سيجد القارئ لكتب النحاة أن هناك تفصيلاتٍ، وتفريعاتٍ كثيرةً، فهم يذكرون الاختلافات الكثيرة التي لا تشكل سوى باب من أبواب الجدل الإعرابي، كاختلافهم حول علامة الرفع في الأفعال الخمسة، ففريق يرى أن النون هي علامة الرفع، وآخر يرى أن علامة الرفع في الحركة المقدرة في ضمير الرفع "واو الجماعة في يعلمون وتعلمون، وألف الاثنين في يعلمان وتعلمان، وياء المخاطبة في تعلمين"، ومنهم من قال إنها في الحركة المقدرة على الحرف الأخير الصحيح، أو المعتل من الفعل.
وهكذا نجدهم يذكرون هذه الاختلافات في أغلب المسائل التي تحتمل هذا الجدل الذي يراه بعضنا غير مُجْدٍ، بينما يراه آخرون مثريًا، ويضيف إلى دراسة النحو ميزة التنوع والتعدد.
ولكننا نجد النحاة في بعض المسائل يضعوننا أمام تنوع وتعدد مختلفين، فيذكرون لنا لغات العرب الواردة في الأسماء المبنية، نحو التشديد والتحريك في الياء، وكسر همزة إن وفتحها، وحركة الكاف في ضمير النصب المنفصل: (إيَاكَ)، فيذكر السيوطي في همع الهوامع ثمانية أوجه فيها.
ومن ذلك ما ذكره من لغات العرب في الضميرين المنفصلين للغائب: (هو، وهي)، فذكر الخلاف حول أصل الضمير: هل هو الهاء والواو والياء معا، أم الهاء وحدها، وذكر بيتين ذُكر فيهما الضمير بالهاء فقط، وهما بلا نسبة، وعدَّ ذلك لغة من اللغات، لكنه لم يعزها إلى قبيلة من القبائل.
ثم ذكر اللغة التي تسكن الهاء بعد العطف، واللام، وهمزة الاستفهام: (وَهْوَ، وَهْيَ) وذكر قراءة قرآنية على ذلك في قوله تعالى: "وَهْوَ معكم"، وقوله: "لَهْيَ الحيوانُ".
وذكر شاهدين شعريين عليها.
والشواهد الشعرية كثيرة على تسكين الهاء، حتى إن بعض النقاد لا يعدون هذا التسكين من باب الضرورة.
لكن السيوطي في همع الهوامع، وغيره من النحاة في عصور التأليف والتصنيف، يضعوننا أمام لغات نعدها غريبة في هذين الضميرين؛ فيذكرون لنا لغة قيس التي تسكن الواو: (وَهُوْ، وهِيْ)، ويذكر شاهدا على هُوْ منسوبا لعبيدة بن الأبرص، لكنه ليس في ديوانه، وآخر على هِيْ بلا نسبة.
ثم يذكر لنا لغة همدان التي تشدد الواو والياء: (هُوَّ، وهِيَّ) ويذكر في هوَّ شاهدا لرجل من همدان لكن المصادر التي حققت البيت لم تذكر لنا اسمه _ذكرتُ البيت في منشوري أمسِ_، ويذكر في هيَّ بيتا بلا نسبة، وهذا البيت لا يرقى إلى أن يكون شاهدا، كما يؤكد محقق الهمع.
ونحن في عاميتنا المعاصرة في الخليج والعراق واليمن وبلاد الشام ومصر، نشدد الواو في هو، والياء في هي، وكذلك الميم في همَّ، التي تطلق على المثنى والجمع في عاميتنا.
فهذا التشديد له أصل في لغة من لغات العرب، ولكنه ليس الأصل في لغات العرب، فالأصل هو تحريك هذه الواو والياء، وهي لغة العرب الأشهر والمجمع عليها، وهو الفصيح الأفصح، وما تشديدهما إلا فصيح رديء _وهذا حكمي الذي أميل إليه_.
ولكن اللسانيات الحديثة تطرح بضع أسئلة حول ذلك؛ من أهمها:
هل انتشرت لغة همدان، وامتدت، وطغت في هذه البلدان، فبات تشديد الضميرين هو السائد والمعتمد في محكياتنا؛ حتى نسيَ أهلوها لغة الحجاز وتميم التي تحرك الواو والياء في هذين الضميرين بالفتح؟
أم أن تشديد ضمير النسوة (هنّ)َ انسحب على باقي الضمائر؟
فبتنا نشدد هي، وهو، وهم _للجمع والمثنى في العامية_.
أم أن عاميتنا أصابها تغيير؛ فوصلنا إلى التشديد فيها؟
فتشابه هذا مع لغة همدان التي اندثرت، فجاء هذا التوافق الاعتباطي ليعيد لها الحياة بهذه السطوة التي نرى؟
هذا ما يحتاج منا بحثا، واستقصاء، ودراسة في هذه المسألة، وغيرها من المسائل التي نجد لها صدى وأصلا في إحدى لغات العرب.