أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: درع الإله

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Mar 2022
    المشاركات : 59
    المواضيع : 27
    الردود : 59
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي درع الإله

    درع الإله
    وفي مكانٍ خالٍ وقفت السيارة وكان في انتظارهما بروفيسور تكنولوجيا الفلك والفضاء -وهو منهم - نزلا وقابلاه ثمّ ارتجلوا ثلاثتهم.
    قال فطين لمؤيد: «أأمرني صديقي، قلتَ تريد خدمة.»
    قال مؤيد موجّهًا كلامه لفطين وهو يتأوه:«المقاومة داخل فلسطين وخارجها معرضة للخطر .»
    ردّ فطين متحسرًا: «يا خبر أسود، كيف؟»
    أجاب مؤيد: «تكنولوجيا الأقمار الصناعيّة لعنة الله عليها، جاءنا مِن أحد عيوننا وهو منّدس بينهم أنّ هناك أنباءً بامتلاك إسرائيل لقمرٍ صناعيّ -تصميم أمريكيّ- باستطاعته رؤية ما تحت القشرة الأرضيّة.»
    - «كيف ذاك؟ كلُّ ما أعلمه أنّ عمليات الرصد والبحث ما هي إلّا مجموعة مِن أجهزة استشعار ومجموعة من أجهزة الزلازل وأدوات تنصّت كالميكروفون وأشياء من هذا القبيل .. الخ. كما أنّ الأقمار مِن خلال أجهزة الاستشعار الراديويّة تستطيع أن ترصد وسط الضباب، أمّا أنّها تخترق القشرة الأرضيّة فهذا مستحيل.»
    نظر البروفيسور إلى فطين مندهشًا من عبقرية فطين وآثر الصمت.
    قال مؤيد : «كلُّ أساليب رصدهم تحاشيناها في أنفاقنا الرئيسة التي تعتمد عليها المقاومة بشكل رئيس لأنّها أنفاق محصنة، أمّا غير المحصنة فسقط بعضها وهي أنفاق مهملة لأنّها مجرد مخازن نلقي فيها بعض متاعنا.»
    قال فطين: «إذاً، جهّزوا باقي الأنفاق بالتكنولوجيا الحديثة وتنتهي المشكلة.»
    - «ليست المشكلة في الأنفاق غير المجهّزة؛ إنّما المشكلة أنّ الأنفاق كلّها بلا استثناء قد تُدمّر؛ للأسف يا فطين حتى الأنفاق خارج فلسطين معرّضة للتدمّير الكامل أيضًا.»
    - «كيف؟ الأنفاق داخل فلسطين كلام معقول؛ وإن كنتُ أأمل ألا يحدث ذلك، أمّا خارج فلسطين فكيف ؟ كيف؟»
    - «معظمها في شمال شرق سيناء وجنوبها، ويعقوب إسحاق لا يدخر جهده لتدميرنا، وأنتَ تعلم أنّه استطاع أن يُمضي الاتفاقيّة الرباعيّة الآثمة؛ فتعرّضتْ أنفاقنا للخطر في شمال شرق سيناء. كما استطاع أن يأخذَ فندق هيلتون طابا فتعرضنا للخطر أيضًا في جنوبها، والآن يريد أن يعرّي كلّ الأنفاق بالقمر الصناعيّ الجديد، فيباد اتّحاد المقاومة عن آخره.»
    - «لعلها حرب إعلاميّة يا دكتور.»
    حدق البروفيسور فطين مرة أخرى، ثم طأطأ رأسه على كلمته الأخيرة وظلّ صامتًا أيضًا.
    قال مؤيد: «لا لا، لو أعلنوه لقلتُ إنّها حربٌ نفسيّة، لكنهم يخفونه فيما بينهم حتى ينقضّوا علينا به.»
    - «وهل تعلم كيف تخترقُ هذه الأقمار اللعينة؟»
    أدار مؤيد كفَّ يده مشيرًا إلى البروفيسور قائلاً: «يجبْك عن هذا برفيسورنا الفضائيّ.»
    أجاب البروفيسور: «رغم الرسالة التي وصلتنا فنحن كخبراء في تكنولوجيا الفضاء لم نستطعْ أن نصلَ إلى طريقة ما ولو نظريّة تمكّنهم من معرفة مكان نفق واحد تحت الأرض بوساطة قمرهم الصناعيّ الذي أخبرنا به أحد رجالنا.»
    علق فطين على كلام البرفيسور: «لعلَّ أجسامنا التي تصدر الأشعة تحت الحمراء أو عمليتي الزفير والشهيق في جهازنا التنفسيّ تتسرب فوقنا مباشرة فترصدها مجسات قمرهم هذا.»
    دهش البروفيسور مرّة أخرى من علم فطين بفيزياء الفضاء، قال له: «هذا مستبعدٌ يا حاج فطين لعدم تمكّن هذه المجسات من رصْد الأشعّة.»
    قال فطين ضاحكًا: «إذن، ممكن لو لديهم كِلابًا مدرّبة تكتشفُ أماكن الألغام أو البارود، أقصد كلاب جان تستطيع أن تشمَّ على بعد عدة أمتار تحت الأرض، ممكن، ممكن.» ضحك فطين طويلاً ثم تابع كلامه ضاحكًا: «ممكن لو علقنا الكلب فوق القمر الصناعيّ وألبسناه بذلة فضائيّة ليعمل كمجس أو تلسكوب فيدور مع القمر ويمسح المناطق المحتمل وجود أنفاق فيها، عندئذ، عندئذٍ يكون كلب من كلاب الجان.» سكت فطين عن الضحك والكلام هنيهة ثم قذفه قائلاً: «بروفيسور، أظنّها حربًا إعلامية، فهم يريدون أن يرعبونا بطريق غير مباشر.»
    وضح البروفيسور: «هي كذلك، لكن مؤيد يراها غير ذلك -يقولها وهو يشير إلى مؤيد- وإنّي مختلف معه، ولكن عندما يتعلق الأمر بكيان دولة علينا أن نضع كلَّ الاحتمالات في الحسبان.»
    قال فطين:«ما الحل؟»
    قال البروفيسور: «الروس.»
    قال مؤيد: «الرصاص.»
    قال فطين مستفهمًا: «الروس؟ الرصاص؟»
    قال البروفيسور: «للأسف لدينا خياران.الأول، الأخذ برأي الروس وشِراء جهازهم الذي لديهم لتجنّب الخطر، والآخر، إحاطة الأنفاق بطبقات مضاعفة من الرصاص.»
    قال فطين: «وماذا قرّرتم؟»
    أجاب البروفيسور: «إحاطة الأنفاق بطبقات سميكة مِن الرصاص لن يفي بالغرض حال الهجوم، وليس لدينا إلّا اللجوء إلى الروس فيما أشاروا إلينا به، لكنّه خيار مكلّف جدًا جدًا.»
    قال فطين: «وهل يعرف الروس طبيعة هذا القمر ليبعونكم هذا الخيار المكلّف؟»
    ردّ البروفيسور: «لا، لكنّهم يقولون كلّ شيء جائز، و يقولون مهما كان مِن أمره فإنّ جهازهم قادر على خلْق ستارة ثلاثية قادرة على إذابة كل ما يرتطم بها، وزادوا، العيب الوحيد في الستارة أنّها لا تقوم بعمل تشويش ضد أيّ أجهزة كشف.»
    ردَّ فطين: «آه، يقصدون عند كشْفهم وضرْبهم بأيّ سلاح لا يفلحون، لعلّ الروس اخترعوا حقل القوى المتَكَلم عنه في روايات الخيال العلميّ.»
    تعجّبَ البروفيسورُ ونظرَ إلى مؤيد وكأنه يقول له: «انظر إلى عبقرية رجلكَ.» ثم قال موجهًا كلامه لفطين: «هو كذلك بالفعل، يقولون إنّ جهازهم قادر على إذابة الصواريخ وحزم الليزر.»
    ردَّ فطين: «وضّح كلامك أستاذنا الكبير، أنت تقصد الجهاز الذي يصنع حقل القوى.»
    نظر البروفيسورُ في الأرض خجلاً لعدم دقة كلامه وقال: «أنا كنت ضمن المبعوثين إليهم من قبل اتحاد المقاومة لسماع فكرتهم ومدى جدواها والمطلوب في سعره، وأراها لا بأس بها.»
    قال فطينُ وهو ينظر إلى مؤيد: «وما دوري أنا، إبداء رأى أمْ م م..؟»
    أجاب مؤيد: «لقد قرّرَ الاتحاد الاستعانة بالجهاز لصنْع حقل القوة ونحتاج إلى المال، وأنت مِن أحد الذين قصدناهم.»
    قال فطين وهو يحدق في مؤيد: «أنا؟! من أين آتي المال؟» ثمّ نظر إلى البروفيسور قائلاً: «ألَا تستطيعون صُنْع هذا الجهاز ؟»
    أجاب البروفيسور: «حاولنا فلمْ نستطعْ، أحضرنا كلَّ خامات حقل القوّة ومزجناهم معًا أكثر مِن مئة مرّة ثمّ ضربناها بطلقة رصاص فاخترقتها، واضح يا فطين أنّ الجهاز يعمل على مزجهم بطريقة وبنسب معينة حتى يعمل حقل القوّة على أكمل وجه.»
    علق فطين: «إذن لا مفرَّ، تريدون المال للشراء.» ثمّ وجّه كلامه إلى مؤيد مباشرة: «أنا لا أملك مالاً؛ إن أردتم أخذ الشقة التي تأويني وولدي فلا مانع لديّ.»
    ردَّ مؤيد بجموح وهو يحدّق بعينيه في وجه فطين: «السحر، السحر، ألعابك السحريّة، أخبرتْنا عيوننا أنَّ عدد مشاهدينك يتزايد بصورة مخيفة، وأنّ الحيَّ والأحياء المجاورة مفتونون بك، ولو طلبتَ أيَّ سعْر للتذكرة فمنَ الممكن على مدار شهر تحصل على المال الكثير.»
    قال فطين: «مستحيل، هم حُفاة عُراة يسكنون جحور النمل، مستحيل.» صمت يأسًا وتدبّر الأمر بعمق ثمّ قال: «لو افترضتُ أنّى فعلتُ ما قلتَ فماذا، فماذا ينفع الحجر الواحد إذا أردنا أن نبني به برجًا كبيرًا.»
    قال مؤيد: «عندما يحمل كلٌ منا حجر نستطيع أنْ نبنيه يا فطين.»
    صمت فطين هنيهة، وتذكّر وعده لابنه المسكين بشأن سفره، ثمّ همس في نفسه: «والآن العروبة تناديني، فأيّهما أولى؟»
    وقت أن همس فطين هذه الكلمة كان فهمان نائمًا في المنزل، فوقع عليه من سقف الحجرة حبال ثلاثة كان يستخدمها أبوه في بعض أعماله، الأول وقع على عنقه، والثاني على يديه، والثالث على قدميه، ثمّ أزاحتهم عواصف شديدة آتية من شرفة الحجرة؛ فالتفّتْ لتوثقه ولكنّها لم تنل منه.
    وجّه فطين كلامه إلى مؤيد بعدما استوقفه وهو سائر وأمسك بمنكبيْه: «وأنا قررّتُ أنْ أحملَ ألف ألف حجْر إليكم.»
    فأمسكَ مؤيد منكبيّ فطين قائلا: «مصر فيها رجال، طول عمرها فيها رجّالة.»
    نظر فطين إلى البروفيسور وقال: «أخبرني ما طلبات الروس ليبعونا جهاز حقل القوة هذا ؟»
    قال البروفيسور: «يجب عليك معرفة ماهيته أولاً قبل سعره يا حاج فطين.»
    قال فطين موجهًا كلامه للبرفيسور: «حقل القوّة حاجز نحيف غير مرئي لا يخترق، يحرف أشعة الليزر ويذيب الصواريخ، وأيضًا يصدَّ الأعاصير والعواصف ويجرف الطوفان.»
    حملق البروفيسور في فطين وتعجب أكثر من شأنه، قال: «إنّ الروس يسمونه "الدرع الإله"و ..»
    قاطعه فطينُ بحدّة مشوبة بالامتعاض: «استغفر الله، استغفر الله ليس كمثله شيء.»
    بروفيسور متابعًا كلامه: «درع الإله ما هو إلّا ثلاث طبقات، الأولى نافذة بلازما مسخنة إلى درجة حرارة عالية جدًا تصهر المعادن، والطبقة الثانية ستارة من أشعة ليزريّة ذات طاقة ضخمة تسخّن أيّ شيء يمرُّ من خلالها وتبخّره سواء كانت صواريخ أو مدافع، والطبقة الثالثة عبارة عن شاشة مصنوعة من أنابيب كربونيّة نانونيّة أقوى مِن الفولاذ بعدّة مرات، وبهذه الطبقات الثلاث استطاع الروس صنْع "الدرع الإله الذي لا يخترق".»
    قال فطين: «سوف يصلكم المال.»
    نظر إلى مؤيد: «كلُّ يومٍ مُرْ علي، خذ ما اتحصّلُ عليه مِن مال.»
    قال مؤيد: «فطين أنت معك جهاز لمْ نخبرك به.»
    قال فطين: «ليس معي شيئًا.»
    قال مؤيد له: «ألمْ تشعر مطلقًا أنّ عقلك تطوّر في الإدراك والفهم والذاكرة و ..الخ.»
    ردّ فطين: «أشعر طبعًا وقلت في نفسي إنّ الفلسطينيّ كان عبقريّة مِن عبقريات الزمن.»
    ردّ مؤيد:«لا لا، معك خليّة إلكترونيّة قام بروفيسور بيتر بتركيبها في رأسك لتعمل بجانب الخلية الطبيعيّة لأّنا كنّا نودُّ الوقوف بجانبك لتستطيع الإنفاق على ولدك، وأنا كنتُ أتعشّم يومًا أن تنضمَّ إلينا فتكون عندئذٍ فرْد مقاومة خارق. المهم، جاء دورها الآن، ركّزْ تركيزًا شديدًا سوف تُفعّل مباشرة، ركّزْ على ألعابك السحريّة وسوف تأتي بالخوارق بالفعل، ارفعْ التذكرة وقمْ بعمل الدعاية سوف تحصد مالاً كثيرًا، استغلها وسوف يأتونك أصحاب الملايين.»
    تذكّرْ عندها فطين يوم أنّ تعرّضَ أهل الحيِّ لولده، فقد نظر إلى عصيّهم فتساقطتْ.
    عاجله مؤيد بكلمة يمتصُّ بها وقْْع المفاجأة عليه ويستحثّ وطنيته ونبله: «فطين، رُضّع فلسطين ونسائها وشيوخها يلوذون بك فغثهم.»
    رغم دهشة فطين بشأن الرقاقة إلَا أنّه بدأ كلامه قائلاً: «روحي فداء لهم.»
    ثمّ تابع كلامه بحدة وسرعة كالقذائف: «لكنّكم لمْ تشاوروني في أمر الخليّة، كما أنّكم أضمرْتم الأمر ولمْ تصارحوني بِه وهذا أغضبني.»
    نظر إليه البروفيسور ليهدّئ من روْعِه وقال له: «ِلمَ الغضب؟ الخليّة ليس لها أيّ تأثيرات سلبيّة على عقلك، بل العكس هي تزيدك ذكاءً وفكرًا.» صمت فطين بعد تنهيدة طويلة وسكت ولم ينبس بكلمة وإنما علت وجهه ابتسامة عريضة.
    وعندما شعر مؤيد برضا فطين نظر إليه مبتسمًا: «لنرحل إذن.»
    الجزء التاسع
    حكمة: العلم مع ضمير حيّ معيار حضارة عريقة
    الحركة بتأثير الدماغ
    عاد فطين إلى البيت مثقلاً بالأعباء والهموم، لا يدري كيف يواجه ولده بمسألة تأخير سفره إلى أجلٍ غير مسمى.
    دخل حجرته فوجد الحبال الثلاثة؛ فأزاحهم ثمّ قطّعهم وقال: «لا انهزام، لا انكسار، لا قضبان.» ثمّ أقبل على ابنه وفرد جسده ليتحرّر. جلس بجانبه بينما فهمان ما زال نائمًا. تذكّر كلمات مؤيد الأخيرة: «ركّزْ تركيزًا شديدًا سوف تُفعّل مباشرة، ركّزْ على ألعابك السحريّة وسوف تأتي بالخوارق بالفعل، ارفعْ التذكرة وقمْ بعمل الدعاية سوف تحصد مالاً كثيرًا.» ظل يكررها في نفسه حتى رنّ الهاتف، إنّه مؤيد.
    حذّره عبْر الهاتف قائلاً: «البروفيسور يسلّمُ عليك ويقولُ لك: ركّزْ وتخيّلْ أنك تنقل الأشياء وهي سوف تنتقل مباشرة، وما دام التركيز مستمر ستظلُّ في حراك متواصل، وعند زوال التركيز يزول تأثير الحركة فيها، وإيّاك أن ترهقها؛ فالبروفيسور قال لو أكثرتَ مِن التركيز فستتلف عقلك وستتلف أيضًا الخليّة.»
    قال فطين: «يجب علي الحذر إذن، عُلم.»
    ظلَّ فطين يفكر في الأمر كثيرًا، واهتدى لفكرة مبتكرة تعتمد على الحاسوب العصبي برأسه، وقرر تنفيذها من الغد.
    نزل بعض المحلات التي تبيع الأدوات السحريّة واشترى مستلزمات اللعبة السحريّة الجديدة، وعزم على عمل ألعاب تتحرك بفعل خليته الصناعيّة، وهمس لنفسه بها قائلاً: «وليكن اسمها، الحركة المعلقة.»
    عاد إلى المنزل وأغلق عليه باب حجرته ليعد ترتيبات التجربة، وكلما قام بتجربتها تفشل في كل مرة، شغّلَ الكمبيوتر وفتح بعض الكتب علها تعاونه في أداء تجربته بنجاح، وبعد بحثٍ مضنٍ وعمْل التجربة مرات عديدة نجحتْ بامتياز. عندئذ، انتفضَّ مِن مكانه فرِحًا مُهللاً.
    اليوم التالي أرسل منسقو ألعابه إلى أهل الحيَّ وأخبروهم باللعبة الجديدة، ونادوا في الأحياء المجاورة بأنّ الساحر فطين سوف يعلّق الأشياء ويجعلها تثبتُ ضد الجاذبية الأرضيّة، وأنّ سعر التذكرة ستتضاعف في هذه التجربة إلى مائة ضعْف.
    فور أن سمع فهمان تلك الأخبار صُعق، وشعر بالذنب، ولكنّه آثر الصمت حتى حين. والملاحظ أنّ هذه الزيادة دفعت الناسَ إلى الفضول؛ ممّا زاد عددهم وتتابعوا حتى افترشوا الشوارع، انفضَّ عنه كلّ الفقراء وخاصة ممن يأكلون من صناديق القمامة.
    تتابع كلّ الناس غير الفقراء لمشاهدة العرض، وممن حضر، الأغنياء، وتيارات إسلاميّة متطرفة، وأعضاء في حركة مذهب التنوير، وشخصيات سياسية، وأفراد من الأمن القومي المصريّ، وبعض وسائل الإعلام.
    وأخيرًا قربت ساعة الصفر؛ فانطلقَ فطين مِن منزله يصاحبه ولده حاملاً حقيبة العمل.
    فلما وصلَ السيرك هاله المشهد، تفحّصَ المشاهدين وأيقن أن الجُحر الذي يعيش فيه هو وابنه سوف يكون أمام مرمى سمْع وبصر البلد كلّها؛ فارتاع لهذا كثيرًا وانقبض قلبه.
    وبدأ العمل، ناوله فهمان بعض أدوات التجربة فأمسكها وطرحها على الطاولة مستاءً وقال له: «انتظر يا ولدي.» ثمّ نادى على أحد المنسّقين: «أين أهل الحيّ ؟ أين أصحاب جحور النمل؟»
    سمعها فهمان فانفرجت أساريره وزفر زفرة طويلة كأنّ ثقلاً رُفع من على قلبه الآن.
    فأجاب المنسق: «يفترشون الشوارع المجاورة، ويلتحفون بأغطية الحزن والعزل والحرمان.»
    ترك فطين المكان غير مكترث للحاضرين وذهب إليهم، وفور وصوله سمع قولاً لأحد الأطفال لأبيه: «أبي، هو عمو فطين طردنا ؟»
    فهرع إليه فطين وحدق فيه دامعًا، فبادله الطفل بدموعه التي تنزل على شفتيه المشققتين، ثم تأخذ في الانهمار حتى لامست ثوبه المرقع.
    نادى فطين عليهم جميعًا: «إخوتي وأبنائي، لن يرقد فطين مرقده اليوم حتى تروا جميعًا عرض الليلة، والتذكرة سنضاعفها مرّة واحدة.» فهلّلوا جميعًا له.
    قفل راجعًا، وقف أمام الطاولة وقال: «نبدأ باسم الله، وتوكلتُ على الله.»
    ألقى على الطاولة بعضًا مِن قطع المعادن ذات حجم كفِّ اليدِّ (هي في الأصل مغانط) ثمّ ألقى على بُعد 60 سم تقريبًا سائلاً متجمّدًا (في الأصل زئبق متجمد بالهيليوم).
    قام بالتركيز على السائل، حرّك يده اليمنى جهته كأنّما يستنهضه، بدأ وجهه يرتعشُ بشدة، حتى جلد وجهه يرتعش خفضًا ورفعًا وما زكى الرعشةَ إلّا قوّة التركيز الخارق.
    عندها بدأ السائل المتجمد يتحرك كأنّما يدفعه تيارُ هواء شديد جدًا، وكلُّ المشاهدين ينظرون في حالة ترقّب فاغري الأفواه، ترقْب يكاد تنخلع له القلوب.
    ارتفع السائل إلى أعلى حتى اعتلى المعدنَ بالقفز، وهكذا غدا السائل معلقًا في الهواء دون تدخل أيّ قوّة خارجيّة.
    بلغت الدهشة من المشاهدين مبلغًا عظيمًا، فصمتوا هنيهة ثمّ هبّوا بأهازيج كادتْ تخلع جدران المكان.
    أسكتهم فطين ليكمل تجاربه.
    ناوله فهمان سوائل متجمدة أخرى على أشكال مختلفة، منها سائل شُكّل على هيئة رجل عربيّ يمتطي فرسًا ويحمل سيفًا فقال فطين:«هذه ملحمة الناصر صلاح الدين.» ناوله عربيّ آخر يحمل جناحي صقر جريح ويمتطي حصانًا أعرجًا فقال فطين: «وهذه سمفونيّة:سوف تنهض يا وطني.»
    وانقبضت أسارير فهمان من جديد عندما حلّل التجربة بداخله فوجد فيها تدليسًا وغشًّاً.
    انتهى العرضُ والناس في حالة تصفيق حادٍّ وأهازيج كالرعد. بعدها توافد على المكان المنتظرون في الشوارع المجاورة، أخذ1 كل منهم مجلسًا، وفعل فطين نفس التجارب هي هي.
    بعد ذلك مضيا إلى البيت وفطين يقول لابنه: «سأضع هذه الحقيبة في المصرف -يقصد مال التجارب-»
    قال فهمان بصوت حزين: «أبتِ لا أريد السفر، أنا أحبُّ بلدي يكفيني بلدي.»
    نظر إليه فطين بغرابة شديدة لم ينبس بكلمة؛ بل مضى مسرعًا إلى الخارج بلهفةٍ، وبمجرد أن اختلى بمكان هاتفَ مؤيدًا ليدعوه لأخذ المال.
    عاد فطين إلى البيت فوجد ابنه يبكي بحدّة، فسأله دهشًا: «ما بكَ يا ولدي؟ ما الذي أصابك؟»
    - «لا أريد السفر كما قلتُ لك.»
    - «لم يا ولدي؟ ما الذي غيرك؟»
    - «أنت.»
    - «أنا؟ ألمْ ننه مسألة سفرك؟»
    - «بمال حلال ، بمال حلال يا أبتِ.»
    - «ومَنْ قال لك يا ولدي أنّي سأسفّرك بمال حرام؟!»
    - «المال الذي يأتي بالكذب على الناس واستلاب أموالهم وهم في حاجة إليّه هو مال حرام، لمّا فطين المصريّ مَثل الشرف والوطنيّة الآن كاذبٌ وغاشٌ يكون المال حرام.»
    لطمه لطمة شديدة سقط على إثرها على الأرض، ثم قال له على الفور: «اسكتْ اسكتْ، أنت غبي لا تعلم شيئًا.» ثمّ رفع من حدة صوته وقال: «لمّا الناس تدفع ضرائب لأجل المحافظة على هويّتهم وأعراضهم يكون هذا عارًا؟!»
    وأخذ فطين يكررها أكثر من مرة. ثمّ خفّض مِن حِدّة صوته -قد كان واقفًا فقعد- وقال بتأوه: «ربيتك على الأمانة والشرف والآن تقول أنّي كاذب وغاش !كيف؟ كيف يا ولدي كيف؟»
    هبَّ فهمان واقفًا ودموعه قد خالطها الدم المنهمر من وجهه قائلاً بثقة ويقين: «ضاعفت تذكرتهم، وكذبت عليهم.» سكت هنيهة ثمّ فصّل: «ضاعفتْ تذكرتهم وهم لا يجدون قوت يومهم، وكذبتَ عليهم أيضًا، قلتَ لهم أنّك حرّكتَ الأشياءَ وعلقتها في الهواء، في حين أنّكَ استخدمتَ الخواص الفيزيائيّة للأشياء لحملها ولكن لا ، لا، لا أدري كيف قرّبتَ السائل المجمّد، أنت تضلل الناس يا أبتِ.»
    ردَّ فطين دهشًا: «اشرحْ لي يا ولدي استنتاجك، اشرحْ.» وفطين يمسح في دموع ابنه المختلطة بدماء أنفه وشفتيه ويأخذ بيده ليقعده وهو يردد أثناء كل أفعاله هذه: «بيّن لي، بيّن لي، اشرحْ.»
    بدأ فهمان يشرح لأبيه استنتاجه متهدّج الصوت مهزوم النفس متحسّر القلب: «السائل المتجمد زئبق في غاز الهيليوم، الزئبق مادة فائقة الموصليّة لا يعمل عند درجة حرارة الغرفة؛ لذلك أحطته بغاز الهيليوم البارد جدًا لتنهار مقاومته تمامًا.»
    ارتعشت يدا فطين؛ فقد ظنّ أن ابنه تجسس عليه بالأمس أثناء القيام باختبارات التجربة فسأله: «كيف عرفتَ أنّ هذا زئبق وهذا هيليوم؟»
    - «من نتائج اللعبة، فالمعدن يا أبتِ لم يكنْ معدنًا عاديًا بل مغناطيسًا كهربائيّاً. الحقل المغناطيسيُّ المتولّد مِن المغناطيس حرّض التيارات الكهربائيّة على سطح الزئبق ممّا نتج عنه حقول مغناطيسيّة معاكسة تنتج من التيارات المحرّضة. تلك الحقول الجديدة فيه تسبّبتْ في تحريكه ليصبح معلقًا في الهواء.والحقول المغناطيسيّة غير مرئيّة. أمّا تقريب الزئبق حتى يعتلي فلا أجد لها تفسيرًا، كيف قرّبته لتحدث عملية الرفع، لا يمكن فِعل هذا إلّا مِن خلال خليّة عصبيّة مرتبطة بالدماغ وأنت لا تمتلك هذه يا أبتِ، مَن حرّكه ليعتلي يا أبتِ؟ مَن حرّكه ؟ أتخاوي الجِنّ يا أبتِ؟»
    بمجرد انتهاء كلامه اِحتضنه أبوه بقوّة وحرارة والدموع تنهمر من عينيه، ثمّ ربت على ظهره حامدًا شاكرًا الله على عطائه المتمثل في ابنٍ جمع بين العلم والضمير الحيِّ.
    ثمّ أبعده مِن حضنه ليرى وجهه ويمسح دمعه وهو ما زال ينتفض من البكاء وقال: «ستصبح يا ولدي حجّة على أهل العلم جميعًا، قمْ يا ولدي، اغسلْ وجهك وثقْ في أبيك، واعلم أنّي أخذت مالاً لأُحيي أمّة، أحيي العروبة.»
    - «إذن فهمني.»
    - «الأمر ليس بيدي ولا أملك قرار البوح بهذا السرِّ العظيم، لكنْ قرَّ عينًا يا ولدي وثقْ في أبيك، ولا تنسَ أنّي قلتُ للناس أنّي اعتمد على خواص المواد لتقديم هذه الألعاب، أي أنّي لم أغش يا بني.»
    لم يرتح فهمان على الرغم من قناعته بمبرر أبيه المجهول.
    ابتسم فطين، ثمّ خلع لاسته ووضعها على رأس ابنه ثمّ قال: «هذا تاج العلم.»
    فضحكا معًا.
    وكلُّ عدّة أيامٍ تأتي سيّارةُ الطبيبِ مؤيد تأخذُ ملايين الأموال. وتتابعتْ الأيامُ تنوّعتْ فيها ألعاب فطينِ السحريّةِ، وبدأ الناسُ يأتون مِن المحافظات؛ فقام المنسّقون بتهيئة الشارع الرئيس لعروضه، وذاع صيتُه حتى وصل إلى أمنِ الدولةِ المصريّةِ وسوف يترتبُ على ذلك كارثة ستحلّ به قريبّا.
    بعد قرابةِ شهرٍ..موسكو.
    وفْدٌ سرِّي مِن اتحاد المقاومة سافر إلى موسكو بعد إعداد مال الصفقة، حضرَ ليعاين حقول القوّة ويبرمُ الاتفاق.
    وزارةُ الدفاعِ الروسيِّ أتوا بالخلطة ثمّ وضعوها في جهازهم فاستخرجت حقل القوة المكوّن من النوافذ البلازميّة والستائر الليزريّة والشاشات النانونيّة ثمّ نصبوه. ومن مركزِ إطلاقِ الصواريخِ أطلقوا صاروخًا عليه فاصطدم بالحقل وأحدث رجّة عنيفة جدًا أشبه بالزلزال ثُمّ وقع منصهرًا. ثمّ أطلقوا صاروخين معًا فاصطدما به ووقعا منصهرين على الأرض. ثمّ لجئوا هذه المرة لتسليط حزمَ الليزرِ عليه فلمْ تُحدث فيه أي ثقب، كما لمْ تُسبّبْ له أيّ انصهار، وقد كان أمر حزم الليزر خدعة لم ينتبه إليها فيزيائيو الاتحاد.
    انطلقوا جميعًا إلى المختبر لإتمام الصفقة حيث أخذ الروسُ المالَ وأعطوهم الجهاز.
    تمَّ شحنَ الجهاز إلى مصرِ مِن ضمن أجهزة استيراد مِن الخارج ولمْ يعلم الجمرك بالطبع ما بها.
    اتّصلَ فطينُ كعادته بعد أوّل كلِّ عرض ليبلّغَ مؤيّدًا بتوريد حقيبة جديدة مِن المال فأجابه أنَّ اتحاد المقاومة أنجزَ المهمةَ وجارٍ العمل لتصفّحِ الأنفاقِِ الرئيسةِ بحقولِ القوى.
    حمدَ اللهَ بعدما اطمانَّ عليهم، ثمّ شردَ كثيرًا وقرّرَ أنْ يُسفّرَ ولدَه فهمانَ بهذه الحقيبة، ويخفّضُ التذكرةَ مِن جديدٍ إلى عهدها الأوّلِ.وبالفعل، تمَّ الشروعُ في التنفيذ وإعداد أوراقِ سفر فهمان.
    في داخل الاتحاد، وُضِعَ الجهازُ أمام مجموعة مِن بروفيسوراتهم، قاموا بفحصه وتحليله بطريقتِهم، وبعد مرورِ ستّةِ أشْهرٍ مِن الفحص والتحليل استطاعوا أنْ يصلوا لسرّ صنعِه بعدها مباشرة، صنعوه عمليًا بنجاح منقطع النظير (كان فهمان في نهاية هذه الفترة في بيركلي، فيما بعد).

  2. #2

  3. #3