عندما جاءت.. العولمة.. انتهي ـ كما لو فجأة أو بسكتة دماغية قاتلة ـ كل حديث أو نقاش يتعلق بالقضايا وبالتيارات أو التوجهات أو البرامج الكبري والطموح التي سيطرت علي فكر العالم ـ أو تظاهرت بهذه السيطرة طوال العقد السابق علي مجيئ العولمة...
... انتهت كل الأحاديث والنقاشات الفكرية, التحليلية الخصبة التي انشغل بها العقل الغربي ـ وشغل بها عقول العالم التي كانت تبحث ـ مع ذلك العقل ـ عن تصورفكري وعملي معا ـ لمستقبل الانسانية في كوكبها الذي كان يبدو أن ثورات العلم والتكنولوجيا ـ ومناهج التفكير معهما ـ تزيده ترابطا وتفاعلا ووحدة مصير, وتزيد كل شعوبه وحضاراته وثقافاته تكافؤا في المكانة والفرص والحقوق واحترام الخصوصية الثقافية... انتهت كل الأحاديث عن: التنوع البشري الخلاق وعن مابعد الحداثة والحداثة الجديدة, والتفكيك النقدي, ونقد الحداثة, والطريق الثالث... بل لقد انتهي النقاش حول طبيعة العولمة نفسها.. لأن الجميع أصبحوا مطالبين بأن يعلنوا اقتناعهم ـ النظري والتزامهم العملي ـ بتفسير واحد للعولمة; أو أن يسكتوا, مغامرين بأن يعتبر سكوتهم تواطؤا مع خصوم عولمة الإكراه التي نجحت في إنهاء كل نقاش حر حول المستقبل, وفي تحويل التعدد الخلاق في التفكير في مستقبل مفتوح للانسانية, إلي إيديولوجيا قمعية وشمولية ومغلقة بزعم: الدفاع عن الحرية, أو الليبرالية, أو العالم الواحد!.
انتهي فجأة ـ كما لو بسكتة دماغية قاتلة, كل حديث أو نقاش حول قضية: تنوعنا البشري الخلاق والمساواة الكاملة بين كل الثقافات في المكانة والفرص والحقوق وفي احترام الخصوصية والبرنامج المرتبط بتلك القضية التي طرحتها اليونسكو( منظمة الأمم المتحدة للعلم والثقافة والتعليم) طوال عقد التنمية الثقافية( عقد التسعينات) الأخيرمن القرن الماضي وعقدت من أجله عشرات المؤتمرات الاقليمية والدولية; الرسمية ومشاورات الخبراء... وبدلا من ذلك الحديث عن التعدد الخلاق والبحث عن كيفية تدعيم المساواة في الفرص والتكافؤ في الحقوق بين كل الثقافات المتعددة, تحول اليونسكو إلي بحث قضية واحدة, هي كيفية فرض نوع واحد أو صيغة واحدة من الديموقراطية... كأنما قد صدرت الأوامر بذلك من جهة حاكمة ما...
وانتهي كل حديث أو نقاش حول مابعد الحداثة أو بديلتها: الحداثة الجديدة: انتهي النقاش حول مابعد الحداثة التي طرحها الفكر الفرنسي في صورتها المستقبلية التي تكتفي بتوصيف حالة الانسان المعاصر في مجتمع مابعد التكنولوجيا والرأسمالية والصناعة والعلم التجريبي والثقافات القومية والاشتراكية ـ تكتفي بهذا التوصيف ـ دون نقد أي شيء ـ في محاولة للخروج بـ وصفة ناجعة تتيح للناس ـ الأفراد والمجتمعات أو الدول علي السواء ـ أن يستفيدوا إلي أقصي درجة ممكنة من كل الوسائل التي آتاحتها حالة ما بعد كل شيء... تلك الحالة التي خلقتها أساسا ثورات التكنولوجيا والعلوم التي صنعتها والفلسفات التي أنجبتها... إنتهي الحديث عن هذا النوع( الفرنسي أساسا) من مابعد الحداثة كما انتهي الحديث عن النوع الآخر, الانتقادي, شبه الحداثي, أو حتي شبه الماركسي, وشبه البنيوي, الذي أنتجته ـ للعجب الشديد ـ الأكاديميا الأمريكية اليسارية بالذات; الأمر الذي دفع مؤسسات البحث الفكري والعلمي الرسمية في الولايات المتحدة وكندا إلي أن تستعير النوع الفرنسي, الوضعي غير النقدي ـ من مابعد الحداثة..... وفي التوقيت نفسه تقريبا ـ عندما جاءت العولمة ـ انتق
ل فكر التفكيك الفرنسي أيضا ـ وهو الأخ غير الشرعي لما بعد الحداثة في الأكاديميا الفرنسية, ولكنه شقيقها الشرعي في مؤسسات صناعة الفكر الرسمي الأمريكية.. انتقل نقلته المتوقعة مع مسيرة تفكيك العالم وإعادة تركيبه التي خططت لها تلك المؤسسات الأمريكية الفكرية... فبدأ يبحث في ويكتشف طبيعية قوانين عودة الأمم إلي أصولها العرقية والطائفية والقبائلية والدينية: أي أنه بدأ يكتشف طبيعية وبديهية مسيرة التاريخ الانساني إلي الوراء... ليس فقط إلي ماقبل عصر الدول القومية( أو: دولة الأمة) وإنما إلي ما قبل عصر ـ حتي ـ الامبراطوريات الدينية القومية الكبري: امبراطوريات الفرانك والعرب والبيزنطيين والرومان والهنود والصينيين.. إلخ.. وذلك في توليف فكري/ تطبيقي مصطنع مدهش بين كل من ميتافيزيقا التاريخ وعلوم الاثنوجرافيا( السكان/ الأعراق) والأنثروبولوجيا الدينية( الثقافية؟!) والاقتصاد السياسي الكلاسيكي!!..
وانتهي أيضا ـ أو كاد ـ الحديث عن الحداثة الجديدة أو, و:نقد الحداثة: انكفأ النقديون الألمان علي إعادة فحص تراث فلسفتهم المثالية ـ فلسفة عصر التنوير وما قبل الحداثة بحثا عن أسس لتصور صالح عن عالم واحد له معايير واحدة تكمن وراء الخصوصيات القومية والعرقية والطائفية ـ ولا تتعارض مع أي خصوصية ـ لعل مثل هذه المعايير أن تصلح لتفسير ـ أو لتبرير أوروبا موحدة علي الأقل, دون أن تطمح ـ مؤقتا ـ لأن تفسر ولا أن تبرر وحدة أوروبا مع بقية الانسانية: فاذا كان توحيد أوروبا أصبح ممكنا من الناحية العملية, فلماذا لا يكون ذلك ممكنا علي المستوي النظري وماالذي يمنع من توظيف النقد الحداثي في إعادة فحص مقولات التنويريين الكبار ـ من كانط إلي روسو إلي كوندورسيه أو مونتسكيو أو فيكو أو جوتة ـ إلخ.. عن إنسانية/ عالمية واحدة, ولكنها ـ الآن ومؤقتا ـ ستنطبق علي الأوروبييين ـ كلهم ـ وحدهم؟! ولكن الانجلو/ سكسون البريطانيين وأصحاب مدرسة: الدراسات الثقافية ـ في نقد كل من: الحداثة, ومابعدها فضلوا أن ينتقلوا إلي إعادة قراءة تراثهم الحداثي الخاص( إقرأ النماذج علي هذه الصفحة): فهم ـ بعكس النقديين الألمان: لم يشعروا بعد بحكاية وحدة أوروبا المعيارية عمليا أو نظريا; وما تزال دولتهم القومية محل اختبار; وتراثهم الامبراطوري مصدر إغراء; وذوبان الفوارق ـ بفضل الحداثة والثراء الامبراطوري ـ بين اليسار التقليدي واليمين التقليدي ـ مصدر إحساس بالعزلة الاجتماعي/ الثقافي.. فضلا عن كونه مصدر إحساس بالعزلة.. عن أوروبا, وعن الانسانية كلها في مسارهما العام!!..
***
ولكن متي جاءت العولمة( ؟) أو: في أي لحظة تاريخية ـ بالتحديد ـ جاءت- لكي يحدث هذا التوقف المفاجيء لمصانع الفكر الغربية عن متابعة تطوير أكبر ـ وأنجح ـ منتجاتها الفكرية في نهاية عصر الحداثة التقليدية بالنسبة للغرب؟..
هل جاءت ـ كما يقول البعض عندما انهار الاتحاد السوفيتي ومنظومته/ امبراطوريته الاشتراكية التي كانت آخر منتجات الحداثة الغربية التقليدية نفسها؟.. أم جاءت ـ كما يقول آخرون عندما ـ وقعت أحداث11 سبتمبر2001, فقررت واشنطون( رأس العولمة بلا شك) أن لا يعلو صوت فوق صوت الحرب علي الارهاب, والحرب من أجل فرض نوع بعينه من الحرية هو النوع الذي تنتجه مصانع الفكر الرسمي الأمريكية؟!
أم أن العولمة جاءت يوم20 يناير2001, يوم تولي الرئيس جورج دبليو بوش السلطة رسميا في واشنطون بعد آخر سيناريو انتخابي محكم وفق آليات الليبرالية الأمريكية؟...
قد لا يكون مهما أن نحدد الموعد الذي جاءت فيه العولمة; ولكنها جاءت, وعندما جاءت, أصبح للحديث عن الفكر في الغرب ـ هذه المسارات المغايرة المتناقضة بوضوح مع المسارات السابقة; حتي إشعار آخر.. وتلك هي ـ علي كل حال ـ طبيعة وأحكام قانون التغير الدائم الذي اكتشفته ـ ضمن كشوف كثيرة ـ الحداثة الغربية, بالذات!!!..
منقول