرًاا للعندليبِ (متفعلاتن مستفعلاتن)
تلاهُ فوقَ الغصنِ الرَّطيبِ (متفعلاتن مستفعلاتن)
إذ قالَ نفسي نفسٌ رفيعةْ (مستفعلاتن مستفعلاتن)
لم تهوَ إلَّا حسنَ الطبيعةْ (مستفعلاتن مستفعلاتن)
عشقتُ منها حسنَ الرَّبيعِ (متفعلاتن مستفعلاتن)
أحسِنْ بذاكَ الحُسنِ البديعِ (مستفعلاتن مستفعلاتن)
فالعيشُ عندي فوقَ الغصونِ (مستفعلاتن مستفعلاتن)
لا في قصورٍ ولا حصونِ (مستفعلاتن متفعلاتن)( مستفعلن فاعلن فعولن) 1
أطيرُ فيها من فرطِ وجدي (متفعلاتن مستفعلاتن)
من غصنِ وردٍ لغصنِ وردِ (مستفعلاتن متفعلاتن) (مستفعلن فاعلن فعولن)2
وفي فروعِ الأشجارِ بيتي (متفعلاتن مستفعلاتن)
فالظِّلُّ فوقي والزَّهرُ تحتي (مستفعلاتن مستفعلاتن)
فسلْ نَسيم الأسحارِ عنّي ( متفعلاتن مستفعلاتن)
كم هزّ عطفُ الأغصانِ لحني ( مستفعلاتن مستفعلاتن)
وسلْ بشدوي زهرَ الرِّياضِ (متفعلاتن مستفعلاتن)
أني بحكمِ الأزهارِ راضِ (مستفعلاتن مستفعلاتن)
فكم زهورٍ لِما أفوه (متفعلاتن متفعلاتن) (متفعلن فاعلن فعولن)3
أصغَت وقالت لا فُضّ فوهُ (متفعلاتن مستفعلاتن)
يا قومُ إني خُلقت حُرًّا (مستفعلاتن متفعلاتن) (مستفعلن فاعلن فعولن)4
لم أرضَ إلَّا الفَضا مَقرّا ( مستفعلاتن متفعلاتن) ( مستفعلن فاعلن فعولن)5
فإنْ أردتُم أن تؤنِسوني (متفعلاتن مستفعلاتن)
ففي المَباني لا تحبِسوني (متفعلاتن مستفعلاتن)
وإن أردتُم أن تنُطقوني (متفعلاتن مستفعلاتن)
فأطلِقوني, فأطلِقوني (متفعلاتن متفعلاتن) (متفعلن فاعلن فعولن) 6
ومن استعراض القصيدة وتقطيعها نلاحظ ما يلي:
1 – أن الأشطر التي يمكن تقطيعها وفق وزن المخلع هي 6 فقط .
2 – أن الأشطر التي هي من المخلع أشطرها الأخرى هي على وزن (مستفعلاتن مستفعلاتن) عدا الشطرين 4 و 5 فهما يشكلان بيتا واحدا, لذا لايمكن اعتبار القصيدة على مخلع البسيط.
3 – أن كافة الأعارض والضروب جاءت بوزن مستفعلاتن عدا ضرب الشطر الأخير جاء مخبونا أي (متفعلاتن)
4 – القصيدة بأكملها يمكن أن تعتبر على وزن (مستفعلاتن مستفعلاتن) أما السبب الرئيسي في ظهور المخلع فهو خبن مستفعلاتن الثانية وهذا ما أشارت له الشاعرة نازك الملائكة أن الفرق بين الوزنين هو حرف واحد.
وكما ذكرت سابقا أنها نظمت قصيدتين تفعيليتين قبل (نجمة الدم) اعتمادا على بحر الموفور لكنها اكتشفت أن الوزن في بعض المقاطع تحول إلى (مستفعلاتن فعولن فعولن) لكنها استساغت الوزن فلم تغير وهذا ناتج من مزاحفات اعتمدتها في القفلات والتي أدت لذلك, ولهذا أوصت الشعراء الذين يرغبون في النظم عليه بالمحافظة على الوزن الأصلي بالزحافات المقبولة التي اعتمدتها في (نجمة الدم), علما بأن قصيدتيها الأولى والثانية هما (زنابق صوفية للرسول) و (تمتمات في ساحة الإعدام) واللتان تضمنهما ديوانها المذكور.
5 – لا يمكن التقطيع وفق وزن المخلع في القصيدة إلا في بيت واحد مما يعني أننا لا يمكن أن نعتبرها من مخلع البسيط بل هي على وزن الموفور حيث يمكن تقطيع كافة الأبيات عليه.
6 – الشاعر الكبير معروف الرصافي اعتمد نسقا جديدا في قصيدته وهو اختلاف الروي في كل بيت مع كون كل بيت مصرعا أي أن عروضته تطابق ضربه وزنا ورويا.
من هنا يتضح أن الشاعر معروف الرصافي هو أول من نظم شعرا عموديا على وزن الموفور حسب تسمية نازك الملائكة له, لكنه لم يتطرق للوزن ولم يذكر ذلك في كتبه التي نشرها كما تقول نازك الملائكة.
وشاعر كبير كالرصافي لا يمكن لنا أن نقول أنه أخطأ في الوزن وأنه خرج عن وزن المخلع , بل أن ما نظم عليه هو وزن جديد وربما استساغ إيقاعه من الشعر الشعبي العراقي والذي يرد فيه (مستفعلاتن مستفعلاتن) وكما أعطيت سابقا مثالا وهو أغنية (خايف عليههْ تلفان بيههْ)
والوزن كما يظهر من نظم الرصافي وزن غنائي بامتياز.
من هنا يمكن أن نستعرض هذا الوزن الجديد:
1- الوزن الأساس مستفعلاتن مستفعلاتن وهو بحر الموفور كما أسمته الشاعرة نازك الملائكة وهو بحر من أربعة أوزان نتجت من تدويره كما سبق وبينت ذلك في الجزء الأول.
2- يجوز في مستفعلاتن الأولى الخبن والطي دون تأثير على الوزن.
3- في حالة خبن مستفعلاتن الثانية كما فعل الرصافي يظهر وزن المخلع, فوزن (مستفعلاتن متفعلاتن) يكافئ ( مستفعلن فاعلن فعولن) كما هو واضح أعلاه.
4 – في حالة حذف التاسع الساكن من أول تفعيلة يصبح الوزن ( مستفعلات مستفعلاتن) ويمكن إعادة قراءته (مستفعلن فعولن فعولن) , وهذا متروك لذائقة الشعراء.
5- والطريف هو لو اجتمع حذف تاسع التفعيلة الأولى مع خبن الثانية ( مستفعلاتُ متفعلاتن) فهذا يكافئ (مستفعلن فعِلن فعولن) وهو من المخلع .
6- أما لو زاحفنا التفعيلتين بالطي لتصبحا (مفتعلاتن مفتعلاتن)... يمكن إعادة قراءة الوزن (فاعلُ فعْلن فاعلُ فعْلن) وهذا إيقاع من الخبب.
7 – وما أجازه الرصافي لنفسه كوزن لا يمكن أن نقول عنه أنه لا يجوز فالرصافي مرجع كبير في الشعر , وهو من خلال نظمه أجاز أيضا خبن مستفعلاتن الثانية.
8 – وأجازت الشاعرة نازك الملائكة الخبن والطي في مستفعلاتن واعتمدت بعض قفلاتها في الشعر الحر (مستفعلاتْ) أو (متفعلاتْ)
ولتوضيح المخطط البياني للبحر اخترت بيتين الأول هو الثاني في القصيدة حيث ورد سالما من الزحافات والثاني هو البيت الذي ورد فيه زحاف الخبن في تفعيلة مستفعلاتن الثانية في الشطرين.
وهو البيت العاشر في القصيدة والوحيد الذي يمكن تقطيعه بشطريه وفق وزن مخلع البسيط , لكنني لم أفعل ذلك بل تم تقطيعه وفق وزن الموفور , فالتقطيع وفق وزن المخلع فيه إجحاف للشاعر الكبير معروف الرصافي , وعلينا أن نفهم جيدا ما طرحه ولماذا طرحه .
البيت الأول:
إذ قالَ نفسي نفسٌ رفيعةْ * لم تهوَ إلّا حسنَ الطبيعةْ
مستفعلاتن مستفعلاتن * مستفعلاتن مستفعلاتن
ويظهر المخطط سلامة التفعيلات من أي زحاف
البيت الثاني:
يا قومُ إنِّي خُلقتُ حرّاً * لمْ أرضَ إلَّا الفَضا مَقَرّا
مستفعلاتن متفعلاتن * مستفعلاتن متفعلاتن
ويظهر المخطط باللون الأحمر زحاف الخبن في تفعيلة مستفعلاتن الثانية في كل شطر.
ومع الأسف الشديد لم تحظ هذه القصيدة بالإهتماه المطلوب من قبل العروضيين أو المجتهدين أو النقاد, بينما كان لابد من تسليط الضوء عليها.
فإن أجاز شاعرنا الكبير معروف الرصافي النظم على هذا الوزن , فهل نقول أنه أخطأ قبل أن تخطأ نازك الملائكة, ولا يجوز هذا الوزن في العمودي أو الحر؟
وإن نظرنا للتقطيع بعدم اعتماد مستفعلاتن سيكون عندنا موضوع آخر مهم أيضا:
مستفعلاتن مستفعلاتن
يمكن إعادة صياغتها إلى :
مستفعلن مفعولن فعولن
وهنا يظهر لدينا ما يلي:
بطي مفعولن سيكون الوزن:
مستفعلن فاعلن فعولن (وهو المخلع)
بمعنى آخر وما دام المخلع يثير كثيرا من التساؤلات فيمكن ببساطة نسبه للموفور, ويقرأ الوزن:
مستفعلاتن متفعلاتن * مستفعلاتن متفعلاتن
لأن نسبه للبسيط يعني موافقتنا على مجيء علة في الأعاريض والعلة هي قطع رأس الوتد , بينما لم تجز م العلة في أعاريض البسيط المقطوعة واقتصر ذلك على التصريع,
فوزن مخلع البسيط هو : مستفعلن فاعلن مستفعلن
ثم قطعنا الوتد وهذه علة لم تجز في البسيط التام بضرب مقطوع عدا التصريع.:
مستفعلن فاعلن مفعوالن
ثم خبنا مفعولن ليصبح الوزن:
مستفعلن فاعلن فعولن
وهذه واحدة من إشكالات العروض في بعض الأوزان وخاصة المتقارب., وبعض الأوزان الأخرى.
وإننا إن أجزنا العلة في الأعاريض بدون تصريع فالسؤال الذي يطرح نفسه :
لماذا لا نعتمد فعلاتن في أعاريض الكامل ونعتمد فعْلن المقطوعة في أعاريض البسيط ونعتمد فعولن وهي من حذف سبب من مفاعيلن في أعاريض الطويل وغيرها كثير ؟ علما بأن المخططات البيانية تظهر تناسق الشطرين في هذه العلل في الأعاريض.
وفي الخلاصة أود أن أبين ما يلي:
1 – أن شاعر العراق الكبير معروف الرصافي قد سبق الشاعرة الرائدة نازك الملائكة بأكثر من أربعة عقود في النظم عموديا على وزن (مستفعلاتن مستفعلاتن) كما اعتمدته باسم بحر الموفور.
2 – أن الشاعرة الرائدة نازك الملائكة هي أول من أطلق تسمية بحر الموفور ووزنه (مستفعلاتن مستفعلاتن) واعتمدته كبحر ذي تفعيلة صافية في الشعر الحر ونظمت عليه .
3 – إن اعتمدنا الوزن والبحر فالأولى أن نلحق به ما يسمى (مخلع البسيط) لورود أشطر وبيت منه في قصيدة الشاعر الكبير معروف الرصافي.
رحم الله شاعر العراق الكبير معروف الرصافي ورحم الله شاعرة العراق ورائدة الشعر الحر نازك الملائكة ويبقيان علمين من أعلام الشعر العربي.
فما رأي شعرائنا بهذا الوزن الجديد الذي اعتمده معروف الرصافي ونازك الملائكة ؟

للإطلاع على المخططات يمكن فتح الرابط التالي :

https://web.facebook.com/groups/rabi...1847769556993/

تحياتي وتقديري