للكاتب :عبد الغني سلامة




نعيش اليوم عصرا جديدا، يختلف في شكله ومضامينه عن كل العصور السابقة، فقد ظهرت مفاهيم حقوق الإنسان، والقانون الدولي، والديمقراطية، والعولمة، والإرهاب.. ونشأت معها تشكيلات ومنظمات ومواثيق ومعاهدات عالمية، لم تكن معروفة من قبل، وفي نفس السياق ظهرت مشكلات وأزمات جديدة كليا، أو تعمقت أزمات قديمة، واتخذت أشكالا جديدة، منها النمو السكاني، التلوث البيئي، الطاقة، تطبيقات التكنولوجيا، الحروب، توحش الرأسمالية... وكل ما ينبثق عنها من أزمات ومشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية يعاني منها الإنسان الحديث.




والعالم الإسلامي (الذي يعيش مرحلة تأخر وانحطاط) أمامه تحديات خطيرة وجدية، فإما أن ينخرط في منظومة العولمة الإنسانية، أو يظل في مؤخرة الدول.. وحتى لو اختار الانعزال، فعليه أن يستجيب لمتطلبات العصر، واجتراح حلول لمشكلاته العديدة والمعقدة.




ومن الواضح أن السلفية الإسلامية (التي تتبناها مختلف حركات الإسلام السياسي) لم تقدم حتى الآن حلولا ناجعة، وما زالت تعاني من أزمات خانقة، وتراوح في إطار التنظير، وضمن رؤية ماضوية، فضلا عن صراعاتها الداخلية، وبالتالي نحن بحاجة لخطاب إسلامي حديث، وعقلاني.. تماما كما فعل المسلمون في القرن الثاني والثالث الهجري.. مع مراعاة التغيرات الجوهرية التي أصابت كل مجالات الحياة في عصرنا الراهن.




هذا لا يعني أن المسلمين الأوائل هم من أول من تلقى الإسلام،، وفهموه من منظورهم الخاص، وفقا للأرضية المعرفية المتوفرة آنذاك، وضمن البيئة والظروف المحيطة، ولكن بالطبع استنادا لجوهر الدين، كما جاء في القرآن، وكما علمهم الرسول.. ولكن مع الوقت (أي بعد قرون قليلة من ميلاد الإسلام) أخذت تتشكل تمظهرات جديدة ومتباينة لفهمه وتأويله، فمثلا بعض أمور العقيدة فهمها الصحابة على شكل مختلف عما فهمه التابعون في مراحل الدولة العباسية، كما جاء في مجادلات الحسن البصري، وواصل بن عطاء والغزالي وابن رشد والفارابي وغيرهم.. فالبيئة الصحراوية التي عاش فيها الصحابة تختلف عن بيئة الحواضر المدنية في العصرين الأموي والعباسي.




في مجالي الحديث والسيرة، سنجد أن كتب الصحاح، تحتوي على مئات الأحاديث المنسوبة للنبي، وهي أحاديث ضعيفة وموضوعة، ومع ذلك ما زالت تفعل فعلها إلى اليوم، بوصفها نصوصا مقدسة.




كذلك ظهرت تباينات واضحة في القضايا الفقهية، بين الأئمة أنفسهم، وبين التيارات والفرق الإسلامية، كما اشتملت بعض كتب التفسير على الكثير من الإسرائيليات، والخرافات، والتفسيرات الغيبية التي يبدو واضحا جهل المفسرين آنذاك بالقضايا العلمية والتاريخية.




إذاً، مع أن جوهر الإسلام واحد، ومرجعيته محددة؛ إلا أنه ظهرت له صور ونماذج وتفسيرات متعددة ومتباينة، كانت في حقيقتها عبارة عن نتاج تفاعل حي بين مسلمي ذلك العصر وظروفهم الموضوعية والذاتية.




وخلاصة القول، إن الإسلام دين ديناميكي، مرن، متطور.. بدأ بسيطاً، بساطة البيئة التي نشأ فيها، وتضمن الأحكام والمبادئ العامة (القرآن الكريم).. ثم نما وتطور وأخذ صيغته الحالية (المتعددة) في العصرين الأموي والعباسي، وكل التطورات التي حدثت فيما بعد لم تبتعد كثيرا عنها (بسبب تعطيل الاجتهاد). وهي صيغة تشكلت وتطورت على يد فقهاء ومجتهدين بشر، وكانت انعكاسا للبيئة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تبلورت فيها.




فإذا امتلك فقهاء وعلماء ومفسرو صدر الإسلام الشجاعة والتطور المعرفي ليقدموا تأويلاتهم وفهمهم الخاص للإسلام، وهم على بعد قرن أو قرنين من وفاة الرسول، فنحن اليوم، وقد مضى أزيد من ألف سنة على آخر تحديث للإسلام، بأمس الحاجة لتقديم رؤية جديدة ومتطورة للإسلام، خاصة فيما يتعلق بما ظهر من مستجدات.




وفي الوقع ثمة أسباب موضوعية أخرى تستدعي هذا التحديث، أولها: أن العالم الإسلامي يعيش حالة ضعف وتخلف، ويعاني من مشكلات وأزمات لا حصر لها، وثانيها: بسبب حالة التشرذم والتفكك والصراعات الطائفية والمذهبية، التي تتطلب خطابا توحيديا ديمقراطيا يستوعب الجميع، وثالثها: ظهور نماذج متخلفة ومتطرفة للإسلام السلفي (القاعدة، النصرة، داعش..) ساهمت في تشويه صورة الإسلام، وعمقت حالة الإرباك حول من يمثل الإسلام الحقيقي. ورابعها: تقديم إجابات عصرية عقلانية لتحديات العصر.




وإزاء قضية تحديث الخطاب الإسلامي، نحن اليوم أمام وجهات نظر متناقضة؛ منها ما تدعو لتنقية التراث الإسلامي من كل ما علق به من مظاهر سلفية متخلفة ومتطرفة، ومن خرافات، وتفسيرات مغلوطة.. سنرى هنا البحيري، صبحي منصور وغيرهم.. أو من يفسر القرآن برؤية يراها عصرية (محمد شحرور)، ومن يقدم قراءة نقدية للخطاب الديني برمته (نصر أبوزيد، محمد أركون، جمال البنا)، ومن ينتقد كل التراث الديني، ويدعو لتحييد النصوص التي لم تعد مناسبة في العصر الحالي، مثل مواضيع العبيد والجواري والغنائم والفتوحات والخراج والفيء والعقوبات البدنية.. (سيد القمني). ومن ينقد الفكر الديني أساساً (صادق جلال العظم)، ومن يعتقد أن أي عملية تجديد للدين إنما هي محاولة تجميل فاشلة (حامد عبد الصمد)، إضافة لما تقوم به السعودية ومصر من محاولات شكلانية لتجديد الخطاب الديني، تحت إشراف الدولة، وبما يخدم مصالحها.




في الموقف المضاد، سنجد المؤسسات الدينية التقليدية (وأهمها الأزهر)، ومعظم الحركات الإسلامية السياسية (أبرزهم "الإخوان المسلمين"، حزب التحرير)، علما أن موقف الإخوان غير واضح، ومتذبذب، فمثلا، الترابي والغنوشي يقدمان قراءة أكثر تطورا من التيار التقليدي الإخواني.




عموما، هؤلاء يعتقدون بوجود نموذج موحد للإسلام، وهو صالح لكل زمان ومكان، وليس بحاجة لأي تحديث، بل بحاجة لدولة خلافة تطبقه بأمانة.. علما أن هذا الطرح (من وجهة نظر من يدعو للتجديد)، غير واقعي، وغير تاريخي، بدليل ما نراه اليوم من صور متعددة ومتناقضة لنماذج كلها تعتقد أنها تمثل "الإسلام الصحيح".. وأن دولة الخلافة، من بعد الخلفاء الراشدين، كانت عبارة عن إمبراطوريات عائلية، طبقت نماذج مشوهة للإسلام. أما النموذج السائد حاليا، فهو ما تم تناقله عبر الأجيال، وهو النموذج الذي ساد بعد تراجع دور العقل لصالح النقل وتقديس النصوص، وبعد تفريغ الإسلام من مضامينه الثورية.




إذا اتفقنا على أهمية وضرورة تجديد الخطاب الديني؛ فالأسئلة المطروحة: هل يمكن ذلك دون مناخ ديمقراطي يضمن حرية التفكير والتعبير والاجتهاد، بكل صراحة، ودون تخويف أو تكفير من الغير؟ هل هذه المهمة منوطة برجال الدين فقط؟ وهل يمكن للنخب المثقفة من خارج المؤسسة الدينية أن يؤثروا في هذا الاتجاه؟ والسؤال الأهم: إلى أي مدى يمكن ذلك؟




* عن موقع دنيا الوطن