الأخت الكريمة نسرين
الأخ الفاضل الشاعر سمير
بعد التحية
آمل أن أجد مكانا لي بين هذه النخبة المتميزة من الاقلام الفكرية والأدبية التي تعوّل الأمة على دورها في النهوض من جديد، ومواجهة ما يحيق بها من أخطار تقتحم عقر دارها يوما بعد يوم. وهذه أولى مشاركة لي في هذه الدار التي أرجو أن أعتبرها دارا لي أيضا منذ اليوم
أين بقيت قضية فلسطين؟
لا ريب أنّ الحرب العدوانية الأمريكية ضدّ العراق هي أحد الأحداث الخطيرة الكبرى التي تترتب عليها عواقب وخيمة في المنطقة العربية والإسلامية وعالميا. ولكنّ القول إنّ هذه الحرب هي التي تشغل المسؤولين عن قضية فلسطين وأحداثها الدامية، ليس إلاّ زعما مخادعا يضاعف من تلك العواقب ومخاطرها المستقبلية.
طبيعة الانشغال بقضية العراق
إنّ الحرب ضدّ العراق لا تنفصل بدوافعها ونتائجها والقوى المؤثّرة والمتأثّرة بها عن قضية فلسطين، كما أنّ الأهداف الأمريكية في حرب العراق من هيمنة عالمية وسيطرة مباشرة على الثروة النفطية العربية وترسيخ الدعائم الاستعمارية للقواعد العسكرية وصناعة القرار السياسي الإقليمي والقطري، هي عينها الأهداف الأمريكية-الصهيونية المشتركة في المساعي الجارية لتوجيه ضربة قاصمة للمقاومة البطولية الفلسطينية أثناء الحرب أو بعدها، بما يمكن أن يسفر عن نكبة جديدة على طريق فرض الهيمنة الأمريكية-الصهيونية.
على أنّ الأبعد من ذلك أنّ مجرّد الحديث عن انشغال مزعوم بقضية العراق عن قضية فلسطين يثير مزيجا من الإحساس بالغضب والمرارة والازدراء، عند مقارنة مثل تلك الأقاويل بالحقيقة الفاجعة، أنّ المسؤولين لم يتحرّكوا قيد أنملة في قضية العراق بصورة فعّالة للتصدّي للعدوان الأمريكي، تحرّ:ا قائما على مواقف جادّة وإجراءات جادّة، وليس عن طريق بيانات وتصريحات تتهالك ضعفا، وتتجنّب غالبا مجرّد ذكر اسم "الولايات المتحدة الأمريكية" مقابل التبنّي الكامل لكلّ مطلب أمريكي تجاه العراق، هذا فضلا عمّا يجري تقديمه من تسهيلات للعدوان الأمريكي، هي التي تمكّن لأكثر من مائة وخمسين ألف جندي بمعدّاتهم الثقيلة الفتّاكة من المرابطة في المنطقة العربية والإسلامية، برّا وجوّا وبحرا، للانقضاض على العراق، ولا يجهل إلا من يعيش على كوكب آخر، أنّ هذا العدوان يستحيل تنفيذه لولا تحويل "بعض أرضنا" في قطر والبحرين والكويت وتركيا لتكون مراكز لحشد القوات وقواعد لانطلاقها وتوجيه أسلحتها الإجرامية إلى "بعض أرضنا الآخر" في العراق.
لئن صحّ زعم الانشغال بالعراق عن فلسطين، فإنّما هو الانشغال في المشاركة المباشرة أو غير المباشرة في العدوان الأمريكي، وليس الانشغال بالتصدّي له، أو حتى الانشغال بمجرّد فسح المجال للتعبير عن الغضبة الشعبية ضدّه، ناهيك عن إزالة الحواجز ما بين الشعوب وما بين تولّي مصائرها ومصائر قضاياها بنفسها ووفق إرادتها.
المطلوب هو "التسليم"
وقضية فلسطين تشهد يوميا مزيدا من الجرائم الإسرائيلية المفزعة المدعومة أمريكيا في الدرجة الأولى، في الوقت الذي تجد الولايات المتحدة الأمريكية فيه ما تجد من الدعم من بلدان عربية وإسلامية ضدّ العراق، فلم يبق لقضية فلسطين سوى ذلك الصمود البطولي شبه الأسطوري لشعبها في حقبة خنوع الجباه للصلف الأمريكي والصهيوني معا، وحقبة "العجز" –إن صح زعم العجز- عن التصرّف.. إلا على صعيد التمسّك بكراسي السلطة لممارسة مزيد من العجز من جهة.. ودعم العدوان الأمريكي من جهة أخرى.
إن قضية فلسطين بأحداثها الراهنة بالذات يمكن أن تعطي المسؤولين في البلدان العربية والإسلامية –لو أرادوا- حجّة مباشرة في أيديهم للوقوف موقفا آخر في قضية العراق، وليسوا بجاهلين أنّ ساسة العالم يربطون على الدوام بين قضية وأخرى على طريق تحقيق أهدافهم، المشروعة والباطلة، ولا يصنعون ما يصنعه المسؤولون في بلادنا وهم يجمّدون أنفسهم ومؤتمراتهم ويفرضون القيود على شعوبهم، لمنع أيّ تحرّك في قضية مصيرية كقضية فلسطين، بذريعة الانشغال بقضية أخرى.. وهو زعم ينفيه أيضا أنّهم ما فتئوا يوجّهون "النداءات" التي تطالب الطرف العراقي بالتسليم تجاه المطالب الأمريكية تسليما مطلقا.. مثلما يطلقون التصريحات العلنية ويوجّهون بعض تحرّكاتهم السياسية حول محور رئيسي أن يسلّم الفلسطينيون أيضا تسليما مطلقا ويوقفوا "المقاومة".. وهي الورقة الوحيدة التي يملكها أبناء شعب فلسطين مباشرة، ولا يملك المسؤولون في البلدان العربية والإسلامية التصرّف المباشر بها، وإلا لكانت قد اندثرت منذ زمن طويل على محور تنازلا ت لم تنقطع، ولم ينقطع بسببها طريق الفواجع المتتالية من قبل كامب ديفيد الأولى إلى ما بعد أوسلو.
أن تُعقد قمّة على مستوى الدول الإسلامية أصبح أمرا غير مطروح أصلا للبحث.. بينما يدور حديث فاضح عن رفض عقد قمّة عربية أيضا.. أو حتى مجرّد تقديم موعد القمّة الدورية بضعة أسابيع، هذا والجيوش المعادية باتت على الأرض العربية.. باتفاقات ومعاهدات "ثنائية"، وباتت تهدّد دولة عربية بالدمار.. بمشاركات عربية مخزية بالمقارنة مع بعض الاعتراضات الدولية غير العربية، وهذا أيضا في وقت باتت آلة الإجرام الإسرائيلية فيه لا تقف حتى عند أبواب المستشفيات أو سيارات الإسعاف..
هل يحتاج مثل هذا الموقف "السياسي" إلى تحليل ولا بحث؟..
هل ينفع في الكلام عنه إيراد حجة منطقية باردة .. أو صرخة وجدانية متفجّرة؟..
إنّنا نعايش من خلال ما يجري حلقة أخرى أخطر من سابقاتها على طريق التراجع الانهزامي الجماعي عن سائر المواقع وفي سائر القضايا معا، ونعايش صورة متجدّدة من صور الاستبداد الداخلي في صناعة القرارات الانهزامية ليس بمعزل عن إرادة الشعوب فقط، ولا بما يتناقض معها فحسب، بل هي "سياسات" استبدادية تساهم مباشرة في تدمير مستقبل شعوب المنطقة ضحية ذلك الاستبداد وما يقرّر، وتعمل في الوقت نفسه للحيلولة بمختلف الوسائل –وهنا لا نرى لمزاعم العجز والضعف أثرا- دون أن تتحرّك الشعوب نفسها، ولو لمجرّد الإعلان عن أهدافها وتطلّعاتها وعن رفضها للواقع الفاسد الرهيب وسياسات ترسيخه وتثبيته.
الشعوب وتجنّب الانفجار
لقد بات صانعو قرارات الهيمنة العدوانية يخشون من الصوت الشعبي المعارض بصورة متزايدة داخل بلدانهم ولا يواجهونه بالقمع.. ولكنّهم "يطمئنون" إلى وجود مصفحات وأجناد مجنّدة ووجود سجون واعتقالات عشوائية تمنع الشعوب ذات العلاقة بما يجري أكثر من سواها داخل بلداننا العربية والإسلامية، وهي الأقرب إلى إعلان غضبتها ورفضها للعدوان ومدبريه ومنفذيه.
حتى الحجة القائلة إنّ خروج مظاهرات جماهيرية احتجاجية "تمثل خطرا على الأنظمة" باتت حجة واهية، فقد ثبت مرّة بعد أخرى، أنّ الشعوب نفسها أصبحت أشدّ وعيا بما لا يقاس من تلك "النخب" المسيطرة على صناعة القرار السياسي، إمّا وراثة في بلدان ملكية وغير ملكية أو عن طريق ما فرضته الانقلابات العسكرية في بلدان جمهورية وغير جمهورية.
لقد أصبحت الفئات التي تحاول يوما بعد يوم اختراق الثغرات للتعبير عن غضبة الشعوب أشدّ حرصا من الأنظمة نفسها على عدم تحويل المعركة الكبرى مع عدوّ خارجي، إلى معارك داخلية.. حتّى ليعجب من يتابع تفاصيل الأحداث، كيف تستفزّ الإجراءات الرسمية المضادّة للتحرّك الشعبي أولئك المشاركين فيه والقائمين عليه، وهم منضبطون بما لا يقارن مع عدم انضباط السلطات وعدم امتناعها عن "الاستفزاز" على الأقلّ!..
وإنّ المسؤولين ليعلمون أنّ القوّة الأمريكية الغاشمة لا تخشى شيئا في المنطقة سوى يقظة الشعوب وتحرّكها ضدّها، بسب إدراكها أنّ هذا أيضا ممّا يضاعف حجم الاعتراض الشعبي المتزايد داخل الولايات المتحدة الأمريكية على السياسات العدوانية الراهنة، بل وتحرّك من يخافون على مصالحهم واستثماراتهم وتصريف بضائعهم في بلادنا، وهم من يؤثرون على صناعة القرار الأمريكي تأثيرا مباشرا.. وبسبب إدراك تلك القوى أيضا ما تعنيه تجارب سابقة كانت القوّة الشعبية فيها وحدها من وراء التراجع العسكري الأمريكي، في مثل لبنان والصومال.. فهل أصبحت ممارسات المسؤولين في قمع التحرّكات الشعبية -مهما كانت سلمية.. ومنضبطة.. ومنظمة- جزءا من الجهود المبذولة ليتمّ تنفيذ المخططات الأمريكية والصهيونية دون "إزعاج"؟..
ألا يخشى من يرتكبون تلك الممارسات من أن تصل تراكمات القطيعة بينهم وبين الشعوب إلى ما يسمّى مرحلة "اللاعودة".. أو أن يتحوّل الغليان إلى انفجار، بدرجة قد تفقد معها النخبة الواعية الموثوقة عند الشعوب القدرة على التصرّف، فيتحوّل الانفجار إلى كارثة داخل بلادنا العربية والإسلامية؟..
إنّ قضية العراق لا تحتمل الانتظار والتسويف والمماطلة والمراوغات السياسية المخادعة..
وإنّ قضية فلسطين أيضا لا تحتمل الانتظار والتسويف والمماطلة والمراوغات السياسية المخادعة..
هذا وذاك على السواء يصبّ في خانة واحدة، هي تمكين العدوّ الأمريكي والصهيوني من صنع ما يريد في العراق وفي فلسطين وفي المنطقة بكاملها..
ومهما كانت أعذار المسؤولين.. فهم "مسؤولون" عن ذلك، اليوم أمام شعوبهم، وغدا في صفحة سوداء من سجل التاريخ، ثم بين يدي الله القاهر فوق عباده في يوم لا تنفع فيه عروش ولا أجناد ولا تنفع فيه تبعيات أجنبية ولا أجهزة مخابرات..
وإنّ مجرى الأحداث في القضيتين معا، وبمختلف مقاييس النظرة الوجدانية التي يراد اغتيالها، والنظرة المنهجية التي باتت تتحكّم في صناعة القرار السياسي وغير السياسي في كل مكان إلا في بلادنا.. وكذلك بمختلف مقاييس المصلحة القطرية.. والقومية.. والإسلامية.. إنّ مجرى أحداث القضيتين معا يضع المسؤولين أمام مفترق طريقين لا ثالث لهما، إمّا التحرّك في ركب الهيمنة الأمريكية والصهيونية إلى الدمار الشامل للجميع، وذاك شكل من أشكال السياسات الانتحارية لم يُعرف مثيله من قبل، أو التحرّك في ركب الشعوب لمواجهة أخطار الهيمنة بمختلف أشكالها، مثلما تعمل على مواجهتها في الوقت الحاضر بالذات سائر القوى الدولية، الصغيرة والكبيرة.. إلا بلادنا العربية والإسلامية.
وليس صحيحا أنّ المواجهة القائمة على تلاقي الحكومات والشعوب ضدّ قوى خارجية غاشمة مواجهة "صعبة" لا نملك لها الإمكانات الكافية، إنّما تكمن الصعوبة الحقيقية في اتخاذ القرار بصددها.. فذاك ما يحتاج إلى إرادة سياسية واعية متحرّرة، وإلى إخلاص صادق تجاه هذه الأمة وقضاياها وتجاه حاضرها ومستقبلها