أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: بائع الثلج

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 925
    المواضيع : 190
    الردود : 925
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي بائع الثلج

    بائع الثلج
    قصة بقلمي
    قصير القامة، قارب الأربعين، ذو جلباب يصل إلى تحت ركبتيه بقليل، معقود على خصره بحبل متسخ يضم بين جنبيه سكاكين غليطة مدببة ، غير حليق الذقن أو الشارب، شعرأجعد، متهيج الجانبين، وأنف مكورة، في رأس نصف صلعاء، بين كل ذلك ، وجه لوحته الشمس،بدا كلوحة تئن بتفاصيل حياة شاقة، يسعى فيها للقمة عيشه من بيع ألواح الثلج.
    يأتي به من المصنع في أطراف المدينة، فوق عربة يجرها حمار صغير متعب.وبين لفائف الخيش ، يرص الألواح البيضاء الباردة في خلفية كشكه الخشبي الكائن بميدان جانبي في تلك المدينة الصغيرة، يبيع فيه شيئا من حلوى منتهية الصلاحية، وبعضا من سجائر رخيصة.
    يلتف حوله صغار المدارس، وهو يكسر ألواحه المبتلة الباردة،لتتناثر قطع الثلج ليتلقفها أولئك الصغار، ويستمتعوا في فرحة طفولية، بامتصاصها وهي تذوب بين أصابعهم وشفاهم.لم يكن عم (عبودة) بائع الثلج الشهير بالمدينة،يمنعهم من الالتفاف حوله، بل كان أحيانا ما يمنحهم بنفسه قطعا ليست بالصغيرة، فيسعد بها قلوبهم.
    كانوا يحبونه، ولا يخشون جانبه.وكثيرا ما ابتاعو منه حلواه الرخيصة.
    $$$
    كان (عبودة) شهيرا في مدينته تلك؛ فهو كبير مشجعي فريق كرة القدم لناد كبير، مقره هناك في العاصمة الكبيرة.فإذا فاز فريقه المفضل، خرج عم (عبودة) بصبيانه وأبناء حارته، إلى شوارع المدينة وميادينها، بذات جلبابه المبتل الذي يصل إلى تحت ركبتيه بقليل، المعقود على خصره بحبل غليظ متسخ.يرقص بين المحتشدين من عوام الحارات ، وصبية الحناطير، محتفلا بفوز فريقه الأثير.جارا وراءه كلبا صغيرا، ألبسه الزي الرياضي للفريق المهزوم. كان الناس يهتفون ،ويصفقون ويمرحون. وربما جرت تلك الاحتفالات إلى استفزاز مشجعي الفريق المهزوم، فتنشب معركة قذف بالحجارة،بين صبية الحارات الشعبية، تستمر حتى غروب الشمس.
    &&&
    كان (عبودة),ضيفا أسبوعيا على مركز الشرطة، هو وأنصاره ومحبوه؛ غير أن نشاطاته الفكاهية لم تكن تمثل ذاك الضرر الكبير، على أمن الشوارع وأمانها. فكان صديقا للمخبرين ،ورجال الشرطة من العساكر البسطاء؛ يبتاعون لديه ليلا، سجائرهم الرخيصة؛إذ كان دائم السهر في كشكه الخشبي، إلا أنه كان يلملم أغراضه ،إذا مرت دورية ليلية، مذعنا لأوامر قائدها، يشيرإليه بإغلاقه.
    &&&
    يوما ما، أذيع أن الفريق الكروي الكبير،سيزور المدينة الصغيرة في أعياد المحافظة. وسيلتقي فريقها المغمور في مباراة استعراضية.
    ظلت المدينة تحلم باللقاء لأسبوع كامل؛ فزينت الشرفات بأعلام الوطن والفريق الكبير، واتشحت واجهات المحلات بصور اللاعبين المشاهير، كما رفعت على أركان كشك عم (عبودة) شارات وألوان وصور فريقه العظيم. كان عم (عبودة) طوال أسبوع هو عريس المناسبة؛ ففريقه المحبوب سيكون هنا في افتتاح استاد المدينة الذي بني حديثا.
    &&&
    حشد عم (عبودة) المشجعين يوم المباراة ، وكان متواجدا في الاستاد منذ العاشرة صباحا.وكان مساعدا بارعا للجنة المنظمة لذلك الحدث الكبير؛
    يوجه الحشود ، ويرتب الصفوف
    أمام شبابيك بيع تذاكر المباراة.التي ستقام في تمام الثالثة عصرا، في ذلك اليوم الربيعي الجميل.
    &&&
    واستقر(عبودة) مع بعض معاونيه، في أحد الكراسي في خلفية المقصورة، بوصفه رئيس رابطة مشجعي الفريق الكبير.
    وتم التنبيه عليه بالتشجيع بروح رياضية، وبعدم تجاوز مكانه ، مهما حدث، وذلك لإصراره على حضور المباراة بزيه الشهير.
    وتم حشد المشجعين في المدرجات وأغلقت أبوابها، لضمان عدم نزول مشجع إلى أرض الملعب.
    &&&&
    أما خارج الاستاد؛ فقد
    اصطفت طوابير رجال الشرطة، ووقف في الصدارة مسئولو المحافظة، لاستقبال الضيوف خارج الأبواب الرئيسية؛ سيارات فخمة سوداء،وحافلات كبيرة، كبراء ،ومسئولون، ولاعبون لامعون، يحملون حقائب رياضية غالية الثمن، ويرتدون ملابس رياضية فخمة، وسترات مبهجة، وأربطة عنق ملونة،ونظارات شمسية فخمة، وعطور تملأ الأجواء، وسعادة ترفرف في المكان.كانت الحشود خارج الاستاد أضعاف من بداخله.وكان الصبية المشاهدون، ممن لم يحالفهم الحظ في شراء تذكرة، يشهقون سعادة، كلما مر لاعب شهير من أمامهم!
    &&&
    وبمجرد نزول الفريق الضيف إلى ساحة الملعب الخضراء ، حتى بدأ (عبودة) في صرخاته التشجيعية، وقاد الآلاف في المدرجات، في هتافات صاخبة، ارتجت لها جنبات المدينة الصغيرة. والمضحك أن الجماهير كانت تشجع الفريقين، في ذات الوقت.وسجل الفريق الضيف في هذا الشوط، ربع دستة أهداف.
    &&&,
    في الصف الأول، جلس المحافظ، ورئيس النادي الكبير ، وهوالذي كان لاعبا شهيرا محبوبا في الماضي، نظيفا لامعا متأنقا، كقطعة بونبون فخمة.وبين الشوطين، وإذ بشيء من الضيافة كان يقدم للضيوف، بأيدي بعض الزهرات الصغيرات بين الشوطين ، نزل (عبودة ) خفية من مكانة مسرعا, دون أن ينتبه له أحد، وإذا به ينقض كالصقر، وينهال أحضانا وتقبيلا على تلك البونبوناية الرقيقة، أقصد رئيس النادي الكبير، الذي انتفض في ذعر، وأخذ يدفع ذلك القرد البشري المتسخ، عن بذته الفاخرة، ويمسح وجنتيه في تقزز وقرف.ولا ندري ماذا كان سيؤول إليه الحال، لولا أن أدركته أيادي الحراس المحيطين
    $$$$
    اختفى بعدها عم (عبودة)، واختفى أيضا كشكه الخشبي من مكانه المعهود. ولم نعد نحن الصبية نتلقى شيئا من قطع الثلج التي كانت تذوب في أفواهنا،وبين أصابعنا الصغيرة.
    من مجموعتي القصصية:
    (صعاليك على العرش)

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,229
    المواضيع : 318
    الردود : 21229
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    نكبر ويتغير كل شيء حولنا لكن تبقى في ذاكرة الطفولة شخصيات مميزة
    طبعت ملامحها في عقولنا بأشكالها المميزة، وبقلوبها البيضاء التي تبعث الفرح في نفوس من حولها.
    إن مهنة بائع الثلج بوصفها هذا ربما هى شخصية اندثرت في زمننا هذا، ولكن ما يميزها هو ذلك الأسلوب
    الواقعي بسرد حكائي شبق من ذاكرة متدفقة بتصوير أدبي دقيق تمتزج فيه الأحداث الجادة بالأحداث
    الكوميدية في تسجيل أدبي دقيق ممتع.
    دام بريق قلمك وجمال حرفك وبديع وصفك.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 925
    المواضيع : 190
    الردود : 925
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    أ. نادية.
    أهلا بحضورك البهي.
    نعم بائع الثلج هذا ، شخصية واقعية من دفتر طفولتي وصباي. في طريقي من مدرستي لبيتي.
    وقصته مع يوم المباراة حقيقية ، رأيتها بأم عيني. لكن أسلوبي في الصبا لم يمكنني من وصف تلك الصورة التي ما غادرت مرايا الذاكرة حتى الآن ،فاختزنتها حتى خرجت بالأمس على حالها الذي قرأته..
    تحياتي سيدة الحرف النبيل.