كسـوف
بقلم / مجدي جعفر
هاتفني !
عشر سنوات انقضت ولم نلتق إلا بضع مرات بالمصادفة ، نتعانق لدقائق في الشارع ( الزي الصحة .. الزي الحال ! )
.. يهاتفنى من العريش
كان يكبرني بسنوات قليلة .
يهنئني بنشر قصة لي في جريدة سيارة
أداعبه : هل ما زالت أشعارك حبيسة الأدراج ؟
يأتيني صوته ضاحكاً :
" نويت أن أفك قيدها ، وأطلق سراحها .. "
ما زلت أحتفظ بوهج بداياته ، كان متيماً بأمل دنقل .
ضحكاته تجلجل عبر الهاتف ، يضرب لي موعداً :
- نلتقي غداً ظهر الأربعاء.
- لماذا تختار وقت كسوف الشمس يا مجنون ؟!
- أختار اللحظة النادرة ياصاحبي ، لا تصدق علماء الفلك ، فالشمس والقمر يتعانقان ، يلتقيان ، لقاء الحار بالبارد ،
السالب بالموجب .
ويضحك ، فأشعر بأسلاك الهاتف تهتز ، يقول :
- يُنبئني قلبي أن الشمس ستلتقطني فى هذا اليوم ، تصهرني ، تذوبني ، وقد أصير شعاع ضوء أبدد مساحة العتمة .
أضع السماعة وأنا أضحك ، وأجدني شارداً في ذلك الصديق القديم .
يقرأ علىَّ أشعاره ونحن نتسكع في طرقات مدينتنا الصغيرة ، يحدثني عن بنت الجيران ربة الشِعر التي تلهمه القصيدة .
يتصيد أفكاره من شوارع " القصلة" الضيقة ، والملتوية كأفعى ، وبيوتها الواطئة ، وتكدس الأولاد في غرف ضيقة لا تدخلها الشمس ، وافتراش النساء لعتبات الدور، والذباب ، وأكياس القمامة وتلال السباخ والناموس .
أدخلني إلى عالم حسن فتحي وعمارة الفقراء ، يشرح لي نظرياته وأفكاره ورؤاه .
اتفقنا على حب –جمال عبد الناصر ، وعلقنا صوره على الجدران ، أهداني قصائد أحمد فؤاد نجم وأشرطة الشيخ إمام .
متكئاً على ذراع الذكريات ، وصديقي القديم ، متأبطاً ذراعي ، نجوب شوارع مدينتنا الصغيرة ، أسفلت الشارع يجلد أقدامنا ، يحدثني عن أمه الطيبة ، ووالده الرجل الطيب الذى يتباهى بابنه الذى ألحقه بكلية الهندسة ، ومشقته في تدبير مصروفات الكلية وثمن المذكرات والكتب، يحدثني عن النيل والسد العالي ، وأنظمة الري ، يحلم بوصول النيل إلى جنوب الوادي ، يحدثني عن دراسات علمية وأبحاث جامعية تجعل من مصر - لو نفذت - سلة غلال للعالم !
أبتسم - وأحدث نفسي – هاهي أحلامك تتحقق يا صاحبي ، النيل بصل إلى سيناء ، وتترك هندسة الري بالزقازيق وتركب النيل إلى سيناء .
ساعات ونلتقي أيها الصديق وتحدثني عن حلمك الذى تحققه على أرض سيناء ، ونستعيد معاً الذكريات .
- الولد أحمد العشري الذى هجر الشِعر والدراسة والبنات ، وأطلق اللحية ، ولبس الجلباب القصير ، وأنكرنا في الطريق العام ، ورفض مصافحتنا ، وأسمانا أصدقاء الجاهلية !!
- والولد أحمد الجمال عاد من الخارج يلبس البنطلون الجينز والقميص الحرير المشجر يفوح منه عطر نفاذ ، وسوار في معصمه ، وسلسلة مفاتيح ذهبية ، وساعة رادو، يمسك "موبايل" ويركب سيارة حديثة لا أعرف ماركتها ، يكتب أشعاراً " بترودولارية" !!
- ورَّبة الشِعر التي كانت تلهمك القصيدة – داست على قلبك وشِعرك وفقرك وباعتك بحذاء أنيق ورداء أنيق ، وألقت بنفسها في أحضان أول من صادفته يملك المال والثوب والذهب !!
و.. و.. وأنت أيها الصديق – رحت تحلم " بقصلة " جديدة في سيناء ، شوارع واسعة نظيفة مسفلتة ، وبيوت جديدة تدخلها الشمس والهواء النقي ، عانقت أحلام أهل " القصلة "(*) البسطاء وامتطيت النيل وسافرت به إلى سيناء ، تطبق نظم الري الحديثة ، أكاد أرى بريق فرح في عينيك الخضراوين . أنظر في ساعتي حاثاً عقاربها على سرعة الدوران ، أنادى الشمس أن تخرج لأخرج لمقابلة الصديق ، رغم تنبيهات أجهزة الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة بضرورة البقاء في البيوت والتحذيرات من التطلع إلى الشمس حتى لا تسرق شعاع البصر!!
أفتش في دفاتري القديمة عن بعض قصائده ، أنفض التراب عن أيامنا الخوالي ،
مسئولو الأمن في الجامعة يمنعون قصائده ، كل المنابر لفظت أشعاره ، ورفضت إعطاء قصائده هوية ، لملم في أشعاره أحزان الوطن ، ونسج من أحلام الغلابة حُلماً ، قال0:
- الشاعر .. كلمة - ألقاها الله في بطن العذراء - فكان المسيح قصيدة شعر .. الشاعر- نبي - بالكلمة يفتح قلوباً غُلفا .. ويُسمع أذاناً صُما .. بالكلمة نُطبب النفوس .. ونُلملم الجِراح ..
قصائده المتبقية في دفاتري وذاكرتي – تسرق الليل منى .
وفاجأتني الشمس عليلة ذابلة ، تنثر ضوءاً خافتاً - وكما توقعت - الشارع خال من المارة – حتى العصافير التي كانت أصواتها في الصباح تطربني سكنت في أعشاشها ، ورحت أتصوره بعينيه الخضراوين ، المتألقتين ، وشعره البني الجعد المفروق من الجنب ، ماذا سيلقى علىّ من أشعار؟! ومساحة الحرية تتسع يوماً بعد يوم .
أفقت من شرودي على رنين الهاتف ، رفعت السماعة ، لأسمع صوتاً حزيناً
- " البقاء لله "!
فزعاً صرخت : من ؟!
- حادث سيارة بشع راح فيه الباش مهندس !
رميت السماعة ، وخرجت مندفعاً - ناظراً للشمس بغضب
وكل يوم أنتظره شعاع ضوء يبدد مساحة العتمة .
(هذه القصة مهداه إلى روح الصديق الشاعر أحمد محفوظ أسكنه الله الجنة)
(*) القصلة حي عشوائي من أحياء مدينة ديرب نجم.