جاء في البحث المعنون بـ " تقاطع عَروضَيّ الخليل وقضاعة" للأستاذ الكريم خشان (1)، بعض الملاحظات؛ قد تساءل فيها عن رأي صاحب عروض قضاعة بشأنها, كما أنّ هناك ملاحظات لي على بعض ما ورد في بحثه المصغر هذا عن عروض قضاعة، قد اتركها لمشاركة أخرى.
(1): رابط البحث المذكور للأستاذ خشان لمن يريد الاطلاع عليه: https://drive.google.com/file/d/1tbh...zGgtOSdK_/view
فقد ذكر الأخ خشان أنّ الخليل وأبي الطيب البلوي متفقان على مرجعية العرب المعتد بنظمهم؛ وهذا كلام صحيح. فشعر العرب المعتد بنظمهم، هو المؤهّل كي تُستخرج منه القواعد الصوتية والإيقاعية عند إقامة نظام عروضي عربي له قوانينه العقلية.
لكن الأخ خشان بعد أن أورد نقولاً عن هذه القضية، تساءل قائلاً: تبقى معرفة رأي صاحب عروض قضاعة في موافقته أو اختلافه مع الخليل بل الإجماع؛ حول من يُعتدّ بهم في اللغة عامة. والعروض والشعر ليسا بدعاً في اللغة كما قال.
وأقول (أبو الطيب) رداً على جملة الأخ خشان بأن (العروض والشعر ليسا بدعاً في اللغة): إنّ الشروط التي فرضها اللغويون العرب على أنفسهم فيمن يؤخذ بلغته من العرب وممن لا يؤخذ بلغته منهم، هي شروط صارمة، إذ قد جاءت دفعاً لشبهة فساد لغة من كثرت مخالطته للأعاجم، فيتسرّب ذلك لمباحث اللغة العربية من نحو وصرف.
ومع أنّ معرفة اللغة تسهّل على الباحث العروضي أبحاثه العروضية، لكن واقع العروض يختلف تماماً عن واقع اللغة؛ فالعروض هو قوالب صوتية إيقاعية لا يعنيها من أمر اللغة إلّا انسكابها في هذه القوالب. وقضية أنّ نطق الكلام العربي نطقاً صحيحاً أم ليس بصحيح، وكذلك قضية كون إنشاد الشعر إنشاد صحيح أم رديء؛ وكلا هذين الأمرين على علاقة باللغة؛ هي قضية منفصلة عن حديثنا هذا.
وحتى تتضح هذه النقطة بوضوح تام فتزال شبهتها، لنفرض أنّ صاحب عروض قضاعة قد تصدى لدراسة العروض الفارسي، لمعرفة مدى التقاءه مع العروض العربي أو اختلافه عنه، من وجهة نظره؛ فلن يستلزم ذلك إلّا بالتعرف على فارسي متقن للغته عارفاً بعروض قومه، فيزودني بالترميز الصوتي للقوالب التي مضى عليها شعرائهم؛ وإذا لم يكن الشخص المعني عارفاً بالعربية من اجل التواصل بيننا، فيستعان بطرف ثالث كمترجم، فينحل هذا الإشكال وتختفي بذلك هذه الشبهة.
ثم أنّ مباحث النحو والصرف وكذلك معاني المفردات، لا تلتقي بالضرورة مع مبحث العروض؛ فالعروض لا يقيم وزناً للمفردات لأن سلاسل الشعر العربي سلاسل متصلة (قراءة مدرجية). فالكميات الوزنيّة الإيقاعية التي يقاس بها عروض الشعر العربي، سواء كانت أجزاء نظام الخليل الثمانية لفظاً والعشرة حكماً، أم انساق قضاعة الأربعة؛ قد تتضمن الكمية الواحدة منها مفردة كاملة وقد تزيد عليها أو تُنقص عنها.
ولذلك، فاللغة ليست علامة فارقة في العروض العربي؛ فالباحث العروضي إذا واجه مفردة لغوية اعتاص في ضبط تشكليها؛ فلا يعنيه معناها اللغوي إنما يعنيه ضبط تشكيلها لأنه هو المؤثر على استخراج الترميز الصوتي الصحيح لها. وكل ما عليه لحل هذا المعضل هو تجاهل هذه المفردة والانتقال للشطر الثاني أو للبيت الثاني، أو لقصيدة أخرى على نفس القالب؛ من اجل استخراج الترميز الصحيح للشطر من اجل محاكمته إيقاعياً؛ وتمهيداً لضبطه بقاعدة إيقاعية إن كان ثمة قاعدة تقف خلف ذلك.
أمّا الباحث اللغوي فلا يستطيع ذلك لأن هذه المفردة اللغوية هي مدار اهتمامه أولاً وأخيرا، أي معناها أو ضبط تشكيلها الصحيح، أو الناحية الصرفية لها أو الإعرابية؛ فإذا قام الباحث اللغوي بالبحث في الشعر، فلا يسعه إلّا البحث عن هذه المفردة اللغوية بذاتها مهما كانت طبيعة القالب الشعري الذي حواها.
والخلاصة أنّ الباحث العروضي عندما يحاكم النص الشعري عَروضياً، لا تعنيه جودة اللغة ولا الصورة الشعرية فيها؛ إنما يعنيه فقط دلالته الصوتية المجردة عن اللغة، ومِن ثم دلالته الإيقاعية. وبالتالي، فلا يشترط في قضية العَروض ما اشترط في قضية اللغة، فلا يشترط في العروض سوى أن يكون الشاعر محسوباً على العصر الجاهلي والمخضرم والإسلامي والأموي؛ على ما فعل الخليل. (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 161). وذلك من اجل ضمان أن يكون النظام العروضي المزمع إنشاءه عقلياً، منطبقاً عليه توصيف كونه نظام عروض عربي خالص.
والخليل قد أدرك ذلك، فقد رأينا أنّ عدي بن زيد العبادي (جاهلي)، قد كان من ضمن الشعراء الذين كانوا محل استشهاد الخليل (2)، مع أنه من سكان الحيرة في العراق الخاضعون لحكم الفرس المخالطون لهم؛ وفوق ذلك هو من نصارى العرب. وشعر عدي بن زيد العبادي ينطق بكلا هذين الأمرين.
(2) الشاهد المقصود هو [17 - رُبَّ نارٍ بِتُّ أرمُقُها ..... تَقضِمُ الهِنديَّ والغارا]. ومنهم من ينسب هذا البيت لعدي بن الرقاع العاملي (أموي)، لكنه من أهل دمشق المخالطون للنصارى غير العرب، والمخالطون لغسان وإياد وقضاعة في الشام الذين لم يؤخذ اللغويون عنهم اللغة لمخالطتهم الروم. أي أنّ المانع من الاستشهاد بهذا البيت حاضر في كلا الاحتمالين؛ لكن هذا لم يمنع الخليل من الاستشهاد به لأنه يدرك أنّ واقع العروض يختلف تماماً عن واقع اللغة كما قلنا، فلا يشترط فيها إلّا ما ذكرنا.
نتابع: وقد زاد صاحب عروض قضاعة شرطا آخر في نظامه ألزم به نفسه، وهو أنه عدا عن الشرط بكون الشاعر يجب أن يكون من العصور المستهدفة، وصولاً لعصر بين الدولتين ولعصر الخليل نفسه؛ فيجب أن يتوفر في الشاعر المعاصر الخليل انتفاء مظنة تأثره بتقريرات نظام الخليل، وهذا الشرط ينطبق على أبي العتاهية المعاصر للخليل.
والدافع الداعي لهذا الشرط هو أنّ المادة الخام محل البحث، والتي هي محل اهتمام صاحب عروض قضاعة؛ يجب أن تكون خالية من تأثيرات أيّ نظرية عروضية سابقة عليه تعاملت مع نفس هذا الواقع؛ فعروض قضاعة هو نظرية عروضية قائمة بذاتها، منافسة لنظرية الخليل وليست تابعة لها؛ حتى لو التقت النظريتان في بعض الأمور، التقاءً شكلياً في بعضها أو التقاءً حقيقياً.
ومع أنّ الخليل كما رأينا قد فطن لكون أنّ واقع العروض يختلف تماماً عن واقع اللغة، لكني أعيب عليه وعلى طبقته، معاملتهم شواهد الشعر معاملة شواهد اللغة في بعض الأحيان، وذلك من جهة أنّ الشاهد الواحد في العروض يعتبرونه شاهداً كافياً على الناحية الإيقاعية أو الصوتية. (3)
(3) انظر كدليل على ذلك شواهد الخليل عن الإدماء في الكامل والوافر، والتي استغرق "الإدماء" فيها كل البيت فانقلب الإيقاع إلى الرجز والهزج (الإدماء: أي الزحافات التكافؤية المختلطة، وهي: الوقص والخزل في الكامل، والعقل والنقص في الوافر).
وانظر كذلك ما قاله الأخفش عن بيت شعر مفرد لابن الرُقيّات (أموي)، عند مناقشته لأحد تقريرات الخليل الباطلة بنظر عروض قضاعة، هذا التقرير الذي زعم الخليل فيه أنّ السبب الخفيف الوهمي المتخلف عن صناعة الوتد المفروق الوهمي بدوره، يجوز عليه الزحاف [زحاف الكف الباطل على "لن" من (مستفع لن)]؛ كيف أنّ الأخفش علّق قبول أو رفض هذا الزحاف على قضية اللغة، فقد قال: {ولم نجد ذهاب نون (مستفع لن) إلّا في شعر لابن الرُقيّات، وزعموا أنه كان سبق اللّـحن، فمن جعله إماماً جوّز حذف نونها، ومن لم يجعله إماماً لم يجوّز حذف ذلك} (العروض للأخفش، ص 155).
أقول (أبو الطيب): فشواهد الشعر لا تعامل معاملة شواهد اللغة، ذلك أنّ الناحية العروضية وكذلك الناحية الصوتية من ضمنها؛ لا تستنج إلّا بالاستقراء الكلي للظاهرة عند أكثر من شاعر؛ ذلك لأن الناحية الإيقاعية على الأخص، لا تستنج من الأبيات المفردة، ثم أنّ القرائح غير معصومة؛ ولأن سلامة اللغة مقدمة على سلامة الإيقاع فيما لو تعارضا.
فإذا كانت العرب في كلام الحياة اليومية كما قال ابن جني، قد تحملُ على ألفاظها لمعانيها حتى تُفسد الإعراب لِصِحّة المعنى (المحتسب، ج 2، ص 211)؛ فما بالك إذا كان ذلك في كلام الشعر الضاغط على القريحة الشعرية عند سكبه في القوالب المتوجة بالقافية، فهي ستضحي بالإيقاع أو بجودته المفترضة، من اجل سلامة المعنى فيما لو تعارضا.