ظاهرة الزحاف وتضليل مصطلح الساكن للعقل

يستند الخليل في تفسير ظاهرة الزحاف على حذف الحرف الصوتي، وعلى الأخص حذف الساكن منه. فالحرف الصوتي ذو شقين، متحرك وغير متحرك، فهذا ما يطيقه عضو النطق البشري.
(1) قال الأخفش (ت/ 211 هـ) تحت عنوان (هذا باب تفسير الأصوات): { اِعلَم أنّ الكلام أصوات مؤلفة، فأقل الأصوات في تأليفها الحركة، وأطول منها الحرف الساكن، لأن الحركة لا تكون إلّا في حرف ولا تكون حرفاً، والمتحرك أطول من الساكن لأنه حرف وحركة، وقولهم (ساكن): أي لا حركة فيه. **، وأقل ما ينفصل من الأصوات فلا يوصَل بما قبله ولا بما بعده، حرفان. الأول منهما متحرك لأنه لا يُبتدئ إلّا بمتحرك، والثاني ساكن لأن كل ما تقف عليه يسكن. ولا تصل إلى أن تُفرِد من الأصوات أقل من ذا. **، ولا تزيد أقل من ذا، لأنك إن زدت الحركة لم تقدر عليها في الانفصال لأنها تعتمد على ما بعدها}. (العروض للأخفش، ص 142). وراجع: (سر صناعة الإعراب، ج1، ص 32)، (الجامع في العروض، ص 56، لأبي الحسن العروضي). وراجع: (الحركة والسكون عند الصوتيين العرب وتكنولوجيا اللغة الحديثة. مجلة مَجمَع اللغة العربية بالقاهرة، العدد 88، 2000م)- عبد الرحمن الحاج صالح - رئيس مجمع اللغة العربية السابق بالجزائر، رحمه الله. وانصح بشدة بقراءة هذه الرسالة.
والقدماء يطلقون على الحرف غير المتحرك مصطلح الساكن أينما كان موقعه، لكن الساكن مصطلح مضلل للعقل؛ ذلك أنّ هناك فرقاً بين القراءة المفصلية والقراءة المدرجية، وبالتالي فهناك فرق في طبيعة الحرف غير المتحرك ومواقعه في كلتا هاتين القراءتين.
إضاءة: القراءة الصوتية في عروض قضاعة [أو في نواة علم الأصوات العربي]، هي قراءة تهتم بالمنطوق فقط، أي بعيداً عن أوهام الإملاء. وهي تنقسم إلى قسمين، القراءة الـمَفصِلية والقراءة المدرجـيّة.
فـ (الـمَفصِل) الذي أُخذت القراءة الـمَفصِلية منه مسمّاها، هو مصطلح عام نكرة يشير لكل كلمة لغوية دخلت في السلسلة الـمفصلية، سواء كانت الكلمة اسم أم فعل أم أداة، فجرى قراءتها صوتياً منفصلة عن بعضها في السلسلة. [كما في جملة: (إذا / كانَ / فِـيْ / اَلسّماءْ)]. أمّا القراءة المدرجـية، والتي هي معهود الناس في كلامهم اليومي، في العربية وفي غيرها، وكذلك في سلاسل الشعر العربي بصفته مؤلف من كلام متصل؛ فإنّ الحدود بين الفواصل اللغوية تكاد تغيب غياباً تاماً، نتيجة اتصال المفردات اللغوية ببعضها البعض من كلا طرفَـيّ المفردة، أو ربما من طرف واحد. [كما في الجملة السابقة إذا قُرِأت مفرداتها متصلة: (إذَا كَانَفيِسَّمَاء)].
واللغويين العرب قد أدركوا مفهوم هاتين القراءتين لكنهم لم يمنحوها أسماء مخصوصة، يتضح هذا في عبارة (درج الكلام - الإدراج) المستخدمة في كتبهم (الجامع في العروض والقوافي، ص 58)، في إشارة للقراءة المدرجـية؛ وعكسها المفهوم ضمناً، ألا وهو القراءة الـمفصلية.
وتأتي أهمية اختراع هذين المصطلحين، غير الاختصار؛ في أنهما مصطلحان ضروريان للعقل عند التفكير، وللنص عند التسطير. فالقراءة المدرجـية منها ما هو مقبول ومنها ما هو مرذول. والقواعد الكتابية لإملاء اللغة منصرفة للقراءة الـمفصلية؛ أمّا قواعد قراءة إملاء اللغة، وكذلك قاعدة التقاء الساكنين عند العرب؛ فمنصرفة للقراءة المدرجـية بشكل أساس؛ أي كيفية تحويل القراءة الـمفصلية إلى قراءة مدرجية.
ومع أنّ مصطلح (القراءة والكتابة العروضية)، في نظام الخليل يهتم أيضاً بالمنطوق فقط، إلّا أنه لا يستطيع أن يقوم مقام هذين المصطلحين لاختلافهما عنه، ولأنه مربوط في الذهن بفكرة الأجزاء وما تألّف منها في نظامه.

فمصطلح الساكن مصطلح مضلل للعقل، ذلك أنّ الحرف غير المحرك في حشو المفردة اللغوية في القراءة المفصلية، وكذلك في حشو السلسلة المدرجية، يختلف تماماً عن الحرف غير المحرك نهاية المفردة اللغوية، ويختلف أيضاً عن الحرف غير المحرك في نهاية السلسلة المدرجية؛ حتى لو اشتركا بصفة عدم التحريك.
فعضو النطق في الحالة الأولى متلبّس بإنتاج الكلام، أمّا في الحالة الثانية فهو قد انتهى من إنتاج الكلام. ولذلك فالحرف غير المحرك في الحشو كأنه لا ساكن ولا متحرك [سكون عابر]. أمّا في نهاية ما ذكرنا، حيث موضع الوقوف؛ فهو ساكن على الحقيقة. وهذا ما انتبه له ابن جنّي (ت/ 392 هـ)، لكنه مع الأسف لم يتابع هذا الاكتشاف فلم يستثمره؛ فكأنه كان ومضة في ذهنه ما لبثت أن انطفأت. وستدرك بعد قليل أهمية هذا التفريق.
(2): قال ابن جني: {**، وأمّا إن كانت عين الثلاثي ساكنة [في فعل الصرفية]، فحديثها غيرُ هذا. وذلك أنّ العين إذا كانت ساكنة فليس سكونها كسكون اللام. وسأوضح لك حقيقة ذلك لتعجب من لُطف غموضه. وذلك أنّ الحرف الساكن ليست حاله إذا أدرجته إلى ما بعده، كحاله لو وقفت عليه.**}. (ص 57). ثم يصل ابن جني لهذه النتيجة المبهرة التي وصلت لها أنا أيضاً، قال: {**، فإذا ثبَتَ بذلك أنّ الحرف الساكن حاله في إدراجه مخالفة لحاله في الوقوف عليه، ضارع ذلك الساكن المحشوُّ به المتحرك؛ لَما ذكرناه من إدراجه، لأن أصل الإدراج للمتحرّك إذ كانت الحركة سبباً له وعوناً عليه؛ **. فصار الساكن المتوسط لَما ذكرنا، كأنه لا ساكن ولا متحرك [سكون عابر]. **، ومما يدلك على أنّ الساكن إذا أُدرِجَ ليست له حال الموقوف عليه، أنك قد تجمع في الوقف بين الساكنين؛ نحو: بَكْرْ وعَمْرْو}. (الخصائص، ج 1، ص 57 - 58، 60).
وعليه، فهذا يستدعي منا بعد انكشاف هذا الواقع الذي كان مغفولاً عنه، أن نصنع اسماً للحرف غير المحرك في الحشو، مغاير لاسمه في موضع الوقوف؛ وهما الساكت والساكن. فالساكت لا يكون إلّا في حشو المفردة اللغوية وحشو السلسلة المدرجية. أمّا الساكن فلا يكون إلّا في نهاية المفردة اللغوية في القراءة المفصلية، وفي نهاية السلسلة المدرجية.
وهذا يستدعي منا أيضاً أن نصنع اسماً جامعاً لكل منهما يستخدم عند التعميم. وهو مصطلح (السُبات- الحرف السابت)؛ فالحرف السابت على ذلك هو إمّا ساكت وإمّا ساكن. فاللغة وعاء العقل، والعقل يحتاج المصطلحات العامة غير المخصصة (النكرة)، بنفس درجة احتياجه للمصطلحات المخصصة.
وقد اقترحت أن يكون شكل علامة تنقيط السكون المتعارف عليها سابقاً ( º )، تختص بالحرف الساكت، مع تسميتها بعلامة السكوت بدلاً من علامة السكون، فقد مضت الكتب على ذلك في استعمالها. أمّا الحرف الساكن فيستحدَث له علامة خاصة، واقترح أن تكون هذه ( Ø )؛ وهي دائرة صغيرة يقسمها خط. فهذا السكون لا يكون إلّا نهاية الكلام، وهو موضع معروف، فلا ضرورة لوضع هذه العلامة عنده إلّا من أجل ناحية تعليمية أو تأكيدية.
ويأتي هذا التفريق بين الساكت والساكن، ليفسر لنا ظاهرة الزحاف التفسير الأقرب للصواب على ما اعتقد؛ فالشعر العربي هو سلاسل صوتية مدرجية تقتصر على السواكت في الحشو، ويتموضع الساكن في نهايتها فقط. وعلى ذلك فإن تفسير ظاهرة الزحاف بالاستناد على فكرة حذف الساكن هو موضع شك، لأن الشاعر كان أجرى قاعدة التقاء الساكنين مسبقا على شعره، فخلصه من سواكنه وأبقى على سواكته، إلّا الساكن الأخير نهاية السلسلة الصوتية لأنه موضوع الوقوف حيث مكان الساكن.
فأي نعم أنّ الظاهر للعين هو حذف للحرف الساكن، لكنه حذف لا حقيقة تحته؛ تماماً كقضية دوران الشمس حول الأرض للمقيم عليها، لكن الحقيقة أن الأرض هي من تدور حول الشمس.
فليس هناك حذف لا للسواكن ولا للسواكت لأن الشعر العربي سلاسل مدرجية متصلة. والتفسير الأقرب للصحة بنظري هو أنّ الحاصل هو دمج للوحدات الصوتية ببعضها بكيفية معينة. وفكرة المقطع (syllable) التي يقول بها الأصواتيين (Modern Phonetics) هي فكرة ثبت فشلها على أكثر من جبهة؛ فلا يمكن بها تفسير ظاهرة الزحاف في الشعر العربي، ولا حتى تأصيل دقائق الشعر العربي بالاستناد عليها. وهذا الذي قلته هو من مكتشفات (علم عروض قضاعة). فعَروض قضاعة هو نظرية صوتية عروضية قوية، يزعم صاحبها بأنها تتفوق على نظرية الخليل بمراحل.
صفحة "علم عروض قضاعة" عللا الفيسبوك:
https://www.facebook.com/profile.php?id=100064165384110