فِي خِضَمِّ نَدَمٍ يُعَاتِبُ دَوائِرَ الأَمْسِ، وَفِي حِضْنِ حُلُمٍ يُداعِبُ ضَفائِرَ الشَّمْسِ، أَرْسَمُ عَلَى جَبِينِ قَصِيدَةٍ عَذَارَى احْتِفالٍ مِنْ مَلامِحِ طَيْفِكِ الهارِبِ مِنْ مِيَاسِمِ الوَرْدِ إِلَى مَوَاسِمِ الشَّهْدِ، وَأَمْلَأُ مِنْ عُصَارَةِ الحَنينِ كَأْسَ شَوْقٍ أَنْثُرُهُ عَلَى وَجنَةِ القَمَرِ، وَأَحْتَسِيهِ عَلَى حِينِ بَغْتَةٍ مِنْ مَسَاءٍ وَاجِمٍ يُعْلِنُ النَّفيرَ إِلَى لَيْلَةِ سُهْدٍ وانْتِظارٍ. وَبَيْنَ اَلْرَشْفَةِ وَاَلْرَشْفَةِ تَتَنَهَّدُ رِئَةُ المَعْنَى الحَائِرِ عَلَى شَفَةِ السُّؤالِ السَّاهِرِ يَبْحَثُ عَنْ جَوابٍ يَدُلُّ سَبِيلَ الْإِيَابِ، وَيَسْتَهْدي مِنْ رَحِيقِ اليَقينِ دُرُوبَ الوِصَالِ الَّتِي أُجْفِلَ مِنْ خَلَايَا شَهْدِهَا نَحْلُ الحِوَارِ.
ثَمَّةَ صَمْتٍ ناطِقٍ يَعْتَلِي شُرُفَاتِ اللَّهْفَةِ وَالأَنِينِ؛ يَحْطبُ فِي لَيْلِ الوَحْشَةِ ظُنُونَ فَرَقٍ وَأَشْوَاكَ أَرَقٍ، وَيُوقِدُ مِنْ غَضَى الكَثَبِ جَمْرَ عَتْبٍ أَنْ أَشْرَقَ الفَجْرَ بِالدَّمْعِ الحَرِيرِ. وَإِذَا نَظَرْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ دَهْشَةً مِنْ وُجُومِ الرَّهْبَةِ يَحْمِلُ تَابُوتَ السَّكِينَةِ عَلَى أَكْتَافِ الجَزَعِ لَوْعَةَ فِراقِ، وَيُلْقِي عَلَى شغَافِ القَلْبِ قَمِيصَ الحُبِّ أَنْ يَعُودَ بَصِيرًا، وَيَعْلَمُ أَنَّ حُوبَ الحَسْبِ بَرِيءٌ مِنْ غُرْبَةِ الدَّرْبِ وَحَيْرَةِ اللُّبِّ فِي حَالِ تَعْلِيقِ المَآلِ عَلَى مِقْصَلَةِ السُّؤالِ. وَأَنَا هُنَا مُهْجَةٌ تَتَلَظَّى بِمَا يَسْجرُ النَّبْضَ مِنْ حَنِينٍ وَأَنينٍ، وَتُصَافِـحُ أَكُفَّ الوَرْدِ النَّاضِحِ والوِدِّ الوَاضِحُ فِي أَفَانِين بُسْتانٍ لَا يَزَالُ فِي عَيْنَيَّ أَخْضَرَ يَانِعًا. وَإِنَّ نَايَ العِطْرِ لَا يَزَالُ بِالغَرامِ الصِّرْفِ يَصْدَحُ، وَنَهْرَ الغَيْمِ بِاَلْوِئَامِ المُسْتَكِينِ يُغَنِّي.
مُشْرِقٌ بِالبَهاءِ حُضُورُكِ، وَمُورِقٌ بِالحَيَاءِ أُثيرُكِ، نَلْتَقِي عَلَى ضِفَّةِ البَوْحِ اَلْحالِمِ نُمارِسُ فِي مِحْرَابِ الشَّوْقِ طُقُوسَ الرَّحِيلِ إِلَى مَوَاسِمِ الدِّفْءِ؛ إِلَى عُشٍّ تُغَرِّدُ فِيه تَراتيلَ اللِّقَاءِ قُلُوبٌ لَا تَعْرِفُ مُرُوجُهَا إِلَّا سَنَابِلَ وَأَزَاهَيرَ. وَقَلْبُكِ يَا حَبيبَةُ أَقْحَوانُ فِرْدَوْسٍ يَقَقٌ. وَلَا تَبْرَحُ نِيَاطُ قَلْبِي المُعَلَّقَةُ بَيْنَ السَّحَابِ والسَّرَابِ تَمْتَدُّ فِي جُيوبِ الغَيْبِ تَذْرَأُ رُوحِي فِي مَدَارِكِ، وَتَكْلَأُ خَفْقِي فِي انْتِظارِكِ. أَحْلَامُنَا أَيَّتُهَا الحَبيبَةُ نافِذَةٌ بَيْضَاءُ تُطِلُّ مِنْ رِبْقَةِ أَمْسِنَا الغَابِرِ عَلَى ضِفَّةِ غَدِنَا الزّاهِرِ، تُلَمْلِمُ مَا بَعْثَرَتْهُ أَنَامِلُ الزَّمَنِ فِي طِينِ الغُرْبَةِ مِنْ تَبَارِيحِ الفُصُولِ.
وَحِينَ تُبْكِينَ قَلْبِي وَتَبْكِينَ قَبْلِي تَتَضَاءَلُ فِي عَيْنِ المَعَاني فَصَاحَةُ الأَمَلِ وَتَتَعاظَمُ فِي كَوْنِ الأَمَانِي عُجْمَةُ الأَلَمِ بانْبِجَاسِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عَيْنًا تَصُبُّ لِي مِنْ صَابِ الوَصَبِ كُلَّ سَاعَتَيْنِ كَأْسًا فَلَا أَكَادُ أَصْحو مِنْ عَذابِ الوَجْدِ حَتَّى يُثْملُنِي رُهَابُ الفَقْدِ وانْتِزاعِ الرّوحِ. وَلَقَدْ كُنْتُ أَحْسَبُ أَنْ أَصْدَقَ الحُبِّ وَأَعْظَمَهُ مَا وَقَرَ فِي قَلْبِ أَمٍّ رَؤُومٍ حَتَّى الْتَقَيتكِ فَعَلِمْتُ أَنَّ الحُبَّ فِي قَلْبِ امْرَأَةٍ عاشِقَةٍ أَعْظَمُ وَأَرْأَمُ، وَأَنَّ عَنَاقِيدَ كَرْمَةِ قَلْبِكِ أَكْرَمُ وأَطْعَمُ مِنْ كُلِّ مَا خَطَرَ فِي قُلُوبِ كُلِّ اَلْبَشَرِ. وَإِنَّ رَحِيلَكَ يَا حَبَّةَ القَلْبِ قَدْ عَلَّمَ الزَّهْرَ اَلذُبُولَ وَأَلْهَمَ البَدْرَ الأُفُولَ وَنَثَرَنِي شَوْكًا فِي عَيْنِ الذُّهُولِ، لَا يَكَادُ يُوقِظُني مِنِّي إِلَّا أَسَارِيرُ طَيْفٍ يُهَدْهِدُ مَا جاَسَ خِلالَ الصَّدْرِ، وَيَعْزِفُ نِزْفِيَ المَكْبُوتَ بِتَرانِيمِ النَّغَمِ السَّادِرِ عَلَى مَسْرَحِ الأَمْنَياتِ.
وَهَا أَنَا بِأَنَامِلِ الضَّرَعِ الأَبيِّ وَرِيشَةِ الوَجَعِ النَّبيلِ أَلَوِّنُ جُلَّنارَ الوَفَاءِ لَوْحَةً مِنْ مَعَانِيكَ الجَميلَةِ، وأَنْدَسُّ فِي ظِلِّي أَمْتَطِي مَتْنِ العَذْلِ، وَأَرْتَدِي ثَوْبَ الوَصْلِ بَيْنِي وَبَيْني انْتِظارًا لِأُنْثَى الغَيْمِ وَوَعْدِ السَّماءِ. فَإَنَّ فِي اقْتِرابِكِ تَتَنَفَّسُ مَسَافاتُ النُّورِ وَتَتَحَدَّثُ شِفَاهُ اللُّغَةِ بِأَحْرُفٍ مِنْ ضِيَاءٍ وَمَعاني مِنْ نَقاءٍ. وَفِي غِيَابِكِ تَتَثَاءَبُ سَلاحِفُ الوَقْتِ وتَتَواثَبُ عَقَارِبُ الصَّمْتِ تَلْدَغُ كُلَّ هُنَيْهَةٍ بِلَوْعَةِ الوَجْدِ وَلَهْفَةِ الحِرْمانِ. وَأَنَا هُنَا لَا أَغادِرُ؛ أَتَحَسَّسُ خَدَّ قَطْرَةِ نَدَى عَلَى وَجْنَةِ وَرْدَةِ أَمَلٍ بِلِقاءٍ. وَهَذِهِ مُهْجَتِي لَا تَنْفَكُ تَبْحَثُ فِي خُطَى الدَّرْبِ فَلَا تَجِدُ إِلَّا قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الشَّوْقِ اَلْسابِحِ فِي تِيهِ مَعَالِمِكَ الأَثيرَةَ؛ يُنَاجِيكَ بِأُغْنِيَاتِ الغَزَلِ وَيُسْرِجُ فِي خَاطِرِ وِحْدَتِي قِنْدِيلِ الأَمَلِ، ويَصْهَرُ زِينَةَ العِشْقِ الحالِمِ لِيَصْنَعَ عِجْلَ تَوْحِيدٍ بِعِشْقِكِ فِي مَعْبَدِ الفُؤادِ.