الدخان

الدخان
قصة بقلمي

قتل صديقه في غمرة من تأثير مخدر قوي.استدان، منه وأكل عليه ماله. فكان أن أجهز عليه وهو في سكرة النشوة المزيفة.
يشعر الآن بأن عيني رفيقه القتيل معلقتين في عينيه ، وتغوصان كخنجرين في جمجمته، فأحس بدوار رهيب.
@@@
مشى متثاقلا في طريقه نحو اللاماكان ؛قاتلا هاربا ,ومفلسا غير مبال بشيء مما حوله. لكنه غير نادم على ما فعل.
لقد فعل فعلته، وكأنه يشعل سيجارته الرخيصة، المحشوة بذلك المخدرالبشع، كرأسه المحشوة بالهلاوس والأوهام.
وباللاشيء.
$$$
انحنى نحو طريق محطة القطار؛ إذ اعتاد على ركوبه في كل الأزمات والأوقات سعيدها وحزينها . فمنذ طفولته البائسة، كان القطار هو الملاذ، من ضيق العيش و النفس إلى مصدر لكسب سهل، وبابا لرحابة السفر.كانا صبيين ، يعدان من الصبيان المشاغبين. يسكنان قرب مزلقان القطار. هناك حيث يهديء من سرعته ، ليمر فوق جسر قديم متهالك.فتسنح حينها الفرصة للصبية المشاغبين أن يتسلقوا سلالم الأبواب، وما هي إلا لحظات حتى يكونوا قد انزلقوا داخل عربات قطار الضواحي.ربما يخرجان بشيء يخطفاه، حقيبة صغيرة، طعاما أو فاكهة ، طاقية أو شال أو نظارة شمسية، أو حلية ذهبية،وعند المنحنى ، يقفزان إلى خارج القطار، ويذوبان عند الساقية المهجورة.
$$$
كان القطار للصبيين، متعة المغامرة، وفسحة الحرية المنفلتة. وها هما قد صارا شابين ناضجين، لكل أسرة وزوجا وعيال.اشتهرا بالقسوة، والانفلات ،والإجرام،واقترفا الكثير من المال ؛ فكانا سرعان ما يقضيان عليه إنفاقا وتبذيرا.
يمارس الواحد منهم هوايته الضالة، بين مسافرين جبناء. يستسلمون له ، ويسلمون ممتلكاتهم طواعية بمجرد ظهوره أمامهم شاهرا سكينه الغادرة.. فيستمتع بسلب ما معهم بالإكراه.
$$$
تلعثمت خطاه، وما زال دفء رقبة صاحبه في يديه، يثير قشعريرة مخيفة في كل كيانه.
فليلق إذن بنفسه داخل ذلك الوحش الحديدي ؛ وليذهب به القطار, إلى حيث يشاء القطار.
$$$
ركاب ؟؟؟ سخر في سره!!
( كلهم لصوص وحشاشون ، مغيبون).
(كلهم كلاب .. يحرقون نقودهم ،وأرزاق عيالهم نظير متعة غبية ). تجار لصوص،وشباب تافه، وفلاحون خبثاء.
$$$
على مقعد نصف سليم، ألقى بجسده المتهالك ككومة من القش، وغاب ذهنه في تهاويم تلك الليلة الخبيثة!
$$$
ما هذا الوخز الذي في صدره؛ يؤلمه بشدة !
وجه ابنته ذات السنوات السبع، لقد ردها حزينة باكية، إذ لم يمنحها مصاريف المدرسة، منكرا امتلاكه لأي نقود، وقد أبى إلا أن يردها خائبة، مهددا وزاجرا إياها بالصفع والركل.
وجهها الباكي ينهش ما تبقى من ضميره المريض، دموعها تحرق كيانه كله.
$$$
ذهب إلى صاحب طفولته العفنة ، ورفيق صباه المنكود؛ إلى حيث جلستهما المسائية
.التي تمتد حتى الفجر عند الساقية المهجورة، قرب شريط السكة الحديد ، هناك، في الحقول المتطرفة ، يتوهان معا في سحابات وتهاويم دخان الوهم الأزرق. إنها ابنته التي رغم كل شيء يحبها كثيرا، وتذكر أن له دينا على رفيقه الذي طالما يماطل في السداد منذ شهور.قص عليه حاجته، واحتدا في الحديث، حتى صاح صاحبه في تحد، منكرا دينه، مستهينا به ، ( ما أخذت منك شيئا وأعلى ما في خيلك اركبه.)
$$$
كانت كفاه المعروقتان تلتلفان كالقيد الحديدي حول عنق رفيقه المدين؛ وأصابعه الخشنة تخترق ثنايا عظام وعروق رقبته النحيلة، حتى تكادان أن تنتزعا عظامه من لحمه.
$$$
حين التقت عيناه بعيني قتيله الجاحظتين، انتفض على دوي قطار الليل، وانطلق هاربا، تاركا إياه خلف تلك الساقية المهجورة بالقرب من شريط السكة الحديد.
$$$$
هو يعلم تماما أن سائق القطار لا يمكنه قيادة ذلك الوحش الحديدي لساعات طويلة، دون أن يتعاطى الحشيش وبشراهة، ليس فقط السائق الخبير ، بل أيضا مساعده وميكانيكي تلك الآلة الهادرة.كل الناس يعلمون ذلك.ولقد شاهد ذلك بأم عينيه في غير قطار. حتى أصبحت تلك المعلومة وذلك الأمر بديهيا ، بين الركاب.
$$$
كان القطار يتهادي متمايلا كسكير ثمل، فوق الشريط الحديدي.
وكان الغبار المعبأ برائحة الروث يجتاح عيون الركاب ووجوههم،عبر النوافذ المهمشة.
&&&
هو يعلم بخبرته، أن كثيرا من ركاب القطار أيضا، يتعاطون المخدرات ، بل جميعهم على اعتبار أنها إكسير السعادة المنشودة، لذا فإن منهم الكثيرون الذين يتاجرون فيها بين العربات ،والمقاعد لزبائن يركبون وزبائن ينزلون.
حتى أصبح ذاك القطار سوقا نموذجيا ،وشهيرا لبضائع الوهم الرائجة.
ورغم المجهودات المضنية لدوريات راجلة من المخبرين ، الذين يقومون بالتفتيش بين محطة وأخرى، إلا أن العفاريت تعرف كيف تتفادى التفتيش المفاجيء ، بإلقاء ما في أيديها وجيوبهمأ والإطاحة به من نوافذ القطار المسرع.
كما أن كثيرا من ضعاف النفوس ، يتواطأ مع أولئك الشياطين، خوفا أو طمعا.
&&&
بدا ركاب القطار وكأنهم في نعاس هاديء، على وجوههم المصفرة ابتسامات بلهاء، أشباه أجساد ملقاة بإهمال على مقاعد متهالكة. لا يكلم بعضهم بعضا. لا يثرثرون ، كما هي عادة ركاب القطارات. كان الصمت يلفهم رغم ضجيج عجلات القطار فوق الشريط الحديدي.لم يجد في نفسه أي رغبة، في أن يستلب أيا منهم ساعته أو حافظة نقوده!
وإنما انزوى خلف مقعد مهجور، وأسلم دقات قلبه المتسارعة، لتسابق عجلات القطار: في ارتطامها الصاخب العنيف بالشريط الحديدي.
$$$$
في قمرة القيادة، كان السائق ومساعدوه ، يقيمون احتفالا تخديريا ، يتبادلون فيه اللفائف المنتفخة بالمخدرات، وتعلو أصواتهم بأغنيات شعبية ركيكة. ويحتويهم دخان مختلط بدخان الآلات وغبار السكة الطويلة.
$$$
السائق وتابعوه، يغيبون في سكرة طويلة ونشوة مميتة. لا أحد يؤتمن الآن على عجلة القيادة. الركاب نائمون في استسلام غريب. حتى أنهم لم يعبأوا بتجاوز القطار لمحطاتهم المقصودة. على حين كان القطار يندفع بسرعته الجنونية الحمقاء، نحو المجهول.

قتل رفيقه غير نادم على ما فعل ـ فالمخدرات جعلته غير مدرك لما يفعله
سلبته إنسانيته فاندفع كالثور الهائج وقد سيطرت عليه وتملكت منه رغبة شيطانية في القصاص
وكم من جرائم بشعة يرتكبها مدمن المخدرات من سرقة وهتك عرض واغتصاب وقتل
وهو مغيب العقل فيفعل ما يفعل بدم بارد وضمير ميت.

صورة سوداوية لقطار كامل معظم ركابه من المتعاطين والمخدرين ، بل يصل الأمر
أن يكون السائق ومساعدوه هم أيضا مغيبين في سكرة طويلة ونشوة مميتة.
وكم سمعنا عن قطارات رحلت بركابها وبما حوت في حوادث دموية ومأساوية.
لما أشعر بأن في القصة نوع من الإسقاط السياسي على البلاد وما تسير فيه وإليه
أهو إلى الخير أو إلى المجهول.
ولك تحياتي وتقديري.

تحياتي العاطرة أ. نادية
زمن التغييب، والسير نحو المجهول.
نعم سيدة الحرف النبيل.

المخدرات آفة خطيرة تكرها كل القلوب وتشمئز منها كل النفوس
سم أبيض يؤدي إلى موت الإنسان وهو على وجه الحياة وتسرق من الشباب حاضرهم ومستقبلهم
تجرد الإنسان من خلق الحياء فيرتكب الموبقات ويخسر الدين والدنيا والآخرة.
قصة عميقة الطرح ألقت الضوء على هذه الآفة التي تفشت وعم شرها فكم جلبت من نقمة
وكم أوقعت من بلية وكم عجلت من منية.
شكرا لك على نص عميق المغزى ، حيك بقلم هادف وبأسلوب ممتع.
ولك تحياتي وتقديري.

نعم أ. أسيل
آفة يتقف وراء كل آفات المجتمع. يد خبيثة تنزع المروءة من القلوب. وتدمر الضمير ، وتحيل الإنسان إلى ألعوبة في يد كل شيطان رجيم. فيعود ذاك على المجتمعات جرائم ونوازل ومصائب.
تحيتي لتواجدكم الراقي.وشعوركم النبيل.