الشاعر الكبير عباس شكر بين مجزوء المنسرح وبحرالموفور التام.


نشر الشاعر الكبير عباس شكر هذه الأبيات الأربعة وقدم لها أنها من المنسرح المهجور:
وطالما العمر كالثواني .... إلى المغيبْ
كلحظة الوصل لو تلاشت... فهل يطيبْ ؟

مغادراً كلُّ ما نراه.... لَكَم يخيبْ
بسهمها يبتغيهِ غرٌّ.... ولا يصيبْ

ولأول وهلة يعتقد أن البيت يتكون من شطرين الشطر الأول من ثلاثة تفعيلات والشطر الثاني من تفعيلة واحدة , وبالطبع هذا القول يخالف أهم قاعدة في بناء بيت الشعر العربي والذي لم يجز هذا الأسلوب في البناء.
إضافة إلى ما يلي :
وطالما العمر كالثواني .... إلى المغيبْ
لو أردنا قراءة الشطرين عروضيا فهما كالآتي:
وطالما العمر كالثواني ... إلى المغيبْ
متفعلن فاعلن فعولن ... متفعلان
وهكذا يتضح أن الشطر الأول هو من مخلع البسيط ولا علاقة له بالمنسرح, أما الشطر الثاني فهو لم يستوفِ أسس بناء البيت الشعري.
وشاعر كبير كالشاعر عباس شكر لا يمكن أن يتقبل هذا النظم حتى وإن تأثر بالشاعر الكبير الراحل عادل الدرة رحمه الله (وأرجو أن يصحح لي إن كنت على خطأ).
وبما أن الشاعر عباس شكر قدم للأبيات أنها من المنسرح المهجور فكيف هي إذن ؟
والحقيقة أنا سأكتبها بشكل ثاني:
وطالما العمر كالثَّـ * ـواني إلى المغيبْ
كلحظة الوصل لو تَــ * ـلاشت فهل يطيبْ ؟

مغادراً كلُّ ما نَــ * ـراه لَكَم يخيبْ
بسهمها يبتغيهِ * غرٌّ ولا يصيبْ

وهذا وزن المطلع كما يلي :
متفعلن فاعلاتُ * مستفعلن فعولُ
وكما يلاحظ أن الأبيات الثلاثة الأولى مدورة أما البيت الرابع فهو غير مدور.
ولما كان المنسرح التام هو :
مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن * مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن
فالمجزوء المهجور أو الذي لم يرد في مناهج العروض هو :
مستفعلن مفعولاتُ * مستفعلن مفعولاتُ
الأعاريض التي اعتمدها الشاعر هي (مفعولاتُ) المطوية (مفعلاتُ)
أما الضروب فهي من (مفعولاتُ) وبالطبع نعلم أنه لا يجوز الوقوف على متحرك بل ساكن وجاء الضرب مخبونا (فعولاتْ) ثم حذفت تاؤه وألفه وسكنت لامه للوقف. وهذه زحافات سبق وقلت أن الفراهيدي لم يسمها كما هي الحال في بحر السريع.
كما اعتمد الشاعر زحاف الخبن في مستفعلن , واعتمد الطي أيضا في الشطر الثاني من البيت الثالث.
لكن في الحقيقة ما لاحظته على أسلوب النظم الشعري في هذه الأبيات وخاصة الشطر الأول من كل بيت وكما يظهر من مخلع البسيط وما نظم عليه الشاعر الكبير معروف الرصافي قصيدته المشهورة التي كتبت عنها أنها من بحر الموفور ومطلعها:
سمعتُ شعرًا للعندليبِ * تلاهُ فوق الغصنِ الرَّطيبِ
متفعلاتن مستفعلاتن * متفعلاتن مستفعلاتن
وتظهر قراءة أخرى للأبيات وهي تعتمد على ما سبق وطرحته عن الموفور وما اعتمده معروف الرصافي ونازك الملائكة.
أما مستفعلاتن فهي ظهرت عندي في المنسرح بعدم اعتماد الوتد المفروق كما سبقني وتكلم عنها الدكتور إبراهيم أنيس كما ورد في كتابه موسيقى الشعر ص 139 – 140 .
والوزن هو (مستفعلاتن مستفعلن فاعلن) كوزن للمنسرح.
وعند تقطيع الأبيات المذكورة أعلاه
وطالما العمر كالثواني إلى المغيبْ
كلحظة الوصل لو تلاشت فهل يطيبْ ؟

ويمكن قراءتهما كما يلي :
متفعلاتن متفعلاتن متفعلان
متفعلاتن متفعلاتن متفعلان
أي أن الوزن الأصلي هو :
مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتْ * مستفعلاتن مستفعلاتن مستفعلاتْ
(بحذف التاسع الساكن وتسكين ما قبله في الأعاريض والضروب)
وبالخبن لكافة التفعيلات :
متفعلاتن متفعلاتن متفعلاتْ * متفعلاتن متفعلاتن متفعلاتْ
أي أن كل بيتين هما بيت واحد من البحر الذي أسمته نازك الملائكة بحر الموفور.
وهذا يؤدي إلى اعتبار هذا الوزن تاما وما نظم عليه معروف الرصافي هو المجزوء (مستفعلاتن مستفعلاتن).
وكما ظهر عند الرصافي في بعض الأبيات (مخلع البسيط) في قصيدته ظهر عند الشاعر عباس شكر أيضا حين فصل تفعيلتين عن التفعيلة الثالثة, كما أوضحت سابقا.
وهنا يمكن أن أقول أن الأبيات الأربعة ما هي إلا بيتان من بحر الموفور التام وجاءا مصرعين, وهما كما يلي :
وطالما العمر كالثواني إلى المغيبْ *
كلحظة الوصل لو تلاشت فهل يطيبْ
مغادراً كلُّ ما نراه لَكَم يخيبْ *
بسهمها يبتغيهِ غرٌّ ولا يصيبْ
ولو كنت أعترف بالمشطور لقلت أن الوزن هو مشطور الموفور لكنني دعوت سابقا لإسقاط المشطور لعدم توفر مقومات بيت الشعر العربي فيه.
وفي الحقيقة أيضا تظهر هناك مطابقة بين المنسرح والموفور :
فالمنسرح كما ذكرت بدون وتد مفروق هو :
مستفعلاتن مستفعلن فاعلن * مستفعلاتن مستفعلن فاعلن
ويمكن إعادة قراءته:
مستفعلاتن مستفعلاتن فعل * مستفعلاتن مستفعلاتن فعل
وفعل هنا عروضة وضربا من (مستفعلاتن) أي بحذف ثلاثة أسباب والإبقاء على الوتد.
أي أن الفرق بين الوزنين هو في الأعاريض والضروب فالموفور التام (مستفعلاتن) والمنسرح (فعل).
وهكذا يتضح لنا أن شاعر العراق الكبير معروف الرصافي وشاعرة العراق الرائدة نازك الملائكة أضافا للشعر العربي بحرا جديدا عذب الإيقاع والموسيقى الشعرية, وهو لا يبتعد كثيرا عن بحر المنسرح, بل يمكن أن يحتويه بعيدا عن دائرة المشتبه ووتدها المفروق المشكوك فيه.
وتم إعداد اللوحة الثانية وفق هذا المفهوم.
ويمكن ملاحظة اللوحتين والمقارنة بينهما لفهم ما طرحته أعلاه, ويظهر باللون الأحمر مواقع الزحافات في الإحتمالين.
وأترك اختيار نسب هذه الأبيات الأربعة للشاعر عباس شكر باعتبارها من مجزوء المنسرح الذي لم تشر إليه مراجع العروض كما بينت أعلاه, أو اعتبارها بيتين من بحر الموفور التام ليصطف بذلك مع الشاعر معروف الرصافي والشاعرة نازك الملائكة ... وإن لم يكن شاعرنا الكبير الراحل عادل الدرة قد نظم عليه فسيكون هنا السبق للشاعر عباس شكر في ذلك.
وأترك الحكم أيضا لشعرائنا فمنهم نستلهم ما يستسيغون وما تتقبله ذائقتهم الشعرية.
وأقدم الشرح واللوحتين هدية مني ومن رابطة الواحة الثقافية لشاعرنا الكبير عباس شكر.
وآمل أن تروق له ولكم...
ومرحبا بأي حوار أو نقاش حول الموضوع.


تحياتي وتقديري

وللإطلاع على المخططات فهي على الرابط التالي:


https://web.facebook.com/groups/rabi...7286342679802/