أحدث المشاركات

مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» @ تَعَاويــذ فراشَــةٍ عَاشِقـَـة @» بقلم دوريس سمعان » آخر مشاركة: دوريس سمعان »»»»»

النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: الفطرة والميثاق- محاولة لتفكيك هذا اللغز (1/2)

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.19

    افتراضي الفطرة والميثاق- محاولة لتفكيك هذا اللغز (1/2)

    الفطرة والميثاق- محاولة لتفكيك هذا اللغز (1/2)

    الباحث والمفكر: أبو الطيّب ياسر بنُ أحمد القريـــــــني البلوي القُضاعي

    منذ أن قرأت قصة الصحفي والمفكر السويسري (روجيه دوباكييه)، والذي كان صحفياً في نهاية الحرب العالمية الأُولى، بدأ موضوع الفطرة يشغل ذهني بقوة، ثم استدعى موضوع الفطرة موضوع الميثاق، هذا الذي أخذ من ظهور بني آدم وهم في عالم الذر؛ وذلك للتلازم المصيري بينهما كما سنرى في هذا البحث.
    فقد سافر روجيه دوباكييه إلى السويد وعمل بها مراسلاً صحفياً؛ لكنه اكتشف أنّ الناس في السويد تُعساء برغم التقدم والرّخاء الذي يعيشون فيه؛ في حين اكتشف عكس ذلك عندما سافر إلى بعض الدول الإسلامية في الشرق، فقد وجد المسلمين - برغم فقرهم الشديد - يشعرون بسعادة أكثر، وأنّ حياتهم لها معنى..! هذه الملاحظة جعلته يفكر مليّـاً في معنى الحياة ويتأملها من خلال هذين النموذجين، فيقول: كنت أسأل نفسي: لماذا يشعر المسلمون بسعادة تغمر حياتهم برغم فقرهم وتخلّفهم..!؟ ولماذا يشعر السويديون بالتعاسة والضيق برغم سعة العيش والرفاهية والتقدم الذي يعيشون فيه..! وقد أعلن روجيه دوباكييه إسلامه بعدما وجد جواب هذا السؤال بحسب ظنّه ممثّلاً بالإسلام.
    لكن روجيه دوباكييه على الحقيقة وجد ما ينقصه هوَ ومعه أهل السويد، ولم يجد حَلّ السؤال الكلي لهذه الظاهرة. فقد انقلب الزمان يا روجيه دوباكييه فصار سؤالك سؤالي؛ لماذا فقدنا نحن المسلمون الشعور بالسعادة تغمر حياتنا على الرغم أننا ما زلنا مؤمنين، وما زلنا كذلك على فقرنا وتخلّفنا الذي كنا عليه قياساً إلى غيرنا..؟ فالإيمان ليس حَلاً لهذا السؤال، فما زلنا مؤمنين ونعاني، بل وزادت معاناتنا حدّة في هذه السنين العجاف.
    فالإنسان يعيش ضمن دائرتين: دائرة داخله محورها الفطرة، ودائرة خارجه محورها المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان. وروجيه دوباكييه عثر على الخلل الذي ينقصه هو، وهو أنّ الخلل كامن عندهم في الدائرة الأولى، خاصة مع انتشار موجة الإلحاد منذ بدء الثورة الصناعية الكبرى، مصداقاً لقوله تعالى في إشارة للدائرة الأولى: {ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. أمّا الخلل عندنا فكامن في الدائرة الثانية التي محورها المجتمع، مصداقاً لقوله تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}.
    وعلى ذلك، فليتوقف هؤلاء الذين يجلدوننا صباح مساء بقضية التوحيد كحل لمشاكلنا، فإصلاح الدائرة الثانية لا يتوقف على الدائرة الأولى؛ فلكل دائرة أدوات إصلاحها المختلفة عن الأخرى. والواقع شاهد على ذلك، فقد عاش في ظل مجتمعات المسلمين أقوام دائرتهم الأولى فاسدة، منهم منافقون ومنهم غير ذلك؛ فلم يؤثر ذلك على سلامة الدائرة الثانية عند المسلمين، لأنهم تماشوا معها رغم أنوفهم. وهناك أقوام دائرتهم الثانية سليمة لكونها متجانسة المكوّنات بغض لنظر عن خطئها بنظرنا، كأهل السويد واليابان والصين وغيرهم؛ فلم يُتعسهم سوى دائرتهم الأولى الفاسدة، وإنك لتجد مسلمين يعيشون في هذه البلدان، وقد يكونوا فقراء؛ لكنهم لا يعانون شدة الضنك الذي نعيشه نحن في أوطاننا.
    وزاد تفكيري بموضوع الفطرة أكثر وأكثر، منذ أصبحت اسمع أنّ فلاناً الأعجمي أسلم بمجرد سماعه القرآن وهو لم يفهم منه شيئاً..! ويأتي التعليق من الحاضرين على ذلك بأنّ هذه هي الفطرة؛ ولكن أين هو موقع العقل مناط التكليف من هذه الفطرة..؟ فإدارك معاني ألفاظ اللغة ليس من الفطرة في شيء، إنما هو فعل عقلي بحت. وأين هي النفس من كل ذلك والتي هي محل الثواب والعقاب، قال تعالى: {وَاتّـقُوا يَومًا تُـرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)} (س. البقرة).
    وماذا عن الملايين الذي لم يؤمنوا، أم ليس عندهم فطرة..؟ وماذا عن هؤلاء الذين انقلبوا على أعقابهم من بني جلدتنا فصاروا ملحدين، ويقرؤون القرآن ويفهمونه؛ أين ذهبت فطرتهم المزعومة..؟ وما علاقة الفطرة بالعقل والنفس والعقائد والمجتمعات..؟ أسئلة كثيرة تنتظر الإجابة.
    وقد وجدت انه من المناسب بيان الرأي الذي وصلت له بشأنها بعد تفكر طويل وتدبر، عارضاً إيّاه في منتداكم الطيب العامر هذا، فإن رأيتموه صواباً فسيكون سهماً في جعبتنا أطلقناه في سبيل الله؛ وإن كان به خلل صحّحناه. وموضوع الفطرة سوف يستحضر معه موضوع الميثاق كما قلنا، خاصة وأنّ هذين الموضوعين لهما علاقة بالعقل والنفس والمجتمعات على كما سنرى.
    الملخص:
    أفضّل أن أضع بين أيديكم ملخص هذا الموضوع وزبدته، كي أفسح الطريق للمتعجّل قبل أن يغادر هذه الصفحة، أن لا يفوته مضمون هذين الموضوعين الخطيرين. أمّا من استهواه الملخص فسيكون دافعاً قوياً له للاطلاع على التفاصيل. (في المقالة القادمة)
    1- الفطرة:
    للفطرة إطلاقات متعددة، ما يعنينا منها هو ما أشارت له هذه الآية وهذا الحديث، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيهَا لَا تَبدِيلَ لِخَلقِ اللَّهِ ذلك الدِّينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النّاسِ لَا يَعلَمُونَ (30)} (س. الروم).
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: {ما مِن مَولودٍ إلّا يولَدُ على الفِطرةِ، فأَبواهُ يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانهِ أو يُمجِّسانهِ، كما تُنتَجُ البَهِيمَةُ بَهيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّونَ فيها من جَدعاءَ. ثم يقول أبو هريرةَ: فِطرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيهَا. الآيةَ}. (صحيح البخاري، 1/456، حديث رقم 1293). [جمعاء: المجتمعة الأعضاء لم يذهب مِن بدنها شيء. الجدعاء: المقطوعة الأذن. والمعنى أنَّ البَهِيمَةُ تُنتَجُ بَهيمةً سليمة، وإنَّما يجدعها أهلها].
    والذي توصلت له بعد تفكير عميق مستنير، واسترشاداً أيضاً بأقوال ذوي النباهة المتفقة مع ما وصلت له أو المخالفة له حتى؛ أنّ الفطرة غريزة خاصة ذات مَهمّة خاصة ومحددة؛ تختلف عن باقي الغرائز الأخرى، مَهمّتها دفع الإنسان للإجابة على أسئلة الوجود الكبرى [أسئلة الفطرة]، هذه التي يسألها كل إنسان لنفسه مهما كان معتقده، بمجرد ظهور عقله الوظيفي للوجود؛ وهي هذه الأسئلة أو ما في معناها: من أين جاء آبائي الأولون، ومن أوجد الكون والمخلوقات، وما معنى هذه الحياة، وإلى أين أذهب بعد الموت، ولماذا..؟ وأداة الإجابة على هذه الأسئلة هي العقل، فالعقل مناط التكليف؛ والنفس لا عقل لها.
    فلا بد من دافع شعوري داخلي ضاغط على النفس الإنسانية يدفعها للتحرك في الحياة، يحثّها على طلب الإشباع لموضوع الدافع؛ وبغير ذلك يجمد الإنسان مكانه. فهناك دافع الحاجات العضوية من مأكل ومشرب وغير ذلك؛ وهذا الدافع ملزم بطبعه لأن حياة الإنسان تتوقف عليه. وهناك دافع الغرائز الجسدية التي يشترك بها الإنسان مع الحيوان، كغريزة حب البقاء، وغريزة حفظ النوع، وغريزة التقديس التي تدفعه للتكتل، الناتجة عن الشعور بالضعف والحاجة إلى قوة أكبر يلجأ لها.
    وبعكس الحيوان، فدافع الغرائز الجسدية غير ملزم للإنسان، لأنه لا تتوقف عليه حياته، ولأنه مميّز بالعقل عن الحيوان. فعدم إشباعه إنما يتسبب له بضيق فقط؛ وهذا يختلف من شخص لآخر أيضاً. فالغريزة لا تختفي لأنها طاقة داخلة في تكوين الإنسان لا يمكن التخلص منها بذاتها، إنما يمكن التلاعب بمظاهرها عن قصد أو دون قصد، بل يمكن قمعها والتصرف عكس إيحائها.
    وعلى ذلك، فإشباع دافع الغرائز الجسدية عدا عن أنه ضرورة لدفع الإنسان للتحرك في الحياة، فهو أيضاً أحد وسائل امتحانه في الأرض، هل سيخلد للأرض ويستسلم لغرائزه فيصير هو والحيوان في مرتبة واحدة، أم انه سينظّمها لكونه ذو عقل ويعيش في مجتمع إنساني يختلف تماماً عن قطعان البهائم. وهكذا فإنّ دافع الغرائز الجسدية يشد الإنسان للأرض، أمّا دافع الفطرة فيشده للأعلى تجاه خالقه، تجاه المَهمّة التي خلق الإنسان من اجلها.
    أمّا إشباع دافع الفطرة فهو لازم وحتمي، وذلك كي يتزن الإنسان داخلياً في الحياة الدنيا؛ ولعلاقتها بمصير الإنسان في الآخرة؛ فالإنسان يعيش ضمن دائرتين كما قلنا. ولأجل ذلك فلا يتلاشى ضغط دافع الفطرة أو تخف حدّته، إلا وقد أجاب كل إنسان على حِدة على أسئلة الوجود الكبرى عقلياً، وذلك ليتزن كيان الإنسان في دائرته الداخلية على الأقل. حتى لو كانت الإجابات خاطئة أو باطلة، فالخطأ غير البطلان، فالخطأ فيه بعض الصواب حتى لو كان لا يفيد صاحبه في هذه القضية [الإشراك بالله]، أمّا البطلان فخطأ محض.
    أي بما في ذلك الملحدون الذين إجاباتهم عنها باطلة بنظرنا نحن المؤمنون بالله، فلديهم إجابات عنها رضيت بها نفوسهم التي هي محل الثواب والعقاب كما قلنا، والتي هي محل الفعل والانفعال في الحياة الدنيا أيضاً. وليس العقل هو محلّ ذلك، فالعقل هو مناط التكليف وليس محل التكليف، فالنفس لا عقل لها لذلك هي محتاجة للعقل وهو تحت إمرتها، فإذا زال العقل ظلت النفس حاضرة، لكن سقط التكليف عن النفس حتى في عُرف البشر. قال تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَتهُمْ آيَاتُنا مُبْصِرَةً قالوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)﴾ (س. النمل). وقال تعالى حكاية عن الكافرين عن أنفسهم وعلاقة العقل بذلك: {وقالوا لو كُنّا نسمع أو نَعقِلُ ما كُنّا في أصحابِ السَعير (10) فاعترفوا بذنبهم فسُحقاً لأصحابِ السَعير (11)} (س. الملك).
    فالإجابات الخاطئة أو الباطلة عن أسئلة الفطرة، لن تمنع الإنسان من العيش على الأرض، لكنها يجب أن تحضر سواء كانت إجابات صحيحة أم خاطئة أم باطلة؛ فإشباع دافع الفطرة لازم وحتمي كما قلنا. وهذا هو المتوافق مع قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (الكهف 29). فالإنسان في مهلة حتى يأتي موعد نهاية امتحانه المخبأ موعده عنه، أي الموت.
    فكل ما في الأمر أنه إذا كانت إجابات الإنسان على أسئلة الفطرة خاطئة أو باطلة عقلياً، فسيظل دافع الفطرة الشعوري يثور بين فترة وأخرى، يلح على النفس بطلب الإجابة العقلية الصحيحة عليها حتى آخر لحظة في حياة الإنسان، فتنغص عليه عيشه من غير أن تمنعه من ممارسة دوره على الأرض. فالإجابات الخاطئة أو الباطلة تهدأ من ضغط دافع الفطرة لكنها لا تلغيه، حتى أنّ هذا يتوقف على مستوى رضى النفس بهذه الإجابات، أهوَ عال أم منخفض، وسيلعب المجتمع دوراً في ذلك لأن الإنسان كائن اجتماعي.
    فلولا دافع الفطرة لَما صارت أسئلة الفطرة هذه أفكاراً مهمة للنفس الإنسانية رغم أنفها، ولَما كانت الإجابات عليها بتلك الخطورة التي قلناها. فلو لم تكن كذلك لاطمئن كل مجيب عن جوابه ورضي به، المؤمن وغير المؤمن. وحينها ما أورثت الإجابة الصحيحة المؤمن سكينة وطمأنينة، ولا أورثت كافراً أو متشككاً ضنكاً عن إجابته الباطلة. وهذا واقع محسوس في حياة البشر، مصداقاً لقوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذكري فإنّ له معيشَةً ضَنكاً، ونَحشُرُه يَومَ القيامة أعمى (124)} (سورة طه). ولقوله تعالى: {الذينَ آمنوا وتطمَئنُ قُلوبُهم بذكر الله؛ ألا بذكر الله تطمَئنُ القلوب (28)} (س. الرعد)
    فلن تستقر الفطرة استقراراً تاماً، فلا يعود دافعها الشعوري يلح على الإنسان بطلب إجابات عقلية على هذه الأسئلة؛ إلّا إذا كانت الإجابات عليها متوافقة مع ما يرشد إليه العقل السليم، أي دون ثغرات وتناقضات قاتلة للفكرة، ورضيتها النفس بعد ذلك فانغرست في قلبه فكرة مرتبطة بمشاعر تابعة لها؛ وعلامة ذلك أن ترضى النفس لِما يوافق الفكرة المنغرسة في قلبه وتغضب لِما يخالفها؛ وهذا اقل الإيمان كما جاء في الحديث؛ وهو اقل الإيمان في جميع تلك الحالات أيضاً.
    فالإجابة الحتمية على أسئلة الوجود الكبرى بدافع شعوري قوي من الفطرة، مهما كانت الإجابات؛ هي جوهر امتحان الله للإنسان في الحياة الدنيا وظهور العقائد المختلفة في حياة البشر، بل وظهور المجتمعات المختلفة؛ فإجابات أسئلة الفطرة هو مدار أيـّة عقيدة، بما فيها عقيدة الإلحاد؛ فالعقيدة بمعناها العام هي فكرة كلية عن الإنسان والكون والحياة؛ فكيفما كان تصوّر الإنسان عن هذه الثلاثة، كانت هي عقيدته.
    وهكذا يتبين لنا أنّ الفطرة رحمة من الله للإنسان وحجة عليه في نفس الوقت، لكن ليس كحجة عقلية عليه، إنما كحجة شعورية عليه في كونها ستنغص عليه حياته ولن تهدأ إلّا بالوصول للإجابات الصحيحة عقلياً. ثم سيأتي الميثاق المغروس في أصل خلقة العقل، فتكتمل أركان هذه الحجة؛ ثم ستأتي حجة مبعث الرسل من الله، فلا يعود للإنسان حجة على الله إطلاقاً في دفع العذاب المستحق عليه إذا كفر من بعد وصول رسالة الرسول إليه بيّنة واضحة. قال تعالى: {رُسُلاً مبشّرينَ ومنذِرينَ لئلّا يكون للنّاسِ على الله حُجة بعد الرّسُل وكانَ الله عزيزاً حكيماً (165)} (س. النساء).
    وفي النهاية أقول: اعلم أنّ الفطرة بهذا المعنى الدقيق الذي ذكرته، هو الذي دار حوله جل المفسرين، اللهم أنّ كلامهم عنه عائم جداً لا يشفي الغليل، لعدة أسباب لا يتسع المقام لعرضها، ولأنهم يناقشون موضوع الفطرة تحت عنوان واحد، وهذا خطأ؛ فللفطرة إطلاقات متعددة كما قلنا.
    فالفطرة ليست هي الإسلام على ما ذهب البعض. فالإسلام إجابات محددة على أسئلة الفطرة وأحكام متنوعة. اللهم أنّ إجابات الإسلام وكذلك إجابات جميع الأديان السماوية قبل التحريف؛ هي إجابات صحيحة عقلياً عن أسئلة الفطرة هذه؛ الأمر الذي جعل الإسلام متوافقاً مع الفطرة بهذا الوصف والتفسير فقط. وأيضاً فأحكام الإسلام غير العقيدة، متوافقة مع ما تطيقه خلقة الإنسان لتسموا به لأعلى الدرجات من الكمال الجسدي والنفسي، فيكون الإسلام متوافقاً مع الفطرة بهذا الإطلاق لها أيضاً إن ذهبت إليه.
    2- الميثاق:
    على ضوء الفهم الدقيق للفطرة الذي طرحناه أعلاه، وعلاقة النفس والعقل به، فإنه يمكننا السعي بثقة في محاولة استجلاء حقيقة الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم وهم في عالم الذر.
    قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ..؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)} (س. الأعراف).
    فعبارة [أَنْ تَقُولُوا] هنا هي بمعنى [لِئَلَّا تَقُولُوا] على ما قال كُلُّ المفسرون، ولذلك شواهد أُخرى من القرآن كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّوا (176)} (س. النساء)، أي لِئَلَّا تَضِلُّوا.
    وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان، يعني بعرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها؛ فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلا وقال: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة}، إلى قوله {بما فعل المبطلون} (المستدرك على الصحيحين). وعن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء، أكنت تفتدي به .. ؟ فيقول: نعم. فيقول: أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك بي شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي}. (أخرجه مسلم)
    فالخطاب هنا لعموم جنس الإنسان وهم في عالم الذر قبل حضورهم للدنيا، أي قبل تفرقهم بين مؤمن وكافر في الدنيا. وفيه أنّ الله سبحانه قد أشهد كل واحد منهم على نفسه لا على غيره؛ بأنه سبحانه هو ربه وخالقه؛ بدلالة قوله تعالى: {من بني آدم من ظهورهم}، وليس من آدم أبوهم فقط. وقد شهد كل واحد منهم بذلك عن قناعة عقلية تامة لا يخالطها رَيب.
    والتحدي هنا: لو أنّ الآية لم تأت على ذكر التحذير من إنكارهم لهذا الميثاق في الدار الآخرة، وهو قوله تعالى: (أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين)، لكان للآية تفسير آخر محصور بما قبل الحياة الدنيا فلا يتعداه لحياة البشر في الدنيا. لكن الميثاق المأخوذ على كل واحد منا بحسب مدلول الآية؛ فيه تأكيد قطعي على أنه حاضر في الدنيا دار الامتحان، وله دور خطير فيها؛ بدليل أنه سيذكّـر به كل إنسان يوم القيامة، كافرا أو مشرك على وجه الخصوص؛ كرابط بين الدارين. فلولا ذلك لما كان للتذكير به أية قيمة؛ وهذا وجه التحدي الأول. أمّا وجه التحدي الثاني، فهو أنه ليس هناك أحد من البشر في الدنيا يذكر هذه الحادثة، أي هذا الميثاق، لا مؤمن ولا كافر؛ على ما يعنيه معنى التذكر بمفهوم الإنسان عنه.
    وهناك فرق في اللغة العربية بين الغفلة والنسيان والسَّهْو، فالإنسان إنما ينسى ما كان ذاكراً له. والسهو يكون عن ذكر وعن غير ذكر. أمّا الغفلة فتكون عما يكون، تقول: غَفِلْتُ عن هذا الشيء حتى كان؛ ولا تقول: سهوت عنه حتى كان. (الفروق اللغوية للعسكري، تحت باب "الفرق بين النسيان والسهو"، ص 97 - 98). وعلى ذلك، فقول بعض المفسرين أنّ الله قد أنسانا هذا الميثاق فأذهب ذكره وحفظه عن قلوبنا، وأنّ الرسل أرسلوا يذكّـرون الناس بهذا الميثاق؛ هو حل غير موفق ومرفوض لمعضلة الميثاق. فحتى مع إرسال الرسل وإيمان بعض الناس بهم، ما زال المؤمنون جميعهم لا يتذكرون هذا الميثاق. والأخطر من ذلك أن تتمة آية الميثاق ستفقد معناها بهذا التبرير {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}.
    وعلى ما جاء في (مختصر خريطة العقل (1))، فإنّ تلك الوقائع التي وجودها غامض في قليل أو كثير، والتي فيها جانب ظني؛ قد لا يلتفت إليها كثير من الناس إلّا إذا كان هناك دافع شعوري داخلي قوي يستفز الإنسان للالتفات لها، كدافع الفطرة الذي يستفز الإنسان للتفكير بوجود خالق لهذا الكون كما رأينا. وإلّا إذا نبـّهَهم إلى وجودها شخص عميق التفكير أو نبي أو خالق الكون؛ وأفضل مثال على ذلك هو واقع الميثاق المأخوذ على بني آدم، وواقع الزمكان الذي دلّ اينشتاين البشر عليه.(2)

    .....
    ( 1) (مختصر خريطة العقل) هو بحث للباحث نفسه (أبو الطيّب القريـــــــني البلوي القُضاعي)، وهو بحث من 40 صفحة، وهو عن العقل/ تعريفه، والبنود التي تنظّم سير عمله: [ 17 بند ]، وبه سلم مقترَح من عشر درجات لقياس مستوى الظنية في الأفكار. وهو ضمن الكتاب الأم لعلم عروض قضاعة. لكن هذا البحث منه، أي (مختصر خريطة العقل) مرفوع على الشبكة، وستجده ضمن صفحة الباحث على الفيسيوك، والتي عنوانها (علم عروض قضاعة).
    (2) السبب في أنّ مثل هذه الوقائع فيها جانب ظني، وأنّ الاختلاف حولها وارد؛ فذلك لسببين؛ الأول: لأن طبيعة الإحساس ببعض تلك الواقع باهت جداً، وذلك لكثرة الوقائع المحسوسة المتعلقة بها اللازم استحضارها، مع ضرورة نفي الوقائع غير المتعلقة بها؛ من اجل تجليتها وإبرازها مشخّصة في الذهن، وذلك كواقع الميثاق تماماً. والسبب الثاني: أنّ إدراك وجود مثل هذه الوقائع، حتى مع سلامة أعضاء الإحساس؛ يلزمه ركائز لإثبات وجودها من عدمه. (راجع مختصر خريطة العقل).
    .......

    فلولا أنّ الله سبحانه نبّهنا إلى وجود واقع الميثاق فينا، لَما انتبه له احد؛ ذلك أنّ الإحساس بواقعه باهت جداً جدا؛ فلو كان واقع الميثاق محسوساً بدرجة كافية وليس باهتا جداً، لَما غَفل عنه كل الناس قاطبة فاحتيج إلى لفت خالق الكون عقولنا إليه. وهذا بعكس واقع الفطرة المحسوس للجميع إنما ماهيته هي الغائبة، فوفقنا الله لكشفها على ما نظن ونرجوا.
    لكن أين هو الميثاق في بُنية الإنسان، وما هي ماهيته أصلاً؛ فهذه هي المعضلة التي تحتاج حلاً. فالميثاق قطعاً موجود في كل إنسان في هذه الدنيا، بدلالة ذكر الله له في كتاب ثبت عقلاً على وجه القطع أنه كلام الله [القرآن]، ولم يصبه التحريف. أمّا كيفية أخذ الميثاق من الإنسان في عالم الذر، أي تفاصيل حادثة أخذ الميثاق؛ فهذه نجهلها، ولا سبيل للعقل لبحثها أصلاً وفصلاً؛ ولذلك يوقف عند حدود مفردات النصوص التي تعلقت بذلك فلا تحمّل فوق طاقتها.
    وهكذا يغدو المنفذ الأوحد لإيجاد حل لهذا اللغز، مرهون بالاستخلاص العقلي له من فحوى نص الميثاق في القرآن؛ طبعاً مع ربط ذلك بركائز موثوقة للوصول لحكم قريب من الصواب ما أمكن، وذلك من أجل تشخيص ماهية الميثاق قائماً بنفسه غير مختلط بغيره.
    فإذا فعلنا ذلك فسنجد أنّ الميثاق يطرح فكرة واحدة محددة على أنها علم مطابق للواقع تماماً، محصورة بشهادة جنس الإنسان بالربوبية فقط (3). وقد ألقت الآية التي بعد آية الميثاق والمعطوفة في المعنى عليه، مزيداً من التأكيد على فكرة الربوبية التي يطرحها الميثاق، وهي قوله تعالى: {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173)}.

    ..........
    (3) الربوبية والألوهية على ما بينهما من فروقات في المعنى، إلّا أنهما أمرين متلازمين في موضوع الإيمان بالله والتوحيد لا انفصام بينهما (يقين). ويخطئ من يفصل بينهما فيجعل البشر جميعاً مقرون بالربوبية، وأنّ الاختلاف بين البشر كامن في توحيد الألوهية. والآية التي بين أيدينا شاهدة على ذلك، وهي قوله تعالى {وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم .. ؟ قالوا بلى شهدنا}، [وهناك غيرها كثير في القرآن]. إذ لو كان هناك عدم تلازم بينهما في موضوع الإيمان والتوحيد؛ لكان يجب أن يكون النص (ألست إلهاكم)، على اعتبار أنّ الإقرار بالربوبية بزعمهم غير كاف لأنه متحقق عند الجميع، مؤمنهم وكافرهم؛ وحينها لكان الميثاق المذكور في الآية تناقضاً والعياذ بالله. إلّا انه يوجد مفهوم (العطاء) المتعلق بأيّ منهما، على ما قال محمد متولي الشعراوي رحمه الله، فهناك عطاء الربوبية، وهناك عطاء الألوهية؛ وقد ذكر في هذه الآية عطاء الربوبية لمناسبة المعنى والموقف حين أخذ الميثاق؛ فعطاء الربوبية يتضمن الإيجاد من العدم، أمّا عطاء الألوهية فيتضمن التكليف من الله سبحان في الدار الدنيا.
    .......


    وهكذا نصل إلى نتيجة عقلية أولية صحيحة، وهي أنّ الميثاق على صلة وثيقة بالعقل؛ لكنه ليس العقل مع ذلك (ظن عازم). فالعقل واقعه محسوس للجميع. كما أنّ الميثاق هو فكرة الربوبية، لكن متى كانت الفكرة هي العقل نفسه..؟ فما ينتج عن العقل من أفكار ليست هي العقل، إنما هي ناتج من نواتج استخدام العقل في التفكير وفي الحكم على الوقائع (راجع مختصر خريطة العقل). ثم أنّ الإنسان عندما يولد تكون ذاكرته خالياً من أية فكرة، بما ذلك فكرة الربوبية التي يطرحها الميثاق. وليس للميثاق كذلك علاقة بالنفس، فالإنسان عندما يولد يكون خالياً من أيّ علم، والنفس مشمولة بذلك؛ فما بالك ونسيان حادثة الميثاق تماماً، هي حالة قد استغرقت ذاكرة البشر جميعاً.
    وعلى ما ظهر لنا في موضوع الفطرة أعلاه، فالفطرة على تماس مباشر بإدراك وجود خالق لهذا الكون، ولذلك فهي على علاقة جد وثيقة بالميثاق؛ لكن الميثاق مع ذلك ليس هو الفطرة وحدها. فالفطرة ليست فكرة إنما هي دافع شعوري ضاغط على النفس كما رأينا. أمّا الشهادة بالربوبية التي تطرحها آية الميثاق، فهي فكرة ناتجة عن حكم عقلي بحت، فطريق إدراك وجود خالق للكون وللإنسان إنما هو العقل، ورسالات السماء إنما صادقت على هذا الحكم العقلي الصحيح، ليس إلّا.
    وبالنظر لما قدّمناه لحد الآن، وبما أنّ الميثاق قطعاً موجود في بنية الإنسان في الدنيا بنص الآية؛ لم يتبق إلّا احتمال واحد صحيح يشهد له واقع محسوس بعد جهد جهيد وتدبر عميق ومستنير؛ وهو أنّ الميثاق كماهية: هو الهيئة التي خلق الله عقل الإنسان عليها إضافة لدافع الفطرة الشعوري، وليست هي العقل نفسه (ظن ناقب).
    أي أنّ الميثاق واقع مركب من واقعين، يعمل عمل الواقع المفرد في كيان الإنسان في الدنيا (راجع خريطة العقل/ البند 6 و7). بمعنى، أنّ الميثاق معجون في خلقة العقل المراعية لكونه سيرتبط بالكون وبالقوانين التي تسيره بعد ظهور العقل الوظيفي للوجود؛ بحيث إذا تُرك العقل الوظيفي وحده بهذا التصميم المتقصّد دون ضغوطات النفس وتأثير العقل الجمعي عليه، ودون إكراه أيضاً؛ فلا يستطيع العقل السليم إلّا أن يحكم بأن الله هو رب الإنسان وخالق هذا الكون من العدم.
    وبمعنى آخر، فالله قادر على أن يخلق عقولاً بتصميمات متعددة، لكن جرت حكمة الله ورحمته أن يزود الإنسان في الدنيا بعقل مخصوص يناسب أداء امتحان الدنيا الذي استعد الإنسان لخوضه والنجاح فيه {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا (72)} (س. الأحزاب). ثم ضمّن الله سبحانه لحكمة بالغة منه ورحمة، الميثاق في خلقة عقله المخصوصة هذه، ليساعده في مهمته هذه. فأثر الرحمة في ذلك يسهل إدراكه، أمّا الحكمة من ذلك فسنعرفها بعد قليل. أمّا كيف تم هذا البناء، فهذا مجهول لا سبيل إلى الوصول إليه إطلاقاً.
    وهكذا فإنّ الفطرة كدافع شعوري ضاغط على النفس، ستقوم مقام التذكير المستمر بالربوبية لكل إنسان بعينه [التذكير بالميثاق]، وهذا التذكير المستمر هو متعلق آية الميثاق من جهة احتجاج رب العالمين بالميثاق على البشر، احتجاج الواثق من حجته، وهو قوله تعالى: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}. وهذا التلازم بينهما هو ما سيجعل حجة الميثاق مع حضور حجة الفطرة معها على البشر؛ حجة تامة غير منقوصة. ولذلك، فأدق وصف لهذا الميثاق هو وصفه بـ (ميثاق الفطرة). وعلى ذلك أيضا، فالقول بأن الإيمان فطري في الإنسان، وأن الكفر حالة مرضية غير سوية، طرأت على الإنسان بسبب أهواء النفس أو بسبب العقل الجمعي المتمثل بتقليد الآباء، هو قول صحيح تماماً.
    وواقع وماهية الميثاق كما ظهرا لنا، هو ما يفسّر لنا بكل بساطة لماذا لم يستطع الإنسان تذكر واقعة الميثاق. فهو لم يستطع لأن مضمونها قد بني في أصل خلقة العقل وفي دافع الفطرة الشعوري، فلم تكن تفاصيل الواقعة نفسها من ضمن محتويات ذاكرة الإنسان ليمكنه استدعائها، أو ليمكنه التفطّن لها فيما لو تم تذكيره بها. وهو ما يفسر لنا أيضا لماذا كان الإحساس بالميثاق إحساس باهت جدا؛ بل وما يفسّر الحكمة في تقصّد كون الإحساس به باهت جدا.
    والميثاق ليس حجة الله على الناس في الدنيا، إنما هو حجة عليهم يوم القيامة، وهو ما يمثّل الهدف والحكمة من بناء الميثاق في كيان إنسان الدنيا. فقد يحتج الإنسان الذي بلغته رسالة الرسول بيّنة واضحة ومع ذلك أنكرها، وذلك ليدفع عن نفسه العذاب المستحق؛ بأنّ العقل الذي منحه الله له في الدار الدنيا، لا يستطيع الاهتداء لرب الكون، أو كأن يدعي يوم القيامة بأن الله لم يعطه في الدنيا دليلاً عقلياً كافياً على وجوده؛ فلذلك لم يصدّق الرسل القائمة دعواهم على فحوى الميثاق، قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)} (س. الأنبياء). وهذه أعظم فرية سيكون الميثاق لها بالمرصاد.
    وقد يتذرّع هذا الإنسان الشقي بالإضافة لذلك، بأنه نشأ على ما كان عليه آباءه الأولون، وهي الحجة الأكثر طروءاً على ذهن الإنسان في هذا الموقف. فهنا سيأتي الميثاق الذي أقرّ به في عالم الذر [وهو في الأصلاب]؛ ليرد عليه دعواه هذه. وقد رأينا كيف عقّب الله سبحانه وتعالى عليها في الآية التي بعد آية الميثاق محذراً من اتخاذها حجة يوم القيامة، مع التصريح الواضح بكونها حجة غير مقبولة فيما لو سبقها وصول رسالة الرسول البينة للإنسان {أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173)}. (4)

    .......
    (4): مثال: أفضل مثال وجدته على من سيدّعي يوم القيامة بأن الله سبحانه لم يعط الإنسان دليلاً عقلياً كافياً على وجوده، هو ما ورد على لسان السيد جون سيرل (John R.Searle) في كتابه (العقل واللغة والمجتمع) تحت عنوان (ما وراء الإلحاد)، والمؤلف هو أحد ابرز الفلاسفة المعاصرين. فقد قال [بتصرف في الترجمة جد بسيط]: {قبل أجيال من الآن، كانت الكتب التي تصدر على شاكلة هذا الكتاب، ستحتوي بالضرورة إمّا على هجوم ملحد على الدين التقليدي، أو على دفاع مؤمن عنه؛ أو ربما قد يكتفي الكاتب بلا أدرية رزينة على الأقل [بلا (أدري) رزينة].**. وقد يتساءل القارئ الذي نفذ صبره من مماطلتي، متى أتخذ موقفاً من وجود الله وأعلنه في كتابي هذا.
    في الحقيقة أن أفضل إجابة لي على هذا السؤال، قد صدر عن (برتراند رسل) في حفلة عشاء حضرتها وأنا طالب قبل التخرج، **، وقد كان ذلك في منتصف الثمانينات وفي أوج شهرته كملحد. ذهبنا في تلك المناسبة المعينة جميعاً إلى لندن، وتناولنا عشائنا مع برتراند رسل في مطعم، وقد كان يخالج كثيرين منا سؤال ظل يضغط علينا حول موقف برتراند رسل الذي يضمره من مشكلة الخلود، ووضعنا أمامه ذاك السؤال كالتالي: افترض أنك كنت مخطئا بشأن وجود الله، فظهر أن القصة بأسرها حقيقية، وانك وصلت لتعرض على (البوابات اللؤلئية) أمام القديس بطرس. وما دام أنك قد أنكرت وجود الله طوال حياتك، فماذا ستقول له..؟ أجاب برتراند رسل دون تردد: حسناً، سأمضي قدما باتجاهه وأقول له: أنت لم تعطنا دليلاً كافياً}. (العقل واللغة والمجتمع، ص 59، 64. الطبعة الأولى 2006 - 1427 هـ. ترجمة سعيد الغانمي، الدار العربية للعلوم- بيروت).
    تعقيب (أبو الطيب): لعلنا الآن بعد هذا الشوط الذي قطعناه في بيان ماهية العقل الإنساني، وما قدّمناه عن واقع الفطرة والميثاق، متأكدين تماماً أن السيدان جون سيرل وبرتراند رسل قد خاب ظنهما وخاب سعيهما. قال تعالى: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله؛ له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق (9) ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد (10)} (س. الحج). وقال تعالى: {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31) وما الحياة الدنيا إلّا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32)} (س. الأنعام). هذا والله أعلم وأحكم.
    .........

    هذا والله اعلم وأحكم. فإن أصبت في التفسير فهذا من توفيق الله، وإن أخطأت فهذا من نفسي ومن الشيطان. وللحديث تتمة...

  2. #2
    الصورة الرمزية د. سمير العمري المؤسس
    مدير عام الملتقى
    رئيس رابطة الواحة الثقافية

    تاريخ التسجيل : Nov 2002
    الدولة : هنا بينكم
    العمر : 59
    المشاركات : 41,182
    المواضيع : 1126
    الردود : 41182
    المعدل اليومي : 5.28

    افتراضي

    بداية أتشرف بك وأرحب بك أخا حبيبا ومفكرا واعيا، واعلم رعاك الله أنني لست أحفل إلا بمن أرى فيه عمقا وتفردا في الطرح أدبيا أو فكريا وهؤلاء ندرة قليلة وأراك واحدا منهم وهذا يسعدني.
    ثم إني أشكر لك رصانة الطرح وعمق التناول وجودة الأسلوب رغم بعض الهنات اللغوية المتفرقة ورغبتي في مزيد من تحري متانة الأسلوب الأدبي، ولكني رأيت هنا عمقا فلسفيا وتناولا منهجيا مميزا في محاولة لسبر أغوار النفس البشرية استهواني، بل ووددت لو زودتني فضلا بكتابك مختصر خريطة العقل لأطلع عليه. وأقول ملخصا بأنني مسرور بالتعرف إليك ويهمني أن أقرأ لك وأتعرف على فكرك وفلسفتك الوجودية وليس يهزني مثل التعرف إلى أهل الرقي والهمة أدبا وفكرا وقليل ما هم. والمؤسف أنهم رغم قلتهم ورغم حاجة الأمة إليهم تجدهم كغثاء السيل قد أذهبوا ريحهم وتفرقوا في الأرض أفرادا كل فرد بما لديه فرح فخور قد غرق في العجب والأثرة وغرق في التنافسية بدل التكاملية ويكأن السماء لا تتسع إلا لنجمه فحسب.

    ورغم سروري بك وحرصي على مودتك ومعرفتك، وسعادتي بما قرأت لك هنا وهناك في قسم العروض بهذا الأسلوب الرصين وهذا التناول العميق والذي آمل أن يشفع لي عندك في أي رأي أو تناول مخالف أو مختلف فلا يفسد لهذا الود الذي ملأ قلبي لك قضية. أقول إنني ممن يؤثر التناول الفلسفي العلمي العملي لا التناول الفلسفي الجدلي الدجلي - ولست أتهمك أبدا بذلك - ولكني استوقفني في طرحك العديد من مواضع أختلف معك فيها بل أجدها انبثاقات لقواعد مربكة بين الجزء والكل وبين العام والخاص وهذا لعمري سيؤدي إلى استنتاجات مختلفة وتوجهات قد تتوافق وقد تتعارض مع منهجية الطرح والوصول. وإنني لولا أنني كنت أعلنت منذ سنين عن تناول شامل للنفس البشرية فطرة ومنهجا وسلوكا في كتاب "رحلة في الذات" وخشيتي إن بدأت في تفنيد وتناول تلك المواضع وتلك القواعد المنهجية أن أفسد علي أو عليك الأطروحة باختلاط الأفكار وتقاطعها بالتوافق حينا وبالتخالف حينا آخر خصوصا وأنني أرى تشابها كبيرا في التوجه والمنهجية الفلسفية للحياة وللكون لكنت رددت عليك هنا بمقالة تطول.

    وأيا يكن من أمر فإني سأنتظر بود وشوق وفخر ما ستطرح فأيا كان ففيه ما يسر الخاطر بوجود أمثالك من نخب الأمة الفريدة التي أملت ولا أزال أن تتصدى لدورها الريادي في جهد ناهض بالأمة قولا وفعلا وبتنافسية تكاملية لا تنافسية إقصائية وبسعة صدر وتقدير لكل جهد صادق متجرد.

    تقديري
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.19

    افتراضي

    كل الشكر لك أخي الكريم، وإني لسعيد بالانضمام لرابطة الواحة التي انتم علم على رأسها، ومسرور أكثر بالتعرف بك، ومقدّر لتفضلك بالتعليق على مشاركاتي. وفقنا الله جميعاً إلى ما فيه خير هذه الأمة ورفعتها.
    وقد قرأت باهتمام كل كلمة كتبتها، وأحب أن أقول لك بخصوص اختلاف الآراء الذي شغل حيزاً واضحاً في تعليقك هنا وفي قسم العروض، اطمئن؛ فأمثالي لا يختلفون مع أمثالكم في الجوهر، لأن بوصلتنا واحدة. أمّا الاختلاف فيما سوى ذلك فهي نعمة رغم أنّ ظاهرها نقمة، فليس يمحص الآراء ويصقلها إلّا الاختلاف. وطالما كان الاختلاف عن أدلة وقرائن وليس عن هوى، فيا مرحباً به.
    وقضية الاختلاف في ذاتها قد شغلت ذهني منذ أمد بعيد، لأني رأيت خطره على الأمة. وقد رأيت خطره أكثر في العلوم لـمّا غصت في الكتب عند إقامة بنيان (علم عروض قضاعة). فالخطر ليس في الاختلاف في حدّ ذاته، فهو لا بد حاصل ولا انفكاك للإنسان عنه في الدار الدنيا؛ إنما الخطر هو في كيفية التعامل معه، أي في توجيهه الوجهة الصحيحة المثمرة.
    وقد فتشت عن سبب الاختلاف الأول، ووجدت أنّ منبعه الأساس هو في كون أحكام العقل في معظمها ظنيّة، لكن الظن مداه واسع، فهو ليس محصوراً بثلاث درجات أو أربع، على ما مضى عليه السابقون (الشك، الظن، غالب الظن، اليقين). والإنسان كائن اجتماعي يحتاج لأنْ يشارك أفكاره مع الآخرين حوله، وينفعل بالمقابل مع أفكارهم؛ ولذلك فليس فقط يحتاج الإنسان للتعبير عن أفكاره بتجرّد، بل سيحتاج بالضرورة لأنْ يعبر عن مستوى ظنية هذه الأفكار لنفسه أولاً، وللآخرين من بني جنسه؛ فالنفس هي محل الفعل والانفعال.
    فإنه إذا عُرِفت الدرجة الظنية للفكرة، فهذا يريح النفس ذاتها، وأمكن كذلك اتخاذ موقف صحيح من الفكرة ومن قائلها. فالخلاف على مستوى الظن المستحَق للفكرة بين المتنازعين، حتى لو لم ينتبه لذلك إلا القلّة بسبب انشغالهم بإثبات دعواهم، أو انشغال البحاثة بطرق الاستدلال والبرهان؛ هو أكبر عائق في التواصل الفعّال بين الإنسان ونفسه، وبين البشر بعضهم البعض.
    والذي سيرفع الاختلال في الفهم والنقاش بين الناس طالما أنّ الحال هو هكذا، هو بمنح الأفكار درجات ظنية؛ بحيث إذا ذُكِـرت درجة الفكرة عرف المتلقي مقدار ما تحتويه من الصواب بنظر قائلها؛ فالظن والشك واليقين ليست من فعل الواقع ولا من فعل العقل، إنما هي من فعل النفس كما قلنا.
    وطالما أنه لم يسع احد لضبط هذا الظن بمعايير محددة مستندة على أساس عقلي متين، فإنّ فرصة تحوّل الخلاف لنزاع لا داعي له أصلاً، أو إلى شر مستطير، ستظل قائمة. فهداني الله إلى صناعة سُلّم لقياس مستوى الظنية في الأفكار من عشر درجات، أودعته مبحث (مختصر خريطة العقل- 40 صفحة)، هذا الذي سألتني بأن أزودك به؛ وأتشرف بأن يطلع أمثالكم على هذا البحث المهم والخطير بتقديري. وهذا هو رابطه.
    https://www.mediafire.com/file/zrujc...%25A9.pdf/file
    هذا وقد بحثت في الشبكة عن كتابك "رحلة في الذات"، فأنا شغوف بالبحث في هذه الأمور كما صرت تعرف، خاصة إذا كان المؤلف جاداً واعياً وصادقاً مع نفسه ومع الآخرين، وأحسبك منهم. فهل من سبيل إلى الحصول عليه كملف pdf، أو لعلك تدلني على مكتبة في الأردن توفره.
    وفي الختام كل التقدير لشخصك الكريم، ولكل أعضاء رابطة الواحة، ولكل زوراها.

  4. #4
    الصورة الرمزية ياسرحباب قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : May 2013
    الدولة : دمشق
    المشاركات : 578
    المواضيع : 90
    الردود : 578
    المعدل اليومي : 0.15

    افتراضي

    السلام عليكم
    الحقيقة فاجأني هذا البحث بمضمونه الغني و المفعم بالمعرفة ،
    انتظر الجزء الثاني بكل لهفة ،،
    مع جزيل الشكر و التقدير
    ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.19

    افتراضي

    الاخ ياسر حباب
    شكرا على تعليقك الرافع للهمم..
    قد كنت مشغولا جدا في الفترة الماضية بتجهيز (علم عروض قضاعة- المنتج الجاهز: المدخل للكتاب الأم) . أمّا وقد انتهيت منه واصبح جاهزا للتحميل في صفحة "علم عروض قضاعة" على الفيسبوك؛ فسأعمل في الفترة القادمة على اكمال الجزء الثاني من هذه المقالة.
    ودمتم

  6. #6

  7. #7