لا تبقى في المكان الذي لا تُعرَف فيه قيمتك . الجاحظ
وقفت الطفلة الصّغيرة منى أمام باب الغرفة المفتوح وقالت بصوت خافت مبحوح : أمي ! هل أنا حمارة ؟ نظر الأب الواقف أمام خزانة الملابس بدهشة إلى الأم الجالسة على طرف السّرير , كأنّ نظرته تقول : هل تسمعين ما أسمع ؟ قالت الأم بنبرة حانية لطيفة : لا أبدًا يا بنيّتي ! ما الذي جعلك تقولين هذا ؟ وأكملت منى شكواها : في طريقي إلى المدرسة أقرأ على الجدران كتابة كبيرة : منى حمارة , منى حمارة . قفزت الأم من السرير سريعًا وأمسكت الطفلة بقوّة من كتفيها واقتربت إلى وجهها وقالت بحنان أكبر : أفعلًا يكتبون ذلك ؟ تلعثم الأب وهو يقول : أكيد لا يقصدونك , ولا أحد يعرفنا هنا بعد , وكثيرات من إسمهنّ منى , قالت الطفلة الصّغيرة بحدّة : لا! الكتابة جديدة , لم أكن أراها حين جئنا أول مرة , ولا توجد فتاة غيري في المدرسة اسمها منى , وقد وجدت الكتابة محفورة على طاولتي . وكأنّ الطفلة قد أفحمته , أنزل الأب رأسه إلى الأرض , في حين قبّلت الأم ابنتها وقالت لها هامسة : اذهبي إلى النوم الآن وغدًا سأذهب معك إلى المدرسة وأرى ما الأمر , وتأكّدي أنّك طفلة ذكيّة جدًّا ومؤدّبة وأنتي تعرفين ذلك بكل تأكيد , ونحن نحبّك .
كأي حديث بين زوجين في الليل , يتّسم بالجديّة حين يتعلّق الأمر بالأبناء , قال الأب : الطفلة ذكيّة جدًّا وخجولة أيضًا , ربما يوجد من يتنمّر عليها ويُضايقها , خاصّة أنّ القرية نائية ومحرومة من كل وسائل الحضارة , ولا غرابة أن يوجد فيها بعض الأشقياء ناقصي التربية والثقافة , قالت الأم : الطفلة كانت تحظى باهتمام في مدرستها الأولى , حين كنّا في المدينة , وكانت تُعامَل معاملة خاصّة حين لاحظوا ذكاءها ومواهبها , وخجلها الشديد أيضًا , لكن كيف يصل الأمر إلى هذا الحد , لا أعتقد أنّ منى يمكنها أن تفتعل مشاكل مع أي أحد , هي بالكاد تكلّمنا نحن أو معلّمتها في القسم . قال الأب : هناك أمر هام يجب أن تتنبّهي له , الطفلة شكلها غريب , هي صغيرة الحجم , بيضاء على خدودها نقاط بنية , ترتدي نظارة طبية , وسكان هذه القرية بشرتهم سمراء تميل إلى السواد وحجمهم كبير , قالت الأم باستغراب : هل هذا الإختلاف في الشكل يكفي لكي يتنمّرون عليها هكذا ! ؟ أجاب الأب : نعم هذا الإختلاف في الشكل هو السبب الرئيسي لتنمّرهم , هناك من لا يتقبّل الإختلاف رغم أنّه سنّة الله في خلقه , ورغم أنّهم أطفالاً لكن تربيتهم وبيئتهم ترفض الإختلاف , صمتت الأم حزينة قلقة وهي تنتظر بزوغ خيوط الصّباح الأولى .
في الصباح تناولوا فطورهم في حديقة البيت كغير العادة , وحاول الوالدان إشاعة جو من المرح لكن منى كعادتها لا تضحك كثيرًا , تكتفي بابتسامة خجولة عند أكثر المواقف إضحاكًا , أوصلهما الأب بسيّارته إلى أول الطريق المؤدي إلى المدرسة , قبّل ابنته الصّغيرة وتوجّه إلى أمّها قائلًا بصوت هاديء رزين : لا أوصيك !, كوني لطيفة وحاولي أن تعرفي ما الذي حدث دون أن تلقي بلومك على أي أحد حتى نتحرّى الأمر جيّدًا ونعرف ما الذي يمكننا فعله , ابتسمت الأم وأمسكت يد ابنتها بقوّة ودخلت الشوارع الضيّقة المؤديّة إلى المدرسة بخطوات جادّة سريعة , وبدأت العبارة اللعينة تظهر على كل جدار يمرّون به , منى حمارة , منى حمارة , الطفلة كانت تمشي صامتة , والأم كانت تنتحب من الداخل , سكاكين حادة تُغرز في قلبها مع كل كتابة وحائط يمرّون به , ودموع صامتة مخفيّة تحرق عينيها .
حين وصلت منى مع أمها إلى باب المدرسة تجمّع التلاميذ وأخذوا يرقبونها ويضحكون , حاولت الأم أن تتجاهل وبقيت تمسك بيد صغيرتها حتى وصلا إلى قسمها , ثم رأت المعلم قادم من بعيد , قالت له : صباح الخير , لم يجبها ودخل القسم , تبعته الأم قائلة وهي تحاول جاهدة الحفاظ على هدوئها : هل يمكنني أن أعرف ماذا يحدث هنا ؟ ! صرخ المعلم كمن كان ينتظر فرصة المواجهة : ابنتك لا تعرف شيئًا ولا تتكلّم !! هل هي خرصاء أم هي حمقاء مغرورة متكبّرة . أبعدت الأم ابنتها وأخفتها وراءها وقالت للمعلم : هذه الطفلة كانت الأولى في مدرستها وهي ذكيّة ومتأدّبة , وموهوبة في الرّسم والموسيقى , ضحك بأعلى صوته حين سمع الكلمة الأخيرة : موسيقى !! وهل هي موهوبة في الرقص أيضًا . استدارت متوجّهة مع الصّغيرة منى إلى مكتب المدير , لا يمكن اعتباره مكتبًا , ولا يمكن اعتباره مديرًا , المكتب يعج بحركة فوضويّة بين داخل وخارج , والمدير رجل أسمر ضخم يرتدي عمامة قال لها : أرسلي والدها نحن لا نتكلّم مع النساء !! خارج باب المدرسة جلس بعض الصّغار الأشقياء , قال أحدهم : هذا هو من كتب : منى حمارة ! ذهبت اليه الأم قائلة : صحيح أنت من كتبتها ؟ قال لها : لست وحدي , قالت الأم : لماذ تكتبون ذلك ؟ هل فعلت لكم منى أي شيء يزعجكم ؟ قال الطفل : لا لم تفعل شيئًا , لكن المعلم كل يوم يوقفها ويقول لنا : منى حمارة , قولوا جميعًا منى حمارة , ونحن نردّد ذلك !
في المساء كانت الأم تجمع حقائب العودة إلى الديار , لقد جاؤوا وراء منصب الأب الجديد لكن مصير ابنتهما أهم . وفي الصباح كان الأب يشق بسيّارته دروب القرية الوعرة فارًّا بأسرته من جحيمها , والأم تكلّم ابنتها منى بطريقة حالمة : ستعودين إلى مدرستك التي تقدّرك وتحترمك , تكملين تفوّقك الدّراسي وتمارسين هواياتك الفنيّة , ترسمين وتعزفين وتنمّين مواهبك ونحن معك لتحقّقي لك ولنا كل المنى يا منى , ولا أحد بعد الآن يُمكنه أن يُزعجك , هنا صرخ طفل خلف زجاج نافذة السيارة : منى حمارة ! ابتسمت الأم ثم ابتسم الأب , أمّا منى فضحكت بأعلى قهقهة وهي تقول وتضحك : منى حمارة .