نقد كتاب الكذب
استهل الكاتب الكتاب بذكر الكذب فى كتب اللغة فقال:
"قال ابن منظور: الكذب نقيض الصدق كذب، يكذب، كذبا، وكذبا، وكذبة، وكذبة هاتان عن اللحياني وكذابا وكذابا وقال أيضا : ورجل كاذب،وكذاب، وتكذاب، وكذوب، وكذوبة، وكذبة مثل همزة، وكذبان، وكيذابان، وكيذبان، ومكذبان، ومكذبانة، وكذبذبان، وكذبذب، وكذبذب"
وبعد هذا عرف الكذب فقال:
"وحقيقة الكذب هي الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع، وليس الإخبار مقصورا على القول، بل قد يكون بالفعل، كالإشارة باليد، أو هز الرأس، وقد يكون بالسكوت "
وهذا التعريف ليس سليما فكلمة الكذب فى القرآن لا تعنى شيئا واحد والغالب فى القرآن من معانى الكذب هو التكذيب أى الكفر بحسب ما يضاف إليه فهناك تكذيب الرسل كما فى قوله تعالى "ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا" وهناك تكذيب بيوم الدين كما فى قوله تعالى "الذين يكذبون بيوم الدين" وهناك التكذيب بآيات الله كما فى قوله تعالى " والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب"
وهناك التكذيب بالكتاب كما فى قوله تعالى"الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا"
وهناك التكذيب بالحق كما فى قوله تعالى "فقد كذبوا بالحق لما جاءهم"
" وهو التكذيب بالصدق وهو نفسه الحق كما فى قوله تعالى"وكذب بالصدق إذ جاءه" وهناك التكذيب بالله ورسوله كما فى قوله تعالى
"وقعد الذين كذبوا الله ورسوله" وهناك التكذيب بلقاء الله كما فى قوله تعالى"قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله"

وهناك الكذب بمعنى الباطل أى نسبة الباطل لله كما فى قوله تعالى" انظر كيف يفترون على الله الكذب" وأيضا قوله: "ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون"وأيضا قوله تعالى " وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى"
وهناك الكذب بمعنى خداع النفس كما فى قوله تعالى "انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون"
وهناك الكذب بمعنى الإجرام أو الظلم أو غيره كما المقارنة بين قوله تعالى "فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين "وقوله "فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين"
وهناك الكذب بمعنى التزوير أى تبديل شىء حقيقى بشىء أخر حقيقى كدم يوسف(ص) الذى استبدلوه بدم أخر وفى هذا قال تعالى "وجاءوا على قميصه بدم كذب"
وأما الكذب بمعنى قول غير الذى حدث فقد جاء فى قصة يوسف(ص) وامرأة العزيز حيث ادعت المرأة أن يوسف(ص) من اعتدى عليها بينما كانت هى المعتدية وهو قوله تعالى:
"قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين"
ومن ثم فالكذب له معانى متعددة وليس معنى واحد وهو قول غير الحقيقة
وقال الكاتب فى ذم الكذب والكاذبين :
"لا شك أن الكذب عمل مرذول، وصفة ذميمة؛ فهو من خصال النفاق، ومن شعب الكفر، بل إن الكفر نوع من أنواعه؛ فالكذب جنس، والكفر نوع تحته والكذب من أسباب رد القول، ونزع الثقة من الكاذب، والنظر إليه بعين الخيانة والكذب دليل ضعة النفس، وحقارة الشأن؛ وخبث الطوية والكذاب مهين النفس، بعيد عن عزتها المحمودة والكذاب يقلب الحقائق؛ فيدني البعيد، ويبعد القريب، ويقبح الحسن، ويحسن القبيح قال النبي "محذرا من الكذب: وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا
قال الماوردي: والكذب جماع كل شر، وأصل كل ذم؛ لسوء عاقبته، وخبث نتائجه؛ لأنه ينتج النميمة، والنميمة تنتج البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن ولا راحة؛ ولذلك قيل: من قل صدقه قل صديقه وقيل في ذم الكذاب: لا تطلبوا الحوائج من كذاب؛ فإنه يقربها وإن كانت بعيدة، ويبعدها وإن كانت قريبة وقيل: ليس لكذوب مروءة، ولا لضجور رياسة وقال رجل لأبي حنيفة: ما كذبت قط، فقال: أما هذه فواحدة وقيل في منثور الحكم: الكذاب لص؛ لأن اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك وقال بعض الشعراء:
وما شيء إذا فكرت فيه
بأذهب للمروءة والجمال
من الكذب الذي لا خير
وأبعد بالبهاء من الرجال
وقال آخر:
إذ ما المرء أخطأه ثلاث
فبعه ولو بكف من رماد
سلامة صدره والصدق منه
وكتمان السرائر في الفؤاد
وقال الحسن: الكذب جماع النفاق
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله: إياك أن تستعين بكذوب؛ فإنك إن تطع الكذوب تهلك وقال ابن حبان: اللسان سبع عقور؛ إن ضبطه صاحبه سلم، وإن خلى عنه عقره، فالعاقل لا يشتغل بالخوض فيما لا يعلم، فيتهم فيما يعلم؛ لأن رأس الذنوب الكذب، وهو يبدي الفضائح، ويكتم المحاسن وإن مما يؤسف عليه في هذه الأزمان المتأخرة كثرة الكذب، وقلة الصدق؛ فما أقل من يصدق في حديثه، وعلاقاته، ومعاملاته"

وبالقطع الكذب بمعنى قول غير الحقيقة ليس مذموما أى محرما كله والصدق بمعنى قول الحقيقة ليس ممدوحا أى مباحا كله
وتعرض الكاتب لما سماه مظاهر الكذب فى المجتمع فقال :
"من مظاهر الكذب المنتشرة بين الناس ما يلي:
1 الكذب على الله ورسوله": كحال من يفتي بغير علم، ويقول على الله ورسوله الكذب، فيضل، ويضل، ويهلك، ويهلك قال تعالى : [ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون] وكحال من يكذب على رسول الله"فتجد من يكذب عليه؛ للترغيب أو للترهيب، أو لترويج بدعة أو ضلالة، أو غير ذلك قال"في الحديث المتواتر: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
2 الكذب في البيع والشراء: كحال من ينفق سلعته بالأيمان الكاذبة، ومن يغش المشتري بجودة بضاعته فما أكثر ما يقع هذا بين الناس، مع عظم خطورته وشدة الوعيد فيه قال":اليمين الكاذبة منفقة للسلعة، ممحقة للكسب وقال: من غشنا فليس منا وقال: من غش فليس مني
3 الكذب لإفساد ذات البين: فبعض الناس عياذا بالله لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرارحتى يفسد ذات البين، ويفرق شمل المتحابين، فتراه يختلق الأقاويل، وينسج الأباطيل تلو الأباطيل؛ ليفسد بذلك ذات البين، ويحل محلها القطيعة والبين فهذا العمل بلية عظيمة، ورزية جسيمة؛ فكم تقطعت لأجله من شواجر، وكم تفصمت من روابط، وكم تحاصت من أرحام ولا يقوم بهذا الصنيع إلا دنيء النفس حقيرها، فإصلاحه عزيز، والحيلة معه قليلة، وصدق من قال:
لي حيلة فيمن ينم
وليس في الكذاب حيله
من كان يخلق ما يقو
ل فحيلتي فيه قليله
4 الكذب لإضحاك السامعين وتشويقهم: فتجد من يكذب في مجامع الناس ومجالسهم؛ حتى يصدر في المجلس، ولأجل أن يستظرفه الناس، ويستطرفوا حديثه، ويستعذبوه؛ فتراه يأتي بالغرائب، ويغرب في العجائب، ويسوق ما لا يخطر ببال، ولا يدور حول ما يشبهه خيال

5 الكذب للمفاخرة في إظهار الفضل: فهناك من يكذب؛ ليفاخر أقرانه، ويظهر فضله عليهم، فتراه يدعي العلم، ويظهر الفضل، ويتشدق بكثرة الأعمال والإحسان إلى الناس، وهو عاطل من ذلك كله؛ فلا فضل لديه، ولا علم عنده، ولا إحسان يصدر منه، وإنما يكذب في ذلك كله؛ ليظهر فضله، ويفاخر أقرانهومنهم من يكون صاحب فضل وإحسان، ولكنه يبالغ في وصف أعماله، وأفضاله، وإحسانه إلى الناس، مما يدخله في باب الكذب، ويجعل الآذان تمجه، والقلوب تنفر منه
6 الكذب على المخالفين؛ تشفيا منهم ونكاية بهم: فهناك من إذا خالفه أحد، أو كان بينه وبين أحد عداوة بدأ يبحث عما يشفي غليله من هذا المخالف أو المعادي، فتراه يكذب عليه، ويلصق التهم به، ويغري به عند أصحاب المناصب وأرباب الولايات؛ رغبة في إلحاق الأذى بهذا المخالف أو المعادي
7 الكذب المقرون بالحسد: فهناك من إذا رأى أحدا من الناس متفوقا في العلم، أو مترقيا في الفضائل، أو غير ذلك يحسده على ذلك، فيقلل من شأنه، ويرميه بكل نقيصة، ويتهمه بما ليس فيه؛ حتى يصرف الناس عنه، ويشككهم في إخلاصه وصدقه وجدارته
8 الكذب في المطالبات والخصومات: فقل من يصدق حال المطالبات أو الخصومات، وهذا ما يشاهد مرارا وتكرارا عند الخصومات في المحاكم وغيرها، وعند حوادث السيارات، فقل أن تجد من ينصف من نفسه، ويقر بخطئه، بل تجد من يكذب؛ كي لا يكون الحق عليه؛ فيتحمل تبعته
9 الكذب للتخلص من المواقف المحرجة: كحال من يكذب على والديه، أو مدرسيه، أو مسئوليه؛ خوفا من العقاب أو العتاب
10 المبالغة في القول: كحال من يبالغ في تصوير حدث أو قضية مبالغة تجعل السامع يفهم منه أكثر من الحقيقة
11 حذف بعض الحقيقة: كحال من يحذف من الكلام ما لا يروقه، ولا يوافق هواه؛ لأجل أن يصل إلى غاية تهواها نفسه أما من حذف من الكلام ما لا يخدم مصلحة عامة، أو جمع كلمة أو نحو ذلك فلا يدخل في قبيل الكذابين، بل هو مصلح محسن
12 الكذب على النفس: كمن يحاول أن يقنع نفسه بأنه بذل ما في وسعه، واستنفذ كل طاقته، لأداء ما يجب عليه؛ ليسلم من عتاب النفس وتوبيخها، وهو في الحقيقة لم يفعل شيئا من ذلك
13 الكذب لتسويغ الأخطاء: فما أكثر ما يقع ذلك، فهذا يكذب ليسوغ بخله، وهذا يكذب ليسوغ قسوته، وهذا يكذب ليسوغ تقصيره أو إساءته، وهكذا
14 الكذب لاستدرار العطف، وكسب المؤيدين: كحال من يكذب في مسألة الناس واستجدائهم، فتراه يظهر الفقر والفاقة، ويوهم بأن الديون قد ركبته، ولم يعد له طاقة في سدادها، أو يزعم أنه مريض، أو يقوم على رعاية مريض، وربما حمل معه صكا يوهم أنه معسر ومحتاج إلى المساعدة وكحال من يكذب لكسب المؤيدين، أو لترويج فكرة يدعو إليها
15 التملق لأرباب الثراء وأصحاب المناصب: فمن الناس من يتزلف لهؤلاء، ويمدحهم بما ليس فيهم، ويخلع عليهم صفات لا يستحقونها، مع علمه أنهم أقل من ذلك، وأنهم لا يستحقون ما أضفي عليهم، ولكنه يتملقهم، ويتزلف إليهم؛ لينال عندهم مالا أو حظوة أو جاها
16 الكذب في دعوى المحبة والصداقة: وذلك كحال من يدعي محبة فلان أو فلان من الناس، ويدعي لمن يقابلهم أو لبعضهم أنهم أقرب الناس إلى قلبه، وأنهم أعزهم إليه وإذا خلا عنهم عض عليهم الأنامل من الغيظ، وسلقهم بلسان حاد يقطر ضغينة وحقدا ولا ريب أن ذلك مخالف للمروءة؛ فإن من أعظم آداب صاحب المروءة أن يكون صريحا صادق اللهجة، مترفعا عن النفاق والمواربة؛ فلا يبدي لشخص الصداقة وهو يحمل له العداوة، ولا يشهد له باستقامة السيرة وهو يراه منحرفا عن سواء السبيل، قال الحكيم العربي:
فسر كإعلاني وتلك خليقتي
وظلمة ليلي مثل ضوء نهاريا

والمراد أن صاحب المروءة لا يتخذ الظهور بخلاف ما يضمر عادة له، كحال ما يفعله قوم لا تشمئز نفوسهم من الملق والرياء أما إذا اقتضت الحكمة إخفاء بعض ما يضمر من نحو العداوة والصداقة فذلك من مكملات المروءة
17 نقل الأخبار الكاذبة: كحال من ينقل الأخبار الكاذبة مع علمه بكذبها، فمن كان هذا دأبه فهو كذاب، ومشارك للكذاب في الإثم
18 الكذب السياسي: الذي يقوم على القاعدة الميكافيلية التي تقول: إن الغاية تبرر الوسيلة أو الغاية تسوغ الواسطة وهذه القاعدة الفاجرة الكافرة يأخذ بها غالبية السياسيين ومن الأمثلة على ذلك ما نراه من حال من يتقدمون لترشيح أنفسهم لرئاسة دولة من الدول، فترى الواحد من هؤلاء يسعى لكسب المؤيدين، واستقطاب الأصوات؛ ليفوز بالانتخابات، ويتربع على كرسي الحكم فتراه يسلك في ذلك السبيل ألوانا من الزيف والكذب والخداع، وتخدير الشعوب بالأماني الباطلة، والوعود المعسولة الكاذبة وما إن يستولي على الأمد، ويحرز قصب السبق إلا ويتنكر لمن أيده، ويقلب لهم ظهر المجن، فيستبد بالثروات، ويتلاعب بالمقدرات، ويسوم الشعوب سوء العذاب
19 الدجل الإعلامي: الذي يقلب الحقائق، ويلبس على الناس، فيرفع الأقزام، ويضع الأعلام، ويغري بالرذيلة، ويزري بالفضيلة فيالله كم أفسد من عقول، وكم قلب من حقائق، وكم برأ من مفسد مجرم، وكم نال من مصلح بريء
20 التوسع في باب المصلحة: فمن الناس من يتوسع في باب المصلحة، فتجده يتأول لنفسه الكذب باسم المصلحة، فيبطل الحق، ويحق الباطل، ويبرئ المتهم، ويتهم البريء؛ زعما منه أن يحسن صنعا، وأنه لم يكسب إثما، وأنه يروم المصلحة، ويدفع المفسدة

21 المبالغة في المعاريض: لا ريب أن في المعاريض مندوحة عن الكذب، ولكن هناك من يبالغ في المعاريض، ويتوسع فيها توسعا يخرجه عن طوره، ويجعله يدخل فيها ما ليس منها، فتجده يقلب الحقائق، وينال من الآخرين، ويلبس عليهم، ويحصل على مآربه بالمراوغة والمخاتلة، مما يوقعه في الكذب، فتفقد الثقة به، وبحديثه
أما إذا اقتضت الحكمة أن يلجأ الإنسان إلى المعاريض فلا بأس؛ ذلك أن الإنسان في هذه الدنيا معرض للبلاء ومن أشد البلاء ما يمنعك من أن تقضي حق فضيلة؛ فقد يلاقي الإنسان حالا ترغمه على أن ينطق بما يكره، أو أن يسلك في القول ما لم يألف
ولو وقف على علم الأخلاق أمام هذه الأحوال المرغمة صلبا جامدا لضاقت سبيله، ولوجدت بعض النفوس مناصا للخروج عليه
إلا أن علم الأخلاقالذي أرسى الإسلام قواعده، ورفع منارهفسيح الصدر بمقدار ما يسع مقتضيات الحياة الفاضلة
فصدق اللهجة يعد من الفضائل؛ نظرا إلى ما هو شأنه من حفظ المصالح ودرء المفاسد، ولو عرضت على وجه الندرة حال يكون حديث الرجل فيها على نحو ما يعلم جالبا عليه، أو على غيره ضررا فاحشالوجد في نظام الأخلاق مرونة تسمح له بأن يصوغ حديثه في أسلوب لا يجلب ضررا
فإذا وقع الإنسان في حال لا يليق معه التصريح بأمر واقع، ولم يكن بد من أن يقول في شأنه شيئا فها هنا يفسح له أن يأخذ بالمعاريض
والمعاريض: هي ألفاظ محتملة لمعنين؛ يفهم السامع منها معنى، ويريد المتكلم منها معنى آخر
وإن شئت فقل: هي ألفاظ ذات وجهين، أحدهما: غير حقيقة، وهو ما يسبق إلى فهم السامع
وثانيهما: حقيقة، وهو ما يقصده المتكلم
فهذه الحالة لا تخرج المرء من أهل الصدق، ولا تلحقه بزمرة الكذابين
وهذا ما يفعله الذين أشربوا صدق اللهجة متى عرفوا أن في القول الصريح حرجا، أو خطرا

22 الكذب على الأولاد: فكثيرا ما يكذب الوالدان على أولادهما الصغار؛ رغبة في التخلص منهم، أو تخويفا لهم؛ كي يكفوا عن العبث واللعب، أو حفزا لهم كي يجدوا في أمر ما، أو غير ذلك
هذه بعض المظاهر الشائعة في الكذب
أما دوافع الكذب فكثيرة، منها الخوف من النقد، والخوف من العقاب أو العتاب، ومنها إيثار المصلحة العاجلة، ومنها قلة مراقبة الله والخوف منه، ومنها اعتياد الكذب وإلفه، ومنها البيئة والمجتمع، ومنها سوء التربية إلى غير ذلك من دوافع الكذب التي مر ذكر شيء منها عند الحديث عن مظاهر الكذب"

وبعد أن ذم الرجل الكذب والكذابين ذما تاما عاد ورجع إلى الحقيقة وهو وجود كذب مباح فقال:
"ولا شك أن الذي يصلح بين الناس، ويقول الخير، أو ينمي الخير ليس بكذاب
قال النبي": ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، ويقول خيرا، أو ينمي خيرا
قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها
قال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: قال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصور، واختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو ؟
فقالت طائفة: هو على إطلاقه، وأجازوا ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة وقالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة، واحتجوا بقول إبراهيم": بل فعله كبيرهم، وإني سقيم، وقوله: إنها أختي، وقول منادي يوسف ": أيتها العير إنكم لسارقون
قالوا: ولا خلاف أنه لو قصد الظالم قتل رجل هو عنده مختف وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو
وقال آخرون منهم الطبري: لا يجوز الكذب في شيء أصلا، قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا: المراد به التورية، واستعمال المعاريض لا صريح الكذب، مثل أن يعد زوجته أن يحسن إليها، ويكسوها كذا، وينوي إن قدر الله ذلك؛ وحاصله أن يأتي بكلمات محتملة يفهم المخاطب منها ما يطيب قلبه
وإذا سعى في الإصلاح نقل عن هؤلاء إلى هؤلاء كلاما جميلا، ومن هؤلاء إلى هؤلاء كذلك، وورى وكذا في الحرب بأن يقول لعدوه مات إمامكم الأعظم، وينوي إمامهم في الأزمان الماضية، أو غدا يأتينا مدد أي طعام ونحوه، هذا من المعاريض المباحة؛ فكل هذا جائز
وتأولوا قصة إبراهيم ويوسف وما جاء من هذا على المعاريض والله أعلموأما كذبه لزوجته وكذبها له فالمراد به في إظهار الود، والوعد بما لا يلزم، ونحو ذلك فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها فهو حرام بإجماع المسلمين والله أعلم"

وحتى لا ندع الموضوع بلا بيان نقول:
الكذب المباح :
لقد حرم الله الصدق فى ثلاث أحوال :
1- البر وهو الإحسان والمراد دعوة الناس لاعتناق الإسلام عند عنادهم
2- التقوى وهى منع الأذى عن النفس أو الغير من المسلمين والمراد منع ضرر الكفار عن المسلمين .
3- الإصلاح بين الناس وهو التوفيق بين المتخاصمين سواء كانوا طوائف من المسلمين أو زوج وزوجة أو ابن ووالديه أو غير هذا من الذين يقع بينهم الخصام ومما ينبغى قوله أن الله لم يبح الكذب فقط فى هذه الأحوال وإنما أباح أن نقسم به على هذا الكذب أى بألفاظ الآية نجعله عرضة لأيماننا وفى هذا قال تعالى بسورة البقرة "ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم "ومن تمام القول أن الكاذب فى تلك الأحوال مثاب على كذبه أى الكذبة بعشر حسنات.
الكذب عند الإكراه :
إن الكاذب عند الله هو من كفر بوحى الله من بعد إيمانه به وقد استثنى الله من الكاذبين الكاذب الذى أكره أى أجبر على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان وهذا يعنى الحال الثانى فى آية سورة البقرة فالمسلم هنا يعترف أنه كافر بالوحى الإلهى وذلك خوفا من أذى الكفار وفى هذا قال تعالى بسورة النحل "وأولئك هم الكاذبون من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان "ومن هنا نعلم أن المسلم إذا وجد فى مكان يزداد فيه عدد الكفار على عدد المسلمين ويكون للكفار فيه السلطة عليهم فواجبه هو إعلان كفره رغم إيمانه إذا طلب منه الكفار ذلك وذلك حتى لا يحدث له مكروه مثل التعذيب أو القتل .
الكذب فى الدعوة :
أقسم إبراهيم (ص)على تحطيم أصنام قومه بعد أن يخرجوا من المعبد وقد نفذ قسمه فحطم كل الأصنام ما عدا صنم يعتبر صاحبه كبير عند القوم وفى هذا قال تعالى بسورة الأنبياء "وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم "ولما أحضروا إبراهيم (ص)لسؤاله قالوا له هل أنت الذى حطمت أصنامنا يا إبراهيم؟ فكذب إبراهيم (ص)قائلا :بل فعله كبيرهم هذا ،فهو هنا نسب التحطيم للصنم الكبير رغم أنه هو المحطم والسبب أن ينجح فى إقامة الحجة فى الدعوة على القوم ولذا قال لهم اسألوهم إن كانوا ينطقون وهذه هى الحجة التى كذب من أجلها وفى هذا قال تعالى بسورة الأنبياء "قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون "وقد أثمر الكذب ثمرة حسنة فاعترف الكفار فى أنفسهم أنهم ظالمون بعبادتهم للأصنام وفى هذا قال تعالى بسورة الأنبياء "فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون "وبالطبع قتل الكفار هذه الثمرة الحسنة وعادوا إلى كفرهم وعادوا لمجادلته وقد نسب إبراهيم (ص)كذبة أخرى فى الدعوة وهى قوله إنى سقيم وذلك عندما نظر للنجوم والحق هو أن كلمة سقيم لا تعنى أنه كان مريض بمرض فى الجسم وإنما تعنى أنه ضال يطلب الهداية من النجوم أمام القوم وذلك حتى يثبت لهم أن النجوم لا تهدى أى لا تشفى من الضلال وهذه كذبة أخرى الهدف منها هو تعريف الناس أن النجوم غير قادرة على هداية أحد من الناس لأنها أدبرت أى زالت ولم تنزل الهداية عليه أمامهم وفى هذا قال تعالى بسورة الصافات "إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين فنظر نظرة فى النجوم فقال إنى سقيم فتولوا عنه مدبرين "ومن هنا نعرف أن الكذب فى مجال الدعوة لاعتناق الإسلام مباح ما دام الكفار قد أغلقوا عقولهم أمام الصدق الكلامى
الكذب للإصلاح :
لقد قام يوسف(ص) بتدبير وتخطيط كذبة الهدف منها الإصلاح بين أسرته وهم أبوه يعقوب (ص)وهو وأخوه من الأم الثانية واخوته من الأم الأولى وقد تمثلت فى اتفاقه مع أخيه على إعلان هذا الأخ لص وسارق وذلك بوضع صواع الملك فى رحله على أن يتم إعلان عام عن السرقة وبالتفتيش يثبت أنه الأخ مدان وفى هذا قال تعالى بسورة يوسف "ولما دخلوا على يوسف أوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون "وبعد هذا بدأ يوسف (ص)التفتيش بتفتيش أوعية اخوته من الأب ثم فتش وعاء أخيه وأخرج منه السقاية وفى هذا قال تعالى بنفس السورة "فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه "وكان الهدف الثانى من هذا التدبير هو اعتراف الاخوة بالخطأ القديم وقد اعترفوا فقالوا كما فى السورة "تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين "وقد تحقق الهدف الأكبر وهو جمع الكل فى مكان واحد كما قال يوسف (ص)فى السورة "اذهبوا بقميصى هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأتونى بأهلكم أجمعين "وهذه الكذبة المدبرة كانت كذبة من أجل الإصلاح بين الناس المتمثلين فى الأب والأبناء .
الأيمان الكاذبة :
بين الله لنا أن الأيمان أى الحلفانات أى الأقسام الكاذبة التى تسمى اللغو أى الكذب غير المتعمد والمراد الكذب الذى لا يريده الإنسان غير مؤاخذ عليه والمراد أن كل قسم على كذب لا يحبه الإنسان غير معاقب عليه عند الله وهذا يعنى إباحة الكذب فى القسم ما دام المقسم لا يحب هذا الكذب وفى هذا قال تعالى بسورة المائدة "لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم "
دوافع الكذب :
إن الإنسان يكذب لدوافع أى لأسباب كثيرة منها ما بينها الله فى قوله بسورة البقرة "لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس "فأسباب الكذب هنا :
1-البر وهو الإحسان للأخرين بدعوتهم للإسلام .
2-التقوى وهى منع الأذى عن المسلمين .
3-الإصلاح بين الناس
4- الخوف من كلام الناس وذلك كما فعل الرسول (ص)عندما كذب على زيد فقال له أمسك عليك زوجك رغم علمه أن الله أخبره بأن زيد لابد أن يطلقها والسبب هو خشية الرسول (ص)للناس والمراد خوف النبى (ص)من أقوال الناس وقد ذكره الله بالحق وهو أن الله أحق أن يخشاه وفى هذا قال تعالى بسورة الأحزاب "وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه "وهذا الدافع محرم على عكس الدوافع الثلاثة الأولى فهى محللة .
شهادة الزور أى الكذب :
وصف الله المسلمين بأنهم لا يشهدون الزور أى لا يقرون الكذب المحرم وفى هذا قال تعالى بسورة الفرقان "والذين لا يشهدون الزور ".
عقوبات لبعض الأكاذيب :
1- اليمين المعقود وهو القسم إذا كان كذبا أو لم يقدر الإنسان على تنفيذه وعقوبته هى عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو صيام ثلاثة أيام إن لم يجد المقسم ما ينفذ به العقوبات الثلاث الأولى وفى هذا قال تعالى بسورة المائدة "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ".
2- شهادة الزور وهى اتهام إنسان بجريمة كذبا وعقوبتها ثمانين جلدة بالإضافة لعقوبات أخرى إذا ترتب على شهادتهم إقامة حد على متهم برىء وفى هذا قال تعالى بسورة النور "والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ".
3- المظاهرة وهى تحريم الزوج لزوجته كأمه وعقوباتها هى تحرير رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا وفى هذا قال تعالى بسورة المجادلة "والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ".
4- التقول على الله من قبل الرسول (ص)وعقوبته الأخذ باليمين ثم قطع الوتين منه وفى هذا قال تعالى بسورة الحاقة "ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ".

وتعرض الكاتب للصدق وكالعادة مدحه فقال :
"مر بنا الحديث عن الكذب وعن بعض مظاهره ودوافعه؛ فما أحرى بالعاقل اللبيب أن يحذر الكذب، وأن يلزم الصدق؛ فالصدق منجاة، والكذب مهواة
والله سبحانه وتعالى أمر بالصدق، وأثنى على الصادقين قال تعالى : [ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ]
وقال النبي (ص): عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا
والصدق هو أن يخبر الإنسان عما يعتقد أنه الحق، وأنه مطابق للواقع بلا زيادة ولا نقصان، وبلا وكس ولا شطط وليس الإخبار أيضا مقصورا على القول فحسب، بل قد يكون بالفعل، كالإشارة باليد، أو هز الرأس، وقد يكون بالسكوت ولا ريب أن الصدق خصلة محمودة، وسجية مرغوبة، تألفها الفطر السوية، وتدعو إليها الشرائع السماوية
قال ابن حبان : الصدق يرفع المرء في الدارين، كما أن الكذب يهوي به في الحالين، ولو لم يكن الصدق خصلة تحمد إلا أن المرء إذا عرف به قبل كذبه، وصار صدقا عند من يسمعه لكان الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في رياضة لسانه؛ حتى يستقيم له على الصدق ومجانبة الكذب

وقال بعض الحكماء: عليك بالصدق؛ فما السيف القاطع في كف الرجل الشجاع بأعز من الصدق، والصدق عز، وإن كان فيه ما تكره، والكذب ذل وإن كان فيه ما تحب، ومن عرف بالكذب اتهم في الصدق
وقيل: الصدق ميزان الله الذي يدور عليه العدل، والكذب مكيال الشيطان الذي يدور عليه الجور
وقال بعض الحكماء: الخرس خير من الكذب، وصدق اللسان أول السعادة
وقال بعض البلغاء: الصادق مصان خليل، والكذب مهان ذليل
وقال بعض الأدباء: لا سيف كالحق، ولا عون كالصدق"

وما قيل هنا عن الصدق بمعنى قول ما حدث ليس صحيحا كله لوجود صدق محرم وهو ما نبينه من خلال التالى:
الصدق المحرم :
1- الغيبة :هى ذكر الأخ أو الأخت الغائب بما يكره صدقا دون طلب من الغير سواء القضاء أو أهل الخاطب أو المخطوبة وفى هذا قال تعالى بسورة الحجرات "ولا يغتب بعضكم بعضا "
2- التزكية :هى مدح الإنسان لنفسه حقا أو باطلا وفى هذا قال تعالى بسورة النجم "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى "وليس من التزكية بيان الإنسان مميزاته فى الوظيفة .
3- السخرية :هى الاستهزاء بالأخرين بالصدق والمراد تذكير الأخرين بما يحزنهم من الموجود فى الواقع مثل ذكر مرضهم أو عاهتهم وهى الاستهزاء أيضا بالباطل وفى هذا قال تعالى بسورة الحجرات "يا أيها الذين أمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم "

والغريب فى الكتاب أن الرجل بدلا من تفصيل كل شىء عن الكذب فى كتاب يحمل اسم الكذب فصل الحديث عن الصدق فبين مثلا ما يعين على الصدق ولم يبين ما يمنع الكذب أو يساعد على انتشاره ومثلا بين آثار الصدق ولم يبين آثار الكذب وهو ما تعبر عنه الفقرات القادمة:
"وإذا كان الصدق بهذه المثابة فالواجب علينا معاشر المسلمين أن نلزم الصدق ونتحراه، وأن نوطن أنفسنا على الأخذ به، وأن يكون هيئة راسخة، يعتمده الواحد منا في جميع أحواله، لا أن يكون موسميا أو مرتبطا بحالة معينة
لا شك أن التزام الإنسان الصدق في كل ما يقول ويفعل يستلزم مشقة كبيرة، ويحتاج إلى جهد وعناء، ويتطلب صدق عزيمة، ورياضة نفس، وصبرا وشجاعة ومهما يك من شيء فهناك أمور تعين على ذلك، ومنها:
إذا صح عون الخالق المرء لم يجد
عسيرا من الآمال إلا ميسرا
1 الاستعانة بالله عز وجل : وذلك بسؤاله الإعانة والتسديد والتوفيق، فمن أعانه الله، وسدده ووفقه هانت عليه المصاعب، وخفت عليه المتاعب، كما قيل:أما إذا خذل الإنسان ووكل إلى نفسه فإنه سيخيب مسعاه، ويضيع جهده، كما قيل:
إذ لم يكن عون من الله فأول ما يجني عليه اجتهاده
2 مراقبة الله واستشعار اطلاعه جل وعلا : فإذا راقب العبد ربه، واستشعر اطلاعه عليه، واستحضر أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد انبعث إلى التزام الصدق، وتجنب الكذب
3 تعويد النفس على الصدق، وتوطينها عليه: وذلك بأن يتكلف الإنسان الصدق مرة بعد مرة؛ حتى يصبح سجية له وطبعا، قال الشاعر:
عود لسانك قول الخير تحظ به
إن اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له
فاختر لنفسك وانظر كيف ترتاد
4 النظر في العواقب: وذلك باستحضار فضائل الصدق العاجلة والآجلة؛ لينبعث إليه، واستحضار قبائح الكذب العاجلة والآجلة؛ ليبتعد عنه، ويتجنبه
5 تنشئة الصغار على الصدق: وذلك بتحبيب الصدق إليهم، وتشجيعهم، وحفزهم على قول الصدق، وبتجنيبهم الكذب، وتقبيحه في نفوسهم، ومعاقبتهم عليه
6 الحرص على أداء الصلاة وتكميلها، وإعطائها حقها من الخشوع وغيره: لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والكذب من جملة ما تنهى عنه الصلاة من منكر؛ فإذا أعطاها الإنسان حقها نال أعلى المطالب، وأشرف المواهب، وتخلق بأخلاق المؤمنين وعباد الله الصالحين، والتي منها بل من أعلاها الصدق

7 معاشرة الصادقين، ومجانبة الكاذبين: ذلك أن المعاشرة تستدعي تأثر الإنسان بمن يعاشره ويخالطه، فإذا ما عاشر الإنسان الصادقين الأخيار فإنه سيتأثر بصدقهم، وسمتهم وهديهم؛ فالصاحب ساحب، والطبع استراق
وكذلك إذا نأى بنفسه عن مجالسة الكاذبين فإنه سيسلم من أثرهم السيئ، فتبقى صورة الكذب قبيحة في ذهنه
بخلاف ما إذا عاشرهم فإنه سيأخذ من طباعهم السيئة، وسيستمرئ الكذب، ولا يعود ينكره
8 الإكثار من قراءة القرآن بالتدبر والتعقل: فإذا أكثر الإنسان من قراءة القرآن، وحرص على تدبر معانيه، واجتهد في تفهم مراميه فإنه سينبعث للصدق وترك الكذب؛ ذلك أن القرآن يهدي للتي أقوم، والتزام الصدق وترك الكذب من جملة ما هو أقوم
أثر الصدق في سعادة الفرد
للصدق آثار حميدة، وعوائد عديدة، على الفرد وعلى الجماعة، وقد مر بنا فيما مضى شيء من ذلك، وفيما يلي إكمال لبعض ما مضى، وتأكيد عليه
فمن آثار الصدق في سعادة الفرد ما يلي:
1 شرف القدر، وعلو المنزلة: فالإنسان الذي يتحلى بالصدق يشرف قدره، وتعلو منزلته؛ ذلك أن الصدق يدل على حسن السيرة، ونقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان العقل، كما أن الكذب عنوان سفه العقل، وسقوط الهمة، وخبث الطوية
فالصدق حسنة حميدة تنساق بصاحبها إلى الحسنات، كما أن الكذب خصلة سيئة تنجر بصاحبها إلى السيئات
فلا يستقيم لأحد سؤدد، ولا تعلو له مكانة، ولا يحرز قبولا في قلوب الناس إلا إذا وهبه الله لسان صدق
فإذا ما ابتغى بالكذب منزلة علية فإنما يتبوؤها بين طائفة ضربت في أدمغتهم الغباوة، أو طائفة تؤثر اللهو على الجد، ويشغلها الخداع عن النصيحة
2 طيب العيش: ذلك أن الناس لا يطمئنون إلا إلى معاملة الصادق الأمين، وشأنهم الانصراف عمن ألفوه يضع الكلمة في غير مواقعها
وقد يحرص التاجر أو الصانع على درهم أو دينار يقتنصه بكلمة غير صادقة، فإذا هو يضيع سمعة طيبة، ويخسر ربحا وافرا

والناس إذا علموا صدق اللهجة من شخص أكرموه، وأجلوه، وسودوه، وحرصوا على صحبته، وأصاخوا السمع لمقولته، واستناروا برأيه، وأخذوا بنصحه
ومن هنا تطيب حياته، ويكثر أنسه، وتسعد نفسه
3 صفاء البال: فصادق اللهجة يصفو باله، ويعينه صدقه على التخلص من المكدرات، وذلك من ناحيتين:
أولاهما: أن مرتكب الرذيلة لا بد وأن يحس بوخز في ضميره، ويسمى هذا: توبيخ الضمير، والكذب من أفظع الرذائل، فوخزه في الضمير غير يسير
ومتى سار الإنسان في طريق الصدق، وأقام بينه وبين الكذب حصنا مانعا عاش في صفاء خاطر، وراحة ضمير، ولم يكن لهذا الوخز النفسي عليه من سبيل أخراهما: أن من يلطخ لسانه برجس الكذب لا بد من أن تبدو سريرته، وتنكشف سالفته، فيجر عليه شؤم هذه الرذيلة شقوة إثر شقوة، فلا يلاقي من الناس إلا ازدراء ومقتا، وربما رموه بالتوبيخ في وجهه، وأساءوا الأدب في معاملته
أما صادق اللهجة فيظل موفور الكرامة، آمنا مما يكدر عليه صفوه
4 عزة النفس: فالصادق تأبى عليه نفسه الكريمة، ودينه القويم أن يكذب، فيسلم بذلك من تبعات الكذب، وينأى بنفسه عن ذل الاعتذار، والتماس المسوغات، التي لا بد للكاذب أن يقع فيها
5 الشجاعة والثقة في النفس: فالصدق يكسب الفرد شجاعة وثقة في النفس؛ لأن الكاذب على وجل من أن يكشف أمره، ويتبين كذبه، فتراه ذليلا، خائفا، مذعورا، يحسب كل صحية عليه، وكل مكروه قاصدا إليه
أما الصادق فيتحرك بخطى ثابتة، وبثقة عالية؛ فسره كعلانيته، وظلمة ليله مثل ضوء نهاره
وكما أن للصدق أثرا في سعادة الفرد فكذلك له أثر في سعادة الجماعة
فالجماعة تسعد، وتنتظم شؤونها على قدر احتفاظها بفضيلة الصدق؛ فالمعاملات كالبيع والإجارة، والقرض، والشركة لا يتسع مجالها، ولا يستقيم سيرها إلا أن تديرها لهجة صادقة

والأمة التي يسود فيها الصدق حتى يكون القائم بأي عمل موضع ثقة الجمهور تتقدم حالتها الاقتصادية، ولا يجد عدوها الوسيلة إلى مزاحمتها في نحو التجارة والصناعة والأمة الصادق أفرادها تقطع على العدو فرصة التغلغل فيها، والإيضاع خلالها؛ لإفساد ودها، وتفريق شملها
والصداقات التي تجعل أفراد الأمة كالجسد الواحد إنما يشتد رباطها، ويصلب عودها على قدر ما يكون لأفرادها من الاحتفاظ بصدق اللهجة
وقد يكون للكاذب صديق من صنف أصدقاء المنفعة، ولكنه لا يستطيع أن يتخذ من إخوان الفضيلة صديقا حميما فالذي يستهين بالكلمة الكاذبة يطلق بها لسانه فإنه يؤذي نفسه، ويرهق المجتمع خللا، ويورثه فسادا عريضا؛ فالكاذب لا يعد عضوا أشل فحسب، وإنما هو عضو يحمل دما مسموما لا يلبث أن يسري إلى الأعضاء المتصلة به فيؤذيها"

وبالقطع نسى فى كل الحالين أن يبين أن للكذب فى أحيان محاسن أى فوائد كالإصلاح بين الناس ومنع التعذيب وللصدق فى بعض الأحيان مساوىء أى مضار مثل تعذيب المسلم إذا أعلن إسلامه ومثل ايقاع الطلاق بسبب قول الصدق ومثل ايقاع المعارك بين الناس بقول الصدق بين المتشاجرين