عن مقدمة كتاب التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور رحمه الله
بقلم: عبد الرحيم بيوم

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى صحبه وآله ومن والاه.
أما بعد:
مما دأب عليه عدد من المفسرين قديما وحديثا افتتاح مصنفاتهم في التفسير بمقدمات تَبين عن منهجهم فيه والحديث عن مسائل تتعلق بالقرآن وعلومه. ومن أجل من ألف من المتأخرين في التفسير العلامة محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (ت1393هـ) كتابه المسمى «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد» المشتهر باسمه المختصر «التحرير والتنوير من التفسير». وقد أمضى في تأليفه قرابة الأربعين عاما رحمه الله. قال في ختام تفسيره "كان تمام هذا التفسير عصر يوم الجمعة الثاني عشر من شهر رجب عام ثمانين وثلاثمائة وألف. فكانت مدة تأليفه تسعا وثلاثين سنة وستة أشهر"1. وقد طبع في الدار التونسية للنشر سنة 1984م في ثلاثين جزءا على حسب أجزاء القرآن الكريم وهي الطبعة المتداولة.
افتتح تفسيره بتقديم تحدث فيه عن دواعي تأليفه وعن منهجه فيه وأبان عن اهتماماته التي سيوليها العناية فيه من حيث البلاغة والإعجاز والأساليب وتناسب الآي وأغراض السور وبيان معاني الغريب، مشترطا ألا يطرق في ذلك إلا كل جديد أو مهذبا للموروث فيه. "فجعلت حقا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها ... ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما أشاده الأقدمون، وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضر كثير، وهنا لك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير، وهي أن نعمد إلى ما شاده الأقدمون فنهذبه ونزيده"2. وهي ميزة جعلت لتفسيره مكانة الصدر بين تفاسير المتأخرين. ثم وضع بين يدي تفسيره مقدمات عشرة تتعلق بالقرآن وعلومه يراها مهمة للباحث في التفسير. امتدت لنحو مائة وثلاثين صفحة. ثم ابتدأ تفسير سور القرآن إلى أن أتمه. وقد جعل عمدة تفسيره من القراءات قراءة قالون عن نافع. حيث قال في المقدمة السادسة: "أبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس. ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة"3.
وقد اشتملت مقدمات تفسير التحرير على عناوين تتناول مناحي عدة متعلقة بالقرآن وعلومه وهي:
ـ المقدمة الأولى في التفسير والتأويل وكون التفسير علما.
ـ المقدمة الثانية في استمداد علم التفسير.
ـ المقدمة الثالثة في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه.
ـ المقدمة الرابعة فيما يحق أن يكون غرض المفسر.
ـ المقدمة السادسة في القراءات.
ـ المقدمة السابعة قصص القرآن.
ـ المقدمة الثامنة في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها.
ـ المقدمة التاسعة في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها.
ـ المقدمة العاشرة في إعجاز القرآن.
وسنقتنص أهم ما ورد في المقدمة السابعة التي خصها الطاهر بن عاشور رحمه الله للحديث عن القصص القرآني لما له في كتاب الله من حضور ضاف وتأثير قوي على المتلقي، وقد وأولاه عناية واهتماما فائقا وذلك في عدة نقاط:
1ـ عرف القصة المقصودة في مقدمته بأنها "الخبر عن حادثة غائبة عن المخبر بها"4. ليخرج بذلك الحوادث التي جرت في زمن نزول القرآن. فلا تدخل فيما سيتناوله في مبحثه.
2ـ أشار إلى أهمية القصص القرآني من حيث أنه مما امتن الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ" (يوسف: 3). وأنه ليس كباقي القصص التي تساق للتسلية بل تحمل في طياتها عبرا جمة وفوائد جليلة. "وجعل هذا القصص أحسن القصص لأن بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس. وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمنه من العبر والحكم، فكل قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن ... لأنه وارد من العليم الحكيم، فهو يوحي ما يعلم أنه أحسن نفعا للسامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذوق مما لا تأتي بمثله عقول البشر"5. "ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها ويعرض عما عداه ليكون تعرضه للقصص منزها عن قصد التفكه بها"6.
3ـ أن للقصة في القرآن أسلوبا يباين أسلوب القصاصين من حيث أنها ترد في مناسباتها الهادفة ومن حيث الإيجاز في نظمها وبديع أسلوبها الجامع بين الاتعاظ والمقاصد الأصلية.
4ـ عد في هذه المقدمة للقصص القرآني عشر فوائد جليلة. من أهمها ما افتتح بذكره من فائدتين أشار إلى تفرده عن باقي من سبقه من المفسرين بإيرادهما. فقال في الفائدة الأولى: "أن قصارى علم أهل الكتاب في ذلك العصر كان معرفة أخبار الأنبياء وأيامهم وأخبار من جاورهم من الأمم، فكان اشتمال القرآن على تلك القصص التي لا يعلمها إلا الراسخون في العلم من أهل الكتاب تحديا عظيما لأهل الكتاب، وتعجيزا لهم بقطع حجتهم على المسلمين، قال تعالى: "تِلۡكَ مِنۡ أَنۢبَاۤءِ *ٱلۡغَیۡبِ نُوحِیهَاۤ إِلَیۡكَۖ مَا كُنتَ تَعۡلَمُهَاۤ أَنتَ وَلَا قَوۡمُكَ مِن قَبۡلِ هَٰذَاۖ فَٱصۡبِرۡۖ إِنَّ ٱلۡعَٰقِبَةَ لِلۡمُتَّقِینَ" (هود:49) فكان حملة القرآن بذلك أحقاء بأن يوصفوا بالعلم الذي وصفت به أحبار اليهود، وبذلك انقطعت صفة الأمية عن المسلمين في نظر اليهود، وانقطعت ألسنة المعرضين بهم بأنهم أمة جاهلية" ثم قال "وهذه فائدة لم يبينها من سلفنا من المفسرين"7. وهو معنى جليل يدخل أيضا في سياق قوله تعالى "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ" (الأنعام: 91-92). فالقصص القرآني من ضمن ما امتن الله به على العرب بتعليمهم إياه فصار في ذكر القصص بيان ودليل إعجاز للطرفين. قال ابن عاشور "(وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ) هذا الخطاب أشد انطباقا على المشركين لأنهم لم يكونوا عالمين بأخبار الأنبياء وأحوال التشريع ونظامه فلما جاءهم محمد- عليه الصلاة والسلام- علم ذلك من آمن علما راسخا، وعلم ذلك من بقي على كفره بما يحصل لهم من سماع القرآن عند الدعوة ومن مخالطيهم من المسلمين"8.
أما الفائدة الثانية فقال رحمه الله: "أن من أدب الشريعة معرفة تاريخ سلفها في التشريع من الأنبياء بشرائعهم فكان اشتمال القرآن على قصص الأنبياء وأقوامهم تكليلا لهامة التشريع الإسلامي بذكر تاريخ المشرعين، قال تعالى: "وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير" (آل عمران: 146) الآية"9. ثم قال "وهذه فائدة من فتوحات الله لنا أيضا". ثم استطرد مبينا خصيصة تميز بها القرآن هنا فقال "وقد رأيت من أسلوب القرآن في هذا الغرض أنه لا يتعرض إلا إلى حال أصحاب القصة في رسوخ الإيمان وضعفه وفيما لذلك من أثر عناية إلهية أو خذلان. وفي هذا الأسلوب لا تجد في ذكر أصحاب هذه القصص بيان أنسابهم أو بلدانهم إذ العبرة فيما وراء ذلك من ضلالهم أو إيمانهم". ثم مثل لذلك بقصة أصحاب الكهف حيث أنه لم يرد في ثنايا ذكر قصتهم بيان جنسيتهم ولا زمن وقوع قصتهم. فالقصص القرآني اهتم في مثل هذه المواضع بالمقاصد الكبرى للقرآن التي أشار لها إجمالا الطاهر بن عاشور رحمه الله في المقدمة الرابعة فيما يحق أن يكون غرض المفسر، حيث قال أن القرآن "نزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين" (النحل: 89) فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية"10.
ومن أهم تلك الفوائد أيضا ما يدرجه ابن عاشور رحمه تحت مصطلح تفرد بنحته وهو "مبتكرات القرآن" حيث قال في الفائدة الخامسة: "أن في حكاية القصص سلوك أسلوب التوصيف والمحاورة وذلك أسلوب لم يكن معهودا للعرب فكان مجيؤه في القرآن ابتكار أسلوب جديد في البلاغة العربية"11.
ونشير هنا إلى أن الطاهر بن عاشور رحمه الله قد خصص لمبحث المبتكرات عنوانا خاصا في المقدمة العاشرة جمع فيه ما يرى أنه مما ابتكره القرآن من أساليب لم تكن معهودة للعرب من قبل.
وقد أشار إلى قريب من ذاك المصطلح الذي نحته هنا ابن عاشور رحمه الله معاصره محمد بن عبد الله دراز رحمه الله (ت:1377هـ) في كتابه النبأ العظيم عند حديثه عن معجزة القرآن اللغوية ورد الشبهات عنها "إن كنت قد أوتيت حظك من معرفة فروق الكلام والمَيْز بين أساليبه فاقرأ ما شئت من خطب العرب وأشعارها، وحكمها وأمثالها، ورسائلها ومحاوراتها، متتبعًا في ذلك عصور الجاهلية والإسلام على اختلاف طبقاتها، ثم افتح صفحة من هذا الكتاب العزيز وانظر ماذا ترى؟ أسلوب عجب، ومنهج من الحديث فذ مبتكر، كأن ما سواه من أوضاع الكلام منقول، وكأنه بينها على حد قول بعض الأدباء: "وضع مرتجل" لا ترى سابقًا جاء بمثاله، ولا لاحقًا طبع على غِراره"12.
5ـ ذكر ست مقاصد لتكرار القصة الواحدة في القرآن، وذلك لأن القصص في القرآن لم تأت "متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها، لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع"13. فافتتح تلك المقاصد بالتنبيه إلى أن لاختلاف المناسبات الواردة اختلاف في إيراد القصة فلا يعد ذلك تكرارا بل لكل مقام مقال من القصة يناسبه ويلائمه قال رحمه الله "فوائد القصص تجتلبها المناسبات فتذكر القصة كالبرهان على الغرض المسوقة هي معه، فلا يعد ذكرها مع غرضها تكريرا لها لأن سبق ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى"14. ثم أتبع ذلك بذكر خمس مقاصد من رسوخها في الأذهان وظهور البلاغة واختلاف أسلوب السرد وتقطيعه حسب المناسبة. بذلك تتفاوت بالإطناب والإيجاز على حسب المقامات.
إن ما خطه الطاهر بن عاشور رحمه الله من تحقيق وتدقيق في المقدمة السابعة الخاصة بالقصص القرآني لحقيق به أن يكون نبراسا وعلامات للخائض في التأليف في قصص القرآن وأن يجعل تلك الفوائد والمقاصد الواردة فيه نصب عينيه وهو يسطر تفسيره وتحليله لماجريات القصة ومناسباتها وأماكن ورودها فما أحوجنا لاقتناص منارات هدى توائم وضعنا الراهن وتوظف القصص القرآني ليكون حياة نسير على خطاها "لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (يوسف: 111). وإن الناظر المتأمل لما ورد من مباحث في المقدمة السابعة التي أوردنا بعض نقاطها المهمة بإجمال يلمس بجلاء نفس هذا الإمام العلمي الجليل ودقائق إشارته ودقة عباراته وما فيها من التحرير والجدة فحقيق به أن ختم هذه المقدمة بقوله "فهذه تحقيقات سمحت بها القريحة، وربما كانت بعض معانيها في كلام السابقين غير صريحة"15.
--------------------
1- التحرير والتنوير (30/ 636)
2- التحرير والتنوير (1/ 7)
3- التحرير والتنوير (1/ 63)
4- التحرير والتنوير (1/ 64)
5- التحرير والتنوير (12/ 203-204)
6- التحرير والتنوير (1/ 64)
7- التحرير والتنوير (1/ 65)
8- التحرير والتنوير» (7/ 366)
9- التحرير والتنوير (1/ 65)
10- التحرير والتنوير (1/ 38)
11- التحرير والتنوير (1/ 66)
12- النبأ العظيم (ص122) طبعة دار القلم
13- التحرير والتنوير (1/ 64)
14- التحرير والتنوير (1/ 68)
15- التحرير والتنوير (1/ 69)