أحدث المشاركات

بكاء على الاطلال» بقلم أحمد بن محمد عطية » آخر مشاركة: أحمد بن محمد عطية »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»»

النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: قراءة تحليلية لقصة" اكتموا الأنفاس" إلى روح الراحل عدنان كنفاني/

  1. #1
    الصورة الرمزية الفرحان بوعزة أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 2,366
    المواضيع : 199
    الردود : 2366
    المعدل اليومي : 0.56

    افتراضي قراءة تحليلية لقصة" اكتموا الأنفاس" إلى روح الراحل عدنان كنفاني/

    قصة: "اكتموا الأنفاس" لعدنان كنفاني /فلسطين
    قراءة تحليلية لقصة" اكتموا الأنفاس" إلى روح الراحل عدنان كنفاني/ فلسطين
    تحت عنوان: الصورة السردية بين التشكيل الجمالي والتعبير الفني
    القصة:
    غرز أنبوب مسدسه المحشو في فمي..
    وألصق فوق وجهي عينين مبحلقتين ككوزين من الصّبار..
    صرخ من بين أسنانه:
    أقطعُ لسانك أو أقتلعُ حنجرتك.؟
    أغمضت عيني، أتحسس بطيف ظلامهما صوت احتكاك الزناد..
    قفزت أصابعي وغرزت أظافرها الحادّة في عنقه..
    وقتها..
    ربما أطلق النار.!
    ............................................
    1ــــ دلالة العنوان
    "أكتموا الأنفاس" عنوان يحمل صيغة الأمر، وهو عنوان مخالف لتركيبة العناوين المألوفة. فالفعل "اكتموا " يدل على الطلب الجازم على وجه الاستعلاء من الأعلى إلى الأدنى، فوظيفته الزمنية هي الدلالة على طلب الفعل في المستقبل القريب أو البعيد غالبا، يقول الباحث: محمد دلوم/ "فالأصل في فعل الأمر، أنّه بني ليطلب به تحقيق الفعل فقط، وفي المستقبل. فهو يمتاز أيضا بثبوت الدلالة، بالنسبة للدلالة الزمنية، يدلّ على المستقبل فقط، وبالنسبة للوظيفة اللغوية، أو الغاية من إدراجه، يدلّ على الطلب، لا على الإخبار"(1)
    فالعنوان"أكتموا الأنفاس" يدل على الطلب، لا على الإخبار. فكثمان الأنفاس هو حدث لم يقع، ولكن يطلب وقوعه في المستقبل. معنى ذلك، أن كثمان الأنفاس وضعية مستجدة ستبقى مستمرة إلى ما نهاية. فما المقصود بكتمان الأنفاس؟ هل يعني الصمت وعدم التكلم؟ هل يعني خنق الحرية؟ هل يعني الرضوخ والاستسلام؟ من الذي يأمر بإنجاز الطلب؟ في أي مكان يجري الحدث؟...وكيف يكتم الإنسان أنفاسه؟ أسئلة تدخل ضمن تأويلات وتوقعات لفهم طريقة " كتمان الأنفاس". فكتمان الأنفاس هي قضية، بل مشكلة لها أبعاد وتبعات على حياة الناس، قضية قد تشغل بال القارئ، وتثير انتباهه لما يعنيه العنوان من مصادرة حرية الكلام والبوح والتعبير، وقد يتخيل أن القضية تمسه كذلك، فيتحفز لتمحيص جميع جوانب المشكلة، والوقوف على أبعادها ومخلفاتها على حياة الفرد والجماعة. وفحص رؤية الكاتب التي تقوم على التحليل والتقصي، وتحليل المعاني الموجودة داخل منظومة العنوان.
    يشكل العنوان "اكتموا الأنفاس" نصا مستقلا بنفسه، أو فصلا من رواية تجسد العلاقة بين القوي والضعيف، بين الآمر والمأمور، بين المسلح والأعزل، بين الاستبداد والاستسلام. بين القمع والحرية...بين من هو في الأعلى وبين ما هو في الأدنى...فالعنوان هو صورة منتزعة من حدث له علاقة بالمجتمعات غير الديمقراطية. فكتمان الأنفاس هو نوع من القهر والقمع، وخنق حرية التكلم، ومنع التعبير عن ما يضر الإنسان وما لا ينفعه. عنوان هو صورة لواقع تنعدم فيه شروط الحياة من حرية وفكر وإبداء الرأي.
    2ـــــ تحليل خطاب النص
    ا ـــ غرز أنبوب مسدسه المحشو في فمي../ استعمل الكاتب فعل "غرز" بدل "أدخل" فالفعل الأول يدل على العنف المصحوب بالغضب والحنق الشديد، مع تثبيت الشيء حتى يلامس العمق، فأنبوب المسدس وصل إلى عمق الفم، فكلمة "غرز"أقوى دلالة من فعل "أدخل"، فقد تكونت صورة مجسدة بين عيني المتلقي، وهي صورة مركبة من شخصية تجسد القوة، والأخرى تجسد الضعف، والمسدس المحشو داخل فم الضحية. لوحة رسمها الكاتب بلغة تقرب الصورة نحو ذهن القارئ، كأنها ماثلة أمامه، حاضر، يشاهد ويعاين حياة التنكيل والتخويف، وطريقة إخضاع الآخر بقوة السلاح. فكان الانسجام حاصلا بين "فعل القول، وفعل الفعل" على حد تعبير الناقد عبد الله الغدامي. وفي هذا الصدد يقول في كتابه: "تشريح النص: فاللغة بوصفها نظاما إشاريا (سيميولوجياً) لعلاقات الدالّ والمدلول، بحيث تصبح الكلمة في النصّ، إشارة حرّة تمّ تحريرها على يد المبدع، الذي يرسلها صوب المتلقّي، وهذا بدوره يتوجّب أن يحرّرها المتلقي من تصوّر مجتلب من بطون المعاجم، والتفاعل معها، بفتح أبواب خياله لها."(2)
    ــــــ غرز أنبوب مسدسه المحشو في فمي../ فالكاتب يسرد حدثا وقع له، أو شاهده في حياته اليومية، دون تحديد الزمن والمكان. سواء أكان ذلك الحدث من صميم الحقيقة أم من ابتكار الخيال. فما الداعي الذي يدعو الأديب إلى اللجوء إلى السرد بضمير المتكلم؟
    فاستعمال الكاتب لضمير المتكلم، ينبغي ألاَّ يقود إلى توهم أنَّ المتحدث بضمير المتكلم هو الأديب أو الكاتب نفسه. فهذا الضمير هو ضمير الراوي (السارد) الذي هو صوت يختبئ خلفه الكاتب، وفرق كبير بين الكاتب والصوت الذي يختبئ هذا الكاتب خلفه.

    يقول الدكتور إحسان اللواتي:" فاستعمال الكاتب للسرد بضمير المتكلم هي قاعدة يستعملها الأديب كتقنية في إنتاجه الإبداعي، ترتبط بالرؤية التي يحملها والأثر الذي يود تحقيقه في وجدان المتلقي ، فليس من شك في أن الأديب الحق لا يختار من التقنيات إلا ما كان يتواءم مع رؤيته المبثوثة في إبداعه ، ومع ذلك التأثير الخاص الذي يرغب في إيجاده في نفسية قارئه؛ ذلك أنَّ الإبداع نهر واحد دافق ، يشكّل كل عنصر من عناصره رافدا من روافده الكثيرة المتآزرة معاً في المسيل."(3)
    فالكاتب حريص على نقل مشاعره وأفكاره التأملية، وإيصالها إلى القارئ كما هي في الواقع، بتعبير جمالي يضع تجربته الشعورية بين يدي القارئ كما عاشها الأديب، أو كما أرادها أن تصل إلى قارئه.

    ب ــــ وألصق فوق وجهي عينين مبحلقتين ككوزين من الصّبار../ بعدما غرز مسدسه في الفم، ولد السارد حالة أخرى أشد من وضع المسدس في الفم، وهي إلصاق العينين فوق الوجه، وهو يحدق وينظر نظرا شديدا، كأنه لا يزحزح نظره عن وجه الضحية. وهي حالة مرتبطة بما سبقها لما غرز مسدسه في الفم، وإن كانت الصورة غير مجزأة، فحركة غرز المسدس في الفم، وبحلقة العينين، بينهما زمن قصير جدا لا يمكن للمشاهد أن يقدر أو يدرك زمن الفصل بينهما إلا بصعوبة، ولتأكيد قوة إخراج العينين، شبه الكاتب تلك الحالة ب "كوزين من الصبار". فالكوز، جمع أكواز وكيزان: إناء من فخّار أو غيره له أذن، يشرب فيه أو يُصَبُّ منه الماء، إلا أن الكاتب شبه خروج عيني البطل بثمرة التين الشوكي تسمى: كوز الصبار، والمراد من هذا التشبيه هو تقريب صورة قوة إخراج بؤبؤ العينين للقارئ، فصورة إخراج بؤبؤ العينين لا تختلف عن صورة كوز الصبار بأشواكه الحادة وهي ناتئة فوق أظلاف الصبار. والقاسم المشترك العرضي في هذه الصورة هو الألم الشديد، والتعسف المتعمد.
    3 ــــ تخليق وحدة الصورة بين الأعلى والأدنى
    فالكاتب رسم صورة العنف بلغة مختزلة دون الكشف عن جزئيات غائبة وحركات متناثرة /غرز أنبوب المسدس في الفم/ انفتاح الفم بالقوة/ توسع الفم/ تبادل النظر/ إلصاق العينين فوق الوجه/ شدة النظر/ إخراج بؤبؤ العينين/ الضغط المستمر/... جزئيات تساهم في خلق وحدة الصورة تتضمن حياة القهر والظلم والتعسف من شخصية أعلى على شخصية أدنى كما قلت سابقا. يقول الدكتور إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس: "وهذه وظيفة من الوظائف التي يتكفل بها السرد بضمير المتكلم؛ لأنَّ هذا النمط من السرد هو الذي يتضمن الشهادة بأنَّ كل ما يُذكر في القصة، إنما يُذكر من خلال تجربة شخصية معينة – وهي مرجع ضمير المتكلم – مهما تفاوتت الجزئيات واختلفت الشظايا ، وهذا النحو من الوحدة كافٍ في المقام ." (4)
    د ــ صرخ من بين أسنانه: أقطعُ لسانك أو أقتلعُ حنجرتك.؟ /
    ـــ صرخ من بين أسنانه:/ إنها حالة جزئية تنقل القارئ إلى قضية الصراخ، صراخ متعثر في الخروج بسبب الحقد والغضب، وشدة الكراهية، فحصل ضيق بين أسنانه لا يترك فجوة للصراخ ليخرج طبيعيا، فكأنه يكز على أسنانه مرة بعد مرة، وجملة " أقطعُ لسانك أو أقتلعُ حنجرتك.؟/ تتضمن استفهاما مجازيا رغم خلوها من أداة الاستفهام "هل". فالصراخ مقترن بتلفظ الجملة الاستفهامية، تصدر عن البطل في زمن واحد. مما خلق صورة أخرى تتضمن الاستفزاز، فقد خيره البطل بين شيئين أحلاهما مر، فحالة قطع اللسان ينتج عنها عدم التكلم في الحاضر والمستقبل، وحالة اقــتلاع الحنجرة المكونة من الأوتار الصوتية، وهي أخطر من سابقتها ينتج عنها تعطيل عملية التنفس، والبلع والكلام. فالكاتب لم يشرح ولم يفسر لأن ذلك قد يشوش على القصة، ويجعل الإطالة تكتسي طابع الملل. في المقابل لمح إلى خطورة الفعل الذي يرمي من ورائه المتكلم، هو تعطيل حاسة النطق والتنفس بجميع مكوناتها ودورها في بقاء الحياة. وهذا المعنى يعزز ما جاء في العنوان "اكتموا الأنفاس" الذي ينطوي على عدة ممنوعات، خنق المعارضة ومعاقبتها، والحد من حريات التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع، واستخدام قوات الأمن القوة المفرطة لتفريق الاحتجاجات، وكتم أنفاس المعارضين، وتكبيل الحق في حرية الكلام وغيره من أشكال التعبير، بما في ذلك الصحف و وسائل التواصل الاجتماعي، وفضح الفساد، ومقاومة سلطات الاحتلال. فالبديل الذي يفرضه هذا البطل الشاذ هو الخنوع والخضوع، والامتثال للأوامر العليا....
    هناك تدرج في الكشف عن الجزئيات المضيئة للفعل، وهي تقنية لشد القارئ، ودعوته لإدراك مدى قبح المستعمر، فالكاتب يدفع بالقصة إلى الأمام نحو تطور خطير وهو "كتمان الأنفاس" بطريقة بشعة. والتي تهدم حياة العز والكرامة، وتبنى محلها حياة المذلة والهوان. يقول بيرسي لوبوك" ( Percy Lubbock) : "وحينما يروي الأديب الحكاية بنفسه فإنًّ هذه الحقيقة من شأنها أن تؤدي خدمة بأن تدفع القصة إلى الأمام، وأن الشخص الأول سيتحدث بشكل غير مترابط، وسيقص علينا قصة مكونة من عدة شظايا، ثم يعمد إلى إلصاقها بطراز معين كوحدة منفردة"(5)
    ه ـــ أغمضت عيني، أتحسس بطيف ظلامهما صوت احتكاك الزناد../
    ــــ أغمضت عيني/ فما علاقة إغماض العينين بصوت احتكاك الزناد؟ يبدو أن هناك علاقة متنافرة بين الإغماض والصوت، بعدما همش السارد دور الأذن لسماع صوت احتكاك الزناد، فكل ما بقي تحت ظلام العينين صورة تشغيل الزناد، أدركها من خلال تصوره لكيفية احتكاك الزناد. وكأن صوت الزناد أصبح مألوفا لديه، وأصبح عملا يمارس في كل زمان ومكان. فعبر الكاتب بجملة "طيف ظلامهما" فالإغماض لم يكن مكتملا، بل كان هناك فجوة يتطلع منها لكيفية تفعيل صوت الزناد لما أيقن أن الموت أصبح قريبا منه.
    و ــــ "قفزت أصابعي وغرزت أظافرها الحادة في عنقه"/ مشهد تطور إلى صراع ومقاومة، "قفزت أصابعي" أي لم يعد يتحكم في أصابعه، فهي التي نابت عن ما في داخله من قوة تكونت لحظة ممارسة العنف عليه. مما يدل على أن الضحية كان واقفا بثبات أمام عدوه، فلم يكن راكعا على ركبتيه، ولا منبطحا على الأرض، بل كان وجها لوجه مع عدوه. وقد يستشف القارئ من هذه الوضعية أن الشخصية المهانة تحولت من ضعف إلى قوة، ومن خضوع إلى الانتفاضة، ومن استسلام إلى مقاومة. فالسارد لم يحدد زمن المعركة، ولا المكان الذي جرت فيه، كل ما هناك لمح إلى معركة دائمة بين محتل مسلح وصاحب أرض غير مسلح، والقضية لا تبتعد عن القضية الفلسطينية، واستمرار مقاومة المحتل إلى الأبد ولو طال الزمن.
    تصوير جميل لصراع غير متكافئ، فرق كبير بين استعمال المسدس واستعمال أظافر الأصابع، لكن القارئ يدرك بفكره ما وراء الفعل، فلغة "أظافر الأصابع" شخصت صورة من صور المقاومة لأبناء فلسطين باختراع أبسط الأشياء/الحجارة/ المقلاح/ الأظافر/ وغيرها. صورة تنم عن عدم الرضوخ للعدو مهما كان الثمن، وكل الوسائل متاحة للفلسطيني للدفاع عن نفسه وأرضه.
    سكت النص عن نتيجة الصراع، فهل انقلب الوضع على البطل المعتدي؟ فهل استطاع المقاوم انتزاع المسدس منه؟ فهل كانت طلقة المسدس في الهواء اعتباطية؟ هل مات البطل المحتل؟ هل مات المقاوم؟ أسئلة قد تبدو بديهية، لكنها تدفع بالقارئ أن ينحرف عن المعنى الجاهز في النص، وأن يخرج من النص، للبحث عن " المعنى الأسمى". فجغرافية النص تنطوي على أسرار تنتظر من يكشفها. يقول الدكتور رشيد بنحدو" فالقراءة لا تحدها تخوم، إن النص يدعو القارئ إلى لعبة الانتظار( هناك معنى آخر تجب مطاردته) أو لعبة المفاجأة( ليس المعنى حيث كان منتظرا) أو لعبة خيبة( بعد أن خاب التأويل، تظل ضرورته قائمة) (6)
    ز ـــ وقتها../ تشير إلى زمن الصراع، والاشتباك الذي لم يستغرق زمنا طويلا، فالسارد عمل على تشكيل حبكة تسلسلت فيها الأحداث/غرز المسدس في فم الضحية/ الصراخ/ الاختيار بين قطع اللسان،واقتلاع الحنجرة/ قفز الأصابع/ غرز الأظافر في العنق/ فقد تشابكت الأحداث، فوصلت إلى نتيجة قوامها الصراع والاشتباك، والتصادم بين المعتدي والمقاوم. فالحدث وصل إلى ذروته، وتأزمت الوضعية، وبقيت النهاية فيها نوع من الإضمار وعدم الإفصاح عنها. ذلك من أجل إذكاء مخيلة القارئ، والدفع به إلى المشاركة في حل عقدة الحدث. هل انتهى الصراع بتدخل أطراف أخرى؟ هل سوف يتكرر الحدث ما دام المحتل يجثم على الأرض؟ هل من الممكن أن يرفع المقاوم قضية الاعتداء أمام المحكمة؟ وهل يعاقب الجاني على فعلته؟ أسئلة مدفونة بين جغرافية النص كأسرار قد يكشفها التاريخ، أو يدفنها بين صفحاته.
    ن ـــ ربما أطلق النار.!/نهاية تكمن فيها لعبة المفاجأة، فالمعنى المنتظر بقي مبهما وغامضا، فكلمة "ربما" هي كلمة وظيفية، مركبة من (رُبَّ) و(ما) الكافة، دخلت على "الفعل" فهل تم إطلاق النار فعلا؟ أم هو احتمال فقط؟ فإطلاق النار فيه شك وتوقع، ويتأرجح بين الحقيقة والتوهم. ولو حذفت"ربما" لفقدت الجملة المعنى الجديد المستقل الذي يقصده الكاتب وهو الاحتمال. فمقياس المفاجأة في نهاية القصة كان فيه إثارة فنية وجمالية ودلالية، فالمتلقي وقع في شرك الحيرة والتعجب، والانفعال والتوتر بعدما أنهى السارد الجملة بعلامة التعجب (!). فخاب أفق انتظار القارئ، وتخلخلت مفاهيمه وتصوراته المسبقة عن العمل. يقول الدكتور جميل الحمداوي " وتمتاز القصة القصيرة جدا باستعمال مكون المفاجأة، لإدهاش المتلقي، وإرباكه، وخلق لغة الغموض والتخييل، وتخييب أفق انتظار المتلقي، مع دفعه اضطرارا وقسرا نحو التخييل، وافتراض الأجوبة الممكنة، وتشويق القارئ لملء فراغ النص، وإشباع بياضاته المسكوتة ."(7)
    بناء وتركيب

    1 ـــ أكتموا الأنفاس/ عنوان يعتبر بوابة لنص أدبي فيه اشتغال وعمل إبداعي، يمكن اعتبار العنوان إعلانا لخبر الاعتداء وانتهاك الحقوق، فهو بوابة سرية لنص يجمع بين ما هو قانوني وتشريعي، بين القمع وتكميم الأفواه، بين الحق والباطل. بين سد أنفاس البشر والحجر، وتطبيق قانون سري صادر من الأعلى، يطبقه الاحتلال على السكان الأصليين. فشخصية القصة يمثل السلطة التنفيذية، له السلطة المطلقة في كيفية تنفيذ الأوامر، سلطة متحكمة تمت على مستويين: تحكم في الأرض، وتحكم في الأنفاس. فالمستوى الأخير لم يستطع المحتل أن يتغلب عليه مع الأيام.. والهدف هو تطويع العقول وتليين النفوس، وهذا يدل على وجود الرفض والمعارضة القوية، رغم أن السارد لم يجعل نقطاً للحذف قبل فعل الأمر أو بعده (... اكتموا الأنفاس...)
    2 ــــ كيف زاوج الكاتب بين الخيال والواقع في هذا النص؟
    في بداية النص التزم السارد بتصوير الواقع، واقع نشاهده ونعاينه يوميا في الأراضي الفلسطينية كقضية وطنية وإنسانية، حوادث القتل والاغتيال، والإرهاب النفسي، كل ذلك يجري في السر والعلن .
    انتقل السارد إلى الخيال بعدما أسند الإحساس للعين بدل الأذن، رغم أنه استعمل كلمة "صوت" في الجملة السردية: صوت احتكاك الزناد. صورة ملكتها العين قبل الأذن، فالسارد يوهمنا أن قوة احتكاك الزناد فاقت كل الحواس، كالعين والأذن والذهن والزمن..صورة قد تكون متخيلة ولكنها لا تبتعد عن الواقع.
    3 ـــ أين نتحسس مكامن الجودة والإبداع في القصة؟
    نص يبتعد عن الغموض واللبس، لا ينزاح إلى اللغز أو الطلسم الذي يتطلب جهداً في القراءة، أو تأويلات متعددة التي قد تفضي إلى تناقضات كثيرة. فمشهد الحدث يتنامى عن طريق حركات معينة، كل حركة لا تأخذ زمنا طويلا، /غرز المسدس في الفم / إلصاق العينين في الوجه /غرز الأظافر /... كل هذه الحركات خلقت مشهدا موحدا يبقى راسخا في الذهن كصورة حية وناطقة بالألم والقهر... صورة تبين ارتفاع وتيرة الانفعال لدى المعتدي، قابله انفعال آخر هو: غرز الأظافر الحادة في عنق المعتدي.. صور جمعت بين الجودة في التعبير، وإبداع على مستوى التصوير الدلالي والفني، حيث جعل من البطل المعتدى عليه رمزا لروح المقاومة الشريفة المبنية على التضحية والموت..
    لغة جميلة خارقة للمألوف/غرز أنبوب مسدسه../ فعل غرز أقوى من فعل "أدخل" الغرز قد يصل إلى حد منتهى الحلق. كما قلت سابقا/ ألصق فوق وجهي عينين / فرق كبير بين هذا التعبير والتعبير التالي: / ركز في وجهي عينين../ الثاني مألوف يقترب من اللغة المتداولة. فجمالية الإبداع في تعبير الكاتب تكمن/ فوق وجهي/ فوق: أعطتنا صورة ترسم المسافة بين المعتدي وهو يغرز بيده اليمنى المسدس في الفم، ويضغط بالأخرى على جبهة البطل، مما يعطي تطلعا برأس البطل وهو متجه إلى أعلى نحو المعتدي. فالبطل يمكن أن يكون جالسا والمعتدي يمكن أن يكون واقفا.
    فجملة "صرخ من بين أسنانه" لها دلالة قوية في الفعل، خلقا مشهدا منفرا. لما يكتسيه من غضب وحقد. فالسارد لم يقل: صرخ من بين شفتيه / هناك ضغط كبير على الفكين، وليس بينهما فراغ كبير، مما يجعل الكلمات تخرج بصعوبة، ومخارجها فيها غنة الانتقام...
    فقد زاوج الكاتب بين الخيال والواقع، مع طغيان الخيال والتصوير في النص، فكم من نصوص بلغ فيها التكثيف حد النفور منها، لأنها تروم الإيجاز البلاغي وليس الإيجاز الدلالي (التكثيف)...أعتقد أن كلمة / المحشو / كلمة لا تشوش على النص، ولكن يمكن الاستغناء عنها لدلالة مسدس العدو الواضحة.. كما أن التشبيه الذي ورد في النص / مبحلقتين ككوزين من الصبار/ فعل / بحلق/ له دلالة قوية في إخراج العينين، أعتقد أن الكلمة متداولة في اللغة اليومية.. لكن لها دلالة قوية في المجاورة للمعنى والصورة المولدة من مشابهة إخراج العينين بثمرة الصبار الشائكة كما قلت سابقا... / كوز / إبريق لكنه أصغر منه، كوز من أكواز الصبار: من الجوز الهندي الحامض../ تشبيه صعب الإدراك والتصور لكل القراء، ومع ذلك هو تشبيه فيه ابتكار، وفتح خيال القارئ على صورة ممكنة التشكيل والتقارب بين بؤبؤ العين وثمرة الصبار الهندي. تعبير لا يخل بدعامة التكثيف التي تراهن كثيرا عليها القصة القصيرة جدا.. فكل صورة متخيلة بقدر من الكلمات، مستوفية للمعنى المطلوب.. فهي تحوز على إبداع متنوع بعيد عن المعنى الجاهز في ذهن القارئ، إبداع يفضي إلى لذة وتذوق ممتع للفكر والنفس. فقصة الأديب المرحوم عدنان كنفاني تتميز بجمالية تفرد بها الكاتب. فالقصة تحتوي على بذور حية تحتاج إلى الحفر عنها بالقراءة، وإعادة كتابتها من جديد كنص مواز للنص الأصلي، مع عدم القفز على ثغرات النص وشقوقه وبـياضاته.
    4 ـــ الشروط الفنية للقصة القصيرة جدا.
    يمكن استنباط بعض الشروط من خلال هذا النص منها: جدّة الفكرة / اللغة السليمة / الخيال/ التصوير / جودة التعبير / النهاية الصادمة / فجملة / ربما أطلق النار / فيها شك وارتياب، تميل إلى الغرابة.. دافعة لطرح السؤال التالي من قبيل: قتله أم لا..؟ وقد لا تكون للبطل، بل تكون للسارد الشاهد للحدث لكنه تغيب أثناء إطلاق النار.
    5 ــــ وختاما،
    فلا يوجد تفسير واحد للمعنى في نصٍّ ما، بل هي تفسيراتٌ غير محدودةٍ، فثبات المعنى منفي في منظومة النص،عندما نقوم بتحليل الهوامش والفجوات والتوقعات والتناقضات والاستطرادات داخل النصوص، بوصفها صياغات تسهم في كشف عن ما ورائيات اللغة والتركيب. وتفكيك الفكرة يعني تشريحها وإعادة تركيبها لتوضيح التناقضات الداخلية الموجودة في الفكرة.

    ........................................
    1 ـــ الباحث: محمد دلوم/ أستاذ علوم اللغة العربية بجامعة محمد بوضياف بالمسيلة/ الفعل دلالته على الزمن ووظيفته الإخبارية عند سيبويه/المصدر: مجلة الحكمة - مؤسسة كنوز الحكمة للنشر والتوزيع - الجزائر، ع9 /تاريخ النشر: 2011
    2 ـــ عبد الله الغدامي / تشريح النصّ/ مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة، 1987
    3 ـــ د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس/ مسقط/ السرد بضمير المتكلم في القصة القصيرة العُمانية/ يناير 2018 ـــ / الرابط الرؤية / https://alroya.om/p/20579217/
    4 ــ الدكتور إحسان اللواتي/ مصدر سابق
    5 ــــ بيرسي لوبوك : صنعة الرواية ، ص125.
    6 ـــ الدكتور رشيد بنحدو/ العلاقة بين القارئ والنص في التفكير الأدبي المعاصر/ عالم المعرفة/المجلد الثالث والعشرون/العددان:الأول والثاني /يوليو /سبتمبر /أكتوبر/ 1994/ص:483
    7 ــــ الدكتور جميل الحمداوي/ أركان القصة القصيرة جدا ومكوناتها الداخلية/صحيفة المثقف/العدد: 5081 المصادف/ الاثنين 03 - 08 – 2020


  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,063
    المواضيع : 312
    الردود : 21063
    المعدل اليومي : 4.96

    افتراضي

    استمتعت بهذه القراءة النقدية المبدعة
    قراءة عميقة محترفة لقصة رائعة تحكي بإيجاز وتكثيف العلاقة بين
    العدو المحتل والشعب الفلسطيني بداية بالعنوان ( كتم الأنفاس)
    مصادرة لحرية الكلام والبوح والتعبير ـ القهر والقنع ومنع التعبير
    النص هو صورة لواقع تنعدم فيه شروط الحياة من حرية وفكر وإبداء الرأي
    قراءة مدهشة لناقد استطاع أن يبرز رموز القصة متعمقا في الحبكة ليعطي معنى لكل كلمة
    بذكاء في الطرح ، وبقراءة واعية لكل رمز فيها.
    مدهش كنت هنا أديبا وناقدا ببراعة فريدة في التحليل والقراءة
    فشكرا لك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : May 2012
    المشاركات : 4,790
    المواضيع : 82
    الردود : 4790
    المعدل اليومي : 1.11

    افتراضي

    الأستاذ والقاص والناقد الفاضل / الفرحان بو عزة
    أجدت وابدعت في قراءتكم النقدية والتركيز على المهم فيها ولفتات بلاغية رائعة
    رفع الله قدركم ونفع بكم