اهتمام شعراء العرب بمنطقة بين الشطرين - أحكام الـمِهاد:
قلنا في مقالة سابقة أن عَروض قضاعة معنيّ بإيقاع الشعر العربي الجاهلي وما سار على نهجه حصراً؛ تماماً كما فعل الخليل. وقلنا أيضاً أن نظام الخليل العروضي قد قام على قدر ما وصل للخليل من قوالب شعر العرب؛ وهذه القوالب هي ما شكلّت كيان نظامه، النواة وغلافها؛ بحيث انه إذا استُدرك قالب على نظامه من العرب المعتد بنظمهم، ولم يكن له مكان في نظامه، تخلخل نظامه وصنّف هذا القالب بأنه من الشواذ ظلماً. أمّا في نظام قضاعة فالأمر مختلف، فنظام قضاعة قام على القواعد الصوتية والإيقاعية التي سارت عليها قرائح العرب، سواء وردت القوالب موثقة عنهم أم أبدعها شاعر معاصر لم تخالف أصولهم.
ومن ضمن هذه القواعد التي راعها العرب هي أحكام بين الشطرين، وعلم عَروض قضاعة يهتم بمنطقة بين الشطرين انعكاساً لاهتمام شعراء العرب بها. وهو يسمّي هذه المنطقة المِهاد كاسم عام، بدل مصطلح (بين الشطرين) الجامد.
هذا وقد توسّع عَروض قضاعة في مسمّى المهاد ليضم إليه طرفَـيّ المهاد، واللذين هما جرس الصدر وأوّل وتد أولي في العجُز؛ فهما المعنيان بقضية أحكام الـمِهاد، وسنرجع بعد قليل لنوضح هذه النقطة. والـمِهَاد لغةً: الأرض المنخفضة المستوية، وكذلك قاع البحر أو النهر (المعجم الوسيط ص 889). فهذا المعنى اللغوي مناسب للدلالة اصطلاحياً على منطقة بين الشطرين في العَروض.
(1) : كل علم جديد له مصطلحاته الخاصة به، منبثقة من رؤية صاحب العلم لماهية الشيء الذي تصدى لدراسته. وحيث أن مصطلحات نظام الخليل جامدة لا تحقق الغرض الذي يسعى له صاحب عروض قضاعة، وذلك لاختلاف النظريتين عن بعضهما في كثير من الأمور (نظرية الخليل ونظرية قضاعة)، فقد كان مصطلح الجرس في نظام قضاعة هو البديل عن مصطلح العروضة والضرب في نظام الخليل، ولا بديل عنه. فمنطقة العروض (أو الضرب) في نظام الخليل، لا تتوافق دائما مع تحديد عروض قضاعة لمنطقة الجرس. والجرس في نظام قضاعة يتموضع بعد آخر وتد أولي في الشطر، وبشرط أن لا يكون هذا الوتد هو نهاية الشطر؛ فإذا كان هو نهاية الشطر، فالوتد الأولي الذي قبله هو المعني بذلك؛ ويرمز لهذا الوتد الأولي المقصود بالرمز (#) في السلسلة لإظهاره للعيان. والتعبير بمصطلحات نظام عن الجرس أدق من تعبيرنا عنه بمصطلحات نظام الخليل (راجع المنتج الجاهز لعروض قضاعة). ومع ذلك، سنظل نحاول في هذه المقالة استخدام مصطلحات الخليل لتقريب الصورة، ما أمكننا ذلك.
ولم يُول الخليل في نظامه أهمية محسوسة للمهاد، وذلك بسبب ضعف أساسات نظامه بما فيها فكرة الجزء الخاطئة؛ ولأنه أقام نظامه على حصر عدد الأعاريض وما لكل عَروضة منها من ضروب في البحر الواحد. فهذا جميعه عدا عن أنه أغنى الخليل عن الإشارة للقواعد الناظمة للمهاد العربي، فهو قد أدّى لعدم وجود دافع للبحث في موضوع المهاد في نظامه أصلاً وفصلاً (ظن ثاقب). لكن أبا الطيب يهتم بأحكام المهاد لكونها أحكاماً إيقاعية راعتها قرائح العرب كما سنرى (ظن عازم)؛ ولأنّ عروض قضاعة هو عروض القوانين التي سارت عليها قرائح العرب كما قلنا.
فعلى الرغم من أنّ الصدر والعجز في نظام القالب كلاهما كيان إيقاعي قائم بذاته موسيقياً؛ لكن هذا لا ينفي ارتباط شطرَيّ البيت ببعض كوحدة متكاملة ضمن القالب، فالبيت الشعري العربي وحدة متكاملة، ما يجعل المهاد العربي بحكم المتصل. وليس أدل على ذلك من التدوير الجائز فيه. وكل ما في الأمر أنّ المهاد يترافق معه سكتة توحي بنهاية الشطر الأول وبداية الثاني؛ تلبية للأحكام الإيقاعية المترتبة على ذلك، كالجرس والتقفية.
والعرب قد حرصت على أن لا يحدث خلال عبور المنشِد للمهاد، ما يؤدي إلى تخريب بداية إيقاع العجز على الأخص، والبيت ككل. فلكون أنّ المهاد متصل كما قلنا؛ فإنّ علل المهاد سيقع أثرها على مصفوفة العجز. والذي يؤدي لذلك هو تلوين جرس الصدر المستخدم، والشرم غير القانوني فيه؛ وكذلك تلوين السكون المضاف لنهاية جرس الصدر. وهذا هو سبب توسّع عروض قضاعة في ضم طرفَـيّ المهاد لمسمّى المهاد.
(2) الشرم في نظام قضاعة هو تعبير عام عن وقوف نهاية شطر الصدر على متحرك. أما التلوين فهو التغيير الذي يجريه الزحاف على تسلسل الجرس بالنظر لأصل الجرس الأولي، والتلوين على الأغلب ملزم، فهو الذي يجعل قوالب البحر الواحد تتعدد وتتمايز عن بعضها.
وقد فتّش أبو الطيب البلوي عن هذه المخرّبات للمهاد فحصرها وأطلق عليها مسمّى (عِلـَل المهاد)، وهي ست علل، ثلاث منها (عِلل إيقاع)، والثلاثة الأخرى (عِلل نَظم). منها ما هو مخصوص بالمهاد التكافؤي، ومنها ما هو مخصوص بالمهاد الخببي، ومنها ما هو مشترك بينهما. (3)
(3) البحور جميعها ما عدا الكامل والوافر وبحر الراقص (أي بحر الخبب)، هي بحور تكافؤية النظام، وهذا بعكس تلم البحور الثلاثة خببية النظام. وبالتالي، فالمهاد في تلك البحور الخببية الثلاثة هو مهاد خببي من حيث التوصيف، وفي تلك الأخرى هو مهاد تكافؤي. انظر الرسم البياني.
فقضية الشعر العربي هي قضية القوالب الموسيقية العالية الطراز، والتزام أحكام المهاد هو أحد طُرق تحقيق ذلك؛ فالقالب المعلول المهاد ليس قالباً عربياً على الإطلاق، حتى لو تحقّقت فيه باقي الشروط العربية بما في ذلك قاطع البحر (ظن عازم). بل أنّ أحكام المهاد هي التفسير الوحيد المتاح لسبب عدم ورود جميع احتمالات القوالب التي يتيحها كل تشكيل في البحر. وهو التفسير الوحيد المتاح لسبب تحوّل التلوين المتمازج إلى تلوين فردي مُلزم في جرس الصدر.
ومع أنّ العجُز بلا مهاد لأنه نهاية البيت، والمشطور كذلك بلا مهاد لأنه عَـجُز دون صدر؛ لكن الصدر المتلبّس بالقافية في نظام القالب له مهاد، لأنه ضمن نظام القالب وليس ضمن نظام المشطور (ظن عازم). فالتقفية والتصريع تترافق دائماً مع الأبيات المعلولة المهاد (ظن جازم)، فتعمل على إلغاء أثر علل المهاد المخرّب؛ ذلك أنّ حُـكم الصدر المتلبّس بالقافية كناحية مؤقتة، هو من حُـكم العجز المتلبّس بها كناحية ثابتة ودائمة؛ اللهم أنّ العجز بلاد مهاد، أمّا البيت المقفّى فذو مهاد كما قلنا.
 علل المهاد الستة:
1) علّة العُكْـرَة: علّة العكرة تعني تواجد أربع حتى ست أسباب خفيفة بين طرفَـيّ المهاد التكافؤي.
2) علّة العُسْرَة: علّة العُسرة تعني تواجد ثلاث حتى خمس أسباب خفيفة بين طرفَـيّ المهاد الخببي العُقدي، أي مع الكامل والوافر. أمّا الراقص الـخببـي النظام فلا تصيب مهاده علّة العُسرة؛ لأنه بحر لا عُقدي يقوم على نسق العود حصراً.
3) علّة العُسْفَة: علّة العُسفة محصورة بالوافر عند طول الأحدب. فلا يجب استحداث قالب للوافر يحتل فيه طول الأحدب صدر القالب؛ فالوافر الأحدب جرسه قنطرة خببية، والوافر نفسه يبتدئ بوتد أولي. وبالتالي، فما سيجتمع على طرفَـيّ المهاد في هذه الحالة هو أثر قنطرة معقودة، وهذا أثر صوتي للإدماء المرفوض. أمّا استخدام طول الأحدب في العجز فلا شيء فيه لأن العجز بلا مهاد كما قلنا، فلا تصيبه علل المهاد لأجل ذلك.
4) علّة العُتـَّه: تنتج علّة العُتّه عن استخدام تلوين السكون مع جرس الصدر من غير تصريع. وهي علّة مهاد حياديّة، إذ أنها قد تحصل في مهاد تكافؤي وقد تحصل في مهاد خببي.
5) علّة العُـفْرَة: تنتج علّة العُفرة عن شرم الخطوة الخببية من غير تقفية ولا تصريع [علّة شرم]. فنظام الخبب الصوتي لا يطيق الشرم عموماً، لأنه يتعارض مع طبيعته القائمة على استبدال الوحدات الصوتية فقط، ولأن الشرم بعض آلية عمل قانون التكافؤ الصوتي. (4)
6) علّة العُـقْرَة: العُقرة علّة مهاد حياديّة. وهي تنتج عن شرم أيّ من الوحدات الصوتية الثلاث غير السبب الخفيف، من غير تقفية ولا تصريع [علّة شرم]. وهذا ممنوع في كلا النظامين الصوتيّـين، أي التكافؤ والخبب. (4)
(4) هذا مع ملاحظة أنّ هناك تراكيب لغوية مخصوصة إذا وردت في نهاية الصدر، فتشبع حركتها الأخيرة تلقائياً، أي دون حضور التقفية والتصريع؛ فالشرم بوجودها معدوم الواقع. وهذا من مثل حركة ضمير الغائب ( لَـهُ ، مِنْـهُ )، وميم الجمع ( لَكُـمُ – عنكُمُ ). وبالتالي، فعلل الشرم الاثنتين، العُفرة والعُـقرة؛ إذا وقعت مع مثل هذه التراكيب، فلا تعتبر من قبيل علل المهاد [لا تعتبر من قبيل علل الشرم].
وهذا التصنيف إلى علل إيقاع وعلل نظم، راجع للفرق بين مفهوم القالب ومفهوم البيت، أي راجع للفرق بين القالب القياسي وبين مخرجات النظم على القالب في الأبيات. فقد تكون علّة المهاد مبنية في صلب القالب، أي في جملة وصفه؛ وهذا باطل طبعاً. وهذا أكثر ما يحصل إنما مع علل الإيقاع؛ فعلل الإيقاع إذا بُنيت في أصل القالب صار معلولاً بها أصالة؛ أمّا علل النظم فمتعلقة بقريحة الشاعر عند النظم؛ أي كخلل في نظم الشاعر لكونه لم يأت بالتقفية أو التصريع ليزيل أثرها المخرّب في الأبيات.
وإذا تواجدت أيّ من علل المهاد الستة، في بيت يعود لقالب سليم المهاد في أصله، ودون تقفية أو تصريع تغطي عليه؛ فعيبه على الشاعر، ويصنّف البيت المعلول المهاد حينها بأنه مكسور كسر نَغَم مرفوض [وليس كسر إيقاع]، ذلك أنّ علل المهاد لم تُخرج شطر الصدر عن تبعيته للإيقاع الموصوف في جملة الوصف، أي لإيقاع البحر.
وقد قلنا في بداية هذه المقالة أنّ عَروض قضاعة قد توسّع في مسمّى المهاد ليضم إليه طرفَـيّ المهاد؛ الطرف الأول فيه هو جرس الصدر، والطرف الثاني هو بداية كل بحر في العجُز، هل بدأ بوتد أولي أم بنسق أم بشبيه نسق. ذلك أنّ تقدير وجود علل الإيقاع من عدم وجودها؛ في مهاد القالب المعيّن أو في مهاد البيت المعيّن؛ يُنظر فيه لأول وتد أولي في العجُز، بالتزامن مع النظر إلى جرس الصدر وتلوينه. وهذا يعني النظر إلى سلسلة العجز باعتبارها إيقاع أولي، وليس باعتبارها إيقاع ثانوي ناتج عن الزحاف. أمّا جرس الصدر فينظر إليه باعتباره ضمن الإيقاع الثانوي عند تقدير ذلك، فهل ورد على حاله الأولي أم ورد ملوّناً [جرس ثانوي الإيقاع]؛ فتعدين جرس الصدر وتلاوينه هما معضلة علل المهاد. انظر الأمثلة في كتيب (المنتج الجاهز).
وعلل المهاد ليست داءً عُضالاً في الأبيات وفي القوالب، لا شفاء منه دائماً وأبداً. ففي الأبيات المنظومة بهدي من جملة وصف القالب السليم المهاد، يمكن ورود جميع علل المهاد في الأبيات المقفّاة والمصرّعة، خاصة علل النظم؛ فهي ستلغي أثرها السيئ في الأبيات، فالبيت المقفى حكمه من حكم البيت السليم المهاد من غير تقفية.
أمّا في مرحلة صُنع القوالب، فيمكن تجاوز علل الإيقاع بثلاث طُرق. الأولى: من خلال التزام تلوين محدّد فردي للطالع في الصدر غير تلوين متروك، فالطالع المتروك في الصدر هو المتسبّب بعلل الإيقاع غالباً. ولذلك ففي حالة لم يكن الجرس يتيماً، فإنّ استخدام تلوين فردي للطالع غير تلوين متروك، أو استثناء تلوين متروك من تلوين متمازج ثلاثي كان ضمنه؛كفيل بتجاوز علل الإيقاع في مرحلة صُنع القوالب. ويجب النص على ذلك في جملة وصف القالب.
(5) الطالع مصطلح من مصطلحات نظام قضاعة لا غنى عنه. فقد سبق لنا في مقالة سابقة أن اشرنا إلى أن عروض الشعر العربي بنظر صاحب عروض قضاعة، قد قام على ثلاث انساق عُقدية فقط، وهي: نسق الفتلة (لا نعم)، ونسق القنطرة (لا لا نعم)، ونسق العنقاء (لا لا لا نعم). (راجع كتاب المنتج الجاهز لمزيد من التفاصيل). وطوالع الأنساق بناءً على هذه المقدمة البسيطة، هي القدر المتبقّي من النسق في موضع الجرس بعد الإنقاص منه بعلة القطع أو بالحذف المباشر، فهذا القدر يسميه عروض قضاعة (طالع النسق) كمسمّى عام نكرة، والجمع طوالع. وعلى ذلك فالطالع جرس بالضرورة لكنه ليس جرس نسق. فنسق الفتلة قد يحتل موضع الجرس فيكون الجرس فتلة (#، لا نعم). والفتلة في موضع الجرس لها طالعين، طالع الوتر وطالع الخطوة؛ فإنه إذا ثقبت عقدة الفتلة في موضع الجرس يتبقى منها خطوتان (#، لا لا) يسميهما نظام قضاعة وتر كمسمّى عام، فيكون الجرس وتر ناشئ عن نسق الفتلة. وإذا حذفت عقدة نسق الفتلة يتبقى خطوة ستكون هي الجرس (#، لا)، وهي طالع أيضاً. وهكذا بقية الأنساق.
والطريقة الثانية والثالثة: هو أنه إذا تعذر إزالة علّة الإيقاع من القالب بسبب أنّ الجرس يتيم، أو بسبب أنّ جميع تلاوين الجرس لا تستطيع إزالة علة المهاد، فلا يستخدم هذا القالب في النظم العربي، ذلك أنّ قوالب العرب سليمة المهاد في أصلها كما قلنا. والبديل عن ذلك مع المصفوفة التي تتسبب بعلة مهاد في الصدر ولا حل لها، هو استخدامها إمّا في عجز القالب، وإمّا في نظام المشطور، فالعجز والمشطور لا مهاد لهما كما قلنا، ولذلك فلا تصبهما علل المهاد.
فإذا تتبعنا قوالب العرب التي اضطرد النظم فيها، سواء تلك أثبتها الخليل في نظامه، أم تلك التي استدركت عليه استدراكا حقيقيا، فسنجد أنها ملتزمة تماما بأحكام المهاد على ما قررها نظام قضاعة. بل أن أحكام المهاد التي كشفها نظام قضاعة، قد أثبتت خطأ تأصيل الخليل لثلاثة قوالب في نظامه فيما يخص سلامة المِهاد فيها من العلل، فقد جعل الخليل العلل في صلب جملة وصف القالب. فعلى الرغم من أنّ الخليل قد راعى بقوة قضية الفصل بين مفهوم القالب ومفهوم البيت المنظوم بهديٍ من القالب (ظن عازم)؛ إلّا أنه أخطأ برأينا في تأصيل هذه القوالب، والشعر لا يقف بصفه في هذا التأصيل، هذا عدا عن الخليل لم يراع على طول الخط أن القرائح غير معصومة.
وسنكتفي في هذه المقالة بمثال واحد عن أحكام المهاد، محيلين القارئ إلى الكتيب التعريفي بعروض قضاعة لمزيد من التفاصيل عن هذا الموضوع (المنتج الجاهز)، وهو متوفر على صفحة علم عروض قضاعة على الفيسبوك.
فمثلاً: القطيف الخببي جرس حـر (متروك – مخبوب: # لا لا، نعمم)، وليس يحد من دلاله في العجز إلّا أحكام القافية العربية التي تمنع الجمع بين قافية السبب الخفيف وقافية غيرها، فتجبره في العجز إلى التحوّل إلى تلوين فردي، إمّا متروك في قالب (# لا لا)، وإمّا مخبوب في قالب آخر (# نعمم) . أمّا في الصدر فإنه إذا لم تحل أحكام المهاد من دلال القطيف الخببي، فسوف يتمتع بكامل دلاله، وهذا كما سوف يحصل مع الوافر بطول الأصفر؛ فالوافر لبدئه بوتد أولي فهو في مأمن من علة العسرة الخببية؛ ولذلك كان للوافر الأصفر المضموم قالبين (الشاهد رقم 44 ورقم 46 من شواهد الخليل، والملف الخاص بهذه الشواهد موجود في صفحة علم عروض قضاعة على الفيسبوك). ولا مانع من وجود اخوين تامين كبار لهما، فالقضية هي قضية إيقاعية وليس لغوية. ومع أن القطيف الخببي موجود في بحر الكامل أيضاً، لكن أحكام المهاد ستمنعه من الورود متروكا في جرس الصدر.
قال عمر بن أبي ربيعة (أموي)، (مقطوعة عدّت أربعة أبيات، ديوانه، ص 482):
كَـتَـبْتُ إِلَيكِ مِنْ بِلـَـدِيْ ... كِتــــابَ مُــوَلـَّــهٍ كَـمِــدِ
نعم، نعمم #، نعمم .... نعم، نعمم #، نعمم
مفاعلَـتن مفاعلَـتن .... مفاعلَـتن مفاعلَـتن
كَـئِـيْبٍ وَاكِفِ الْـعَـيْـنَـيْـ .... ـنِ بِالـْحَسَراتِ مُـنْـفَرِدِ
نعم، لا لا #، لا لا .... نعم، نعمم #، نعمم
مفاعلْتن مفاعلْتن .... مفاعلْتن مفاعلَـتن
يُـؤَرِّقُــهُ لَـهِـيْـبُ الشَّــوْ .... قِ بَينَ السَّـحْـرِ وَالْكَـبِــدِ
نعم، نعمم #، لا لا .... نعم، لا لا #، نعمم
فَـيُمْسِكُ قَـلْـبُـهُ بَـيَـدٍ ... وَيـَمْسَحُ عَـيْـنَـهُ بِـيَــدِ
نعم، نعمم #، نعمم .... نعم، نعمم#، نعمم
 جملة نظام قضاعة: الوافر ذو الصدر الأصفر الحر، والعجز الأصفر المخبوب. (أصفر: # قطيف خببـي)
جملة نظام الخليل: الوافر ذو العروضة المجزوءة الممنوعة من العقل [ومن النقص] الجائز فيها العصب، ولها ضرب سالم. (6)
(6) الخليل لم يجوّز شرم السبب الخفيف ذو الأصل الخببي في نظامه، إلّا ما كان منه بتجويز شرمه في قوالب الوافر الأصفر الاثنين. فمع أنّ شواهدهما عنده قد خلت من شرمها [الشواهد: 44-47]، لكن عدم نصّه في جملة الوصف لهما على منع زحاف النقص على جزء الوافر مفاعلَتن؛ فهو المؤدي لشرمها؛ قد ترك الباب مفتوحاً لتجويز شرمها. وعلى ذلك، فعلة العفرة مبنية في صلب القالب وهذا مرفوض؛ فقوالب العرب سليمة المهاد في أصلها كما قلنا. وهذا هو احد القوالب الثلاثة التي قلنا أن الخليل قد أخطأ في تأصيلها فيما يخص سلامة المِهاد فيها من العلل؛ ولنفرض أن شاعراً شرم هذا السبب الخفيف (أوقفه على متحرك)، فعيبه على الشاعر وليس على القالب السليم المهاد في أصله.
فهذا القالب هو قالب أصفر مضموم يعود للوافر، وجرس الوافر بطول الأصفر قطيف خببي، وهو جرس حُـر، فهو إمّا متروك وإمّا مخبوب. ودلاله محصور في الصدر لأنه ليس هناك ما يمنع دلاله فيه. أمّا في العجز فهو غير حـر، لأن القافية العربية تمنع الجمع بين قافية السبب الخفيف وقافية غيرها كما قلنا. والسبب الخفيف ذو الأصل الخببي لا يجوز عليه الشرم لأن ذلك يتسبب بعلة نظم في المهاد الخببي، هي علة العفرة.
أمّا القطيف الخببي في بحر الكامل بطول الأحدب، فهو يتسبّب بعلة العسرة فيما لو احتل الصدر، ولا حل لها إلّا بالإنقاص من دلال القطيف الخببي في الصدر بقصرِه على تلوين مخبوب الفردي (# نعمم). وفي العجز هو بطبيعة الحال منقوص الدلال لأن أحكام القافية العربية تمنع الجمع بين قافية السبب الخفيف وقافية غيرها كما قلنا. ولذلك كان للكامل الأحدب المضموم قالبين فقط أيضاً (الشاهد رقم 55 ورقم 56).
قال الـمُخَبِّل السعدِي - (مخضرم)- (من قصيدة عدّت 40 بيت، ديوانه: قطعة رقم 31، ص130):
ذَكَـرَ الرَّبابَ وذِكْـرُها سُقْـمُ ... فَصَبا وَلَيسَ لِـمَنْ صَبا حِلـْمُ
نعمم نعم، نعمم #، لا لا .... نعمم نعم، نعمم #، لا لا
متَـفاعلن متَـفاعلن مـتْـفا .... متَـفاعلن متَـفاعلن مـتْـفا
وإذا ألَـمَّ خَيالُها طُرِفَتْ .... عَينِـيْ، فَـماءُ شُؤُونِها سَـجْمُ
نعمم نعم، نعمم #، نعمم .... لا لا نعم، نعمم #، لا لا
متَـفاعلن متَـفاعلن مـتَـفا .... متَـفاعلن متَـفاعلن مـتـفا
كـالْـلُـؤْلـُـؤِ الْـمَسْجُـورِ أُغْفِلَ في ... سِلْـكِ النّظامِ فَـخانَهُ النَّـظْـمُ
لا لا نعم، لا لا #، نعمم .... لا لا نعم، نعمم #، لا لا
 جملة نظام قضاعة: الكامل ذو الصدر الأحدب المخبوب، والعجُز الأحدب المتروك. (أحدب: # قطيف خببـي)
- جملة نظام الخليل: الكامل ذو العروضة الحذّاء السالمة، وضربها أحَـذّ مضمر.
فلاحظ أن صدر المطلع في قصيدة الـمُخَبِّل السعدِي، معلول بعلة العسرة الإيقاعية، وكذلك بعلة العفرة النظمية، لكن سترتهما التقفية، فأصبح شطر الصدر بحضور التقية حكمه من حكم العجز السليم المهاد. ولذلك فهذا القالب سليم المهاد، وأبيات سليمة المهاد أيضاً. ولا يوجد أيّ مثال عن إيراد العرب للقطيف الخببي متروكا في الصدر في هذين القالبين للكامل إلّا بحضور التقفية. (راجع دراسة محمد العلمي التوثيقية).
انتهت هذه المقالة.