هل الأرض تدور أم تسبح أم هي ثابتة؟

العاقل من الناس من يتعظ بغيره.
والعاقل من الناس من يأخذ بتجارب الآخرين من حيث انتهوا وليس من حيث بدأوا كما يقول المرحوم محمد متولي الشعراوي، ومثل الحديث عن دوران الأرض وحركتها ليس وقتها الآن، كان يمكن أن يكون قبل ظهور القرآن، أما وقد ظهر القرآن وجاء بالحقائق فما علينا إلا اعتمادها للإدراك شريطة أن تكون النصوص قطعية الدلالة، ولكن وعلى الرغم من ظنية دلالة كثير منها علينا أن نتثبت، فالعلم التجريبي نسبي، هذا صحيح، ولكن النصوص ظنية الدلالة في القرآن الكريم تحتمل عدة معاني قد تكون غير التي نتبناها، هذا كمقدمة.
إن الثبات ضد الحركة، وغير المتحرك ميت، والميت يتحلل ويصاب بالخمج، ولا يقال أنه عبارة عن ذرات ليست ميتة من حيث ظهور الحركة عليها في الميت لأنها تظهر متحركة عند تحليله واندثاره، لا يقال ذلك، كما لا يقال أنها تتنقل من جسم لآخر، فهذا القول لا يثبت إلا برصد حركة ذرة انتقلت من ميت إلى حي مثلا، دعونا من هذا الآن، فالإنسان متحرك ببدنه وذاته، وفرق بين البدن والذات، متحرك ببدنه من خلال الخلايا والذرات والأعضاء والعضلات والأنسجة وما إلى ذلك من مكوناته البدنية، ومتحرك بذاته من حيث وجود نفس فيه وروح، وكل ما فيه له أحوال خاصة به، وله واقع مختلف، وله مصير واحد ولكن بنفس المكونات، حتى في البعث نحشر بأبداننا وأنفسها وأرواحنا ولا مجال للقول باستحالة ذلك نظرا لغياب شروط الحياة، لا مجال لمثل ذلك القول لأننا مع رب عظيم لا يعجزه شيء يضع الشروط ولا يخضع لها، فإذا أراد للإنسان أن يحيا بيننا بغير شروطنا فله القدرة على ذلك.
أما ثبات الأرض وعدم حركتها فهذا صحيح مشاهد لأننا لا نشعر بحركتها، وأما حركتها فصحيح هو الآخر ومشاهد نشعر به، يشعر به من تحركت الأرض تحت قدميه كالذين عايشوا الزلازل، ثم إن علمنا القطعي واليقيني أن الأرض بداخلها صهارة متحركة تطفو على سطح الأرض بين الحين والآخر فيما نعرف من البراكين، والصهارة المتحركة عقلا وواقعا لا تنفي أن يتحرك لحركتها ما ومن يحيط بها كطبقات الأرض ومن على الأرض وفي الغلاف الجوي وتحت الثرى، ثم إن الرسول الأكرم صلوات الله عليه وسلامه قال في حديث له: ((لا يركب البحر إلا حاج أو غاز أو معتمر فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا)) وهذا يعطينا شكلا للأرض ربما تحدثنا عنه لاحقا، ثم إن قول الله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)) الأنبياء 33، لا يعني سوى الحركة لليل والحركة للنهار والحركة للشمس، والحركة للقمر، فالليل والنهار حين يتحركان؛ يتحركان في حيز هو الأرض، يتحركان في الأرض وعلى الأرض وفوق الأرض وتحت الأرض، فهل يتحركان دون حركة الأرض، ثم إن الجبال التي نحسبها هامدة وجامدة وهي متحركة بنص القرآن الكريم، هل تقع هذه الجبال في غير الأرض؟ وإذا تحركت ومرت مر السحاب فهل تتحرك معها الأرض أم أن الجبال مفصولة عن الأرض؟ قال تعالى: ((وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) النمل، فالآية الكريمة من الناحية الإعرابية تخاطبك شخصيا وتخاطب كل من ينظر ببصره تحديدا إلى الجبال، وعند محيي الدين درويش أن هذا (( طباق عجيب بين الجمود والحركة السريعة فجعل ما يبدو لعين الناظر كالجبل في جموده ورسوخه ولكنه سريع يمر مرورا حثيثا كما يمر السحاب وهذا شأن الأجرام العظام المتكاثرة العدد إذا تحركت لا تكاد تتبين حركتها))، انظر إلى التقنيات العالية في التصوير اليوم فإنك ترى صورا تجري بسرعة إما إلى الخلف وإما إلى الأمام حين تريد ذلك، وترى صورا تبطئ بغية التثبت من ضربة جزاء في لعبة كرة القدم مثلا حين تريد ذلك أيضا، ويقينك أن ابنك أو حفيدك وهو صبي حين تنظر إليه اليوم مثلا ثم تعود للنظر إليه بعد شهر تلاحظ كبره عما كان عليه في السابق، ومعنى ذلك أنه تحرك، أي نما دون شعورك بذلك، وأمه أيضا حين تنظر إليه كل يوم وفي لحظات كثيرة لا ترى حركة نموه علما بأنه ينمو قطعا، وأنت حين تنظر إلى النبتة في أصيص (محباق) بمنزلك أو حقل لك أو في الحدائق العمومية لا ترى للنبات حركة، ولا تشعر بها، ومع ذلك توقن أنه ينمو بدليل أنك ترى نموه ونضجه بعد حين، فهل يعني ذلك أنه لا يتحرك؟ كلا، فلو أنك سلطت كاميرا عالية التقنية تسجل الحركة في الثانية وأجزاء من الثانية ثم عدت إلى مشاهدتها فسترى النبات يتحرك أمام عينيك وتتعجب من خلق الله تعالى وصنعه البديع؛ فكذلك الأرض فهي متحركة بنفسها وبمن عليها، وعدم إدراكنا لحركتها طبيعي وبسيط لأننا لا نملك عيونا مثل عيون الكاميرات عالية التقنية، ولكي تجزم بوضعك الإيماني لن تنفي مطلقا أن الجبال تسير وتمر مر السحاب وأنت لا تراها على الرغم من نظرك إليها وتحديقك المستمر فيها، فهل يعني ذلك أن القرآن قد أخطأ حين وصف الجبال بأنها تمر أي تسير وتتحرك؟ كلا، وعليه فمطابقة الفكر للواقع الذي يعطي الحقيقة ويؤكدها لا يقتصر في الوصول إليها من خلال اعتماد الحواس الخمس فقط، بل لا بد من تجاوز ذلك وإلا لكانت حركة الجبال غير مطابقة للواقع، ولكان وجود القرين عند الإنسان ووجود الرقيب العتيد ووجود الجنة والنار والبرزخ خرافات، ولكان القرآن كتاب تخريف وهذا لن يكون حتى وإن لم تر ما يقال لك، وهكذا الأرض تسير تجري تسبح..
إن أهم تعبير مطابق للواقع عن حركة الأرض وعدم ثباتها هو السباحة بتعبير القرآن العظيم، فالدوران غير السباحة، السباحة تحتاج إلى وسط كالماء حتى يطفو الجسم السابح، والفضاء الذي فيه الأجرام السماوية تسبح في فراغ هذا ما نشاهد، ولكن الحقيقة أنها تسبح في وسط جذبي يشبه وسط الماء بالنسبة للسباحين في البحار والمحيطات والوديان، وهذا خلاف الدوران وقد شرع علماء الفضاء والفلك والفيزياء يستعملون كلمة السباحة بدل كلمة الدوران، وقد بنوا مسبحا ضخما لتعليم رواد الفضاء كيف يتحركون في الفضاء وقد رأيناهم يتحركون كما يتحرك الإنسان في وسط مائي، فالليل والنهار والشمس والقمر يسبحون في أفلاكهم، واستعمال كلمة ((كل)) دون استعمال المثنى وهما الشمس والقمر يؤكد دخول اليل والنهار مع الشمس والقمر في السباحة والفُلْك لأن كلمة كل تدل على الجميع، تدلّ على الاستغراق والشمول، تدل على التَّمام لأفراد ما تضاف إليه أو أجزائه، وهي في الغالب تستعمل مضافة لفظًا أو تقديرًا وحكمها الإفراد والتذكير، ويكون معناها بحسب ما تضاف إليه، وتستعمل وصفًا مؤكّدًا مفيدًا للكمال، فكان اليل والنهار من الأرض وكانت الأرض بليلها ونهارها تسبح هي الأخرى في فلكها.
هذا ببساطة من خلال إعمال العقل والمقارنة بين الآيات القرآنية، فالأرض كونها قرارا لا يعني ثباتها، انظر إلى الجنين في رحم أمه ألم يصف القرآن مكانه بأنه قرارا؟ نعم، فهل يتحرك الجنين بحركته هو؟ نعم، وهل يتحرك الجنين بحركة أمه؟ نعم.
إن أعيننا في مجاراة السرعة الفائقة لا تدركها لأنها مفطورة على ذلك ولو كانت أعيننا على غير ذلك لما طابت الحياة ولما وجدت قيم، انظر إلى جمال من تحب فإذا كانت عيناك بقدرة المجهر العادي أو المجهر الإلكتروني فإنك لن تعرف شيئا اسمه الجمال والقوام والحسن والبهاء وما إلى ذلك لأنك سترى بعينيك الجراثيم والميكروبات والبكتريا على وجوه أحبائك فتتقزز منهم وتقرف مما على وجوههم، فكانت حكمة الله تعالى أن خلقنا على وضعنا هذا في أحسن تقويم بشروط نخضع لها ومحيط نعيش فيه حتى نتذوق الحياة وحتى نعرف الجمال والحسن والحكمة والإبداع.
وقد يقال أنك استعملت حديثا تكلم فيه العلماء فقال فيه من قال بضعفه وقال من قال بغرابته، والجواب على ذلك أن الحديث من حيث المتن له واقع عرفناه بعد سبرنا للبحار والمحيطات ورؤية ما في قاعها ولكن هذا لا يعني أنني أحاول إيجاد واقع للحديث يصحح سنده، لا أبدا فهذا بحث له رجاله وأنا عيال عليهم، غير أن إعادة النظر في تراثنا وثقافتنا فعل محمود سيغنينا ويبرز كنوزا لا تزال خفية علينا، والمهم أن الحديث إذا صح عن النبي فهو وحي نعمل به، فإذا كان فيه أمر بالفعل أو نهي عن الفعل فهذا بحثه في الأحكام الشرعية لمعرفة الواجب والمندوب والمباح والحرام والكراهة، وإذا كان في خبر الآحاد نتوقف عنده ولا نعتقد فيه، بل نصدقه، وإذا كان من غير النبي ننظر فيه بعقولنا فإذا كان مطابقا للواقع فذلك يجعل من الحديث لغير النبي ثقافة إسلامية راقية ومعتبرة أبدعها مسلمون من حضارة متميزة تقنع العقل وتوافق الفطرة وتملأ القلب بالطمـأنينة ولو أن تكون خواطر أو استشرافات للمستقبل، المهم أن الحديث له متن صحيح، وهناك بحث حديث يقول أن تحت نار البحر ماء كثيفا أكثر من الماء الذي هو فوق النار، هذا الاستنتاج غير صحيح إلا من جهة اعتبار أنما تحت النار بحرا هو عينه البحر من الجهة الأخرى وهذا يعطينا صورة عن كروية الأرض ولو ألا تكون تماما بحيث تظهر عليها البيضاوية، لأن الأرض كلها ماء تقريبا، وما اليابسة إلا ثلثها أو تكاد.
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
محمد محمد البقاش
طنجة بتاريخ: 27 يوليوز 2021م