لم تسفر الحرب ضدّ العراق عن هزيمة عسكرية فقط، بل أسفرت في الوقت نفسه عن هزيمة حضارية كبرى.
وإذا كانت الهزيمة العسكرية من نصيب نظام استبدادي كان من المستحيل بسبب استبداده وانحرافه، أن يتمكّن من تعبئة الطاقات الشعبية الكبرى لمواجهة عدوان خارجي وصدّه، شأنه في ذلك شأن ايّ نظام استبدادي آخر، فإنّ الهزيمة الحضارية الكبرى كانت من نصيب تلك الدولة التي حاولت أن تنصّب نفسها زعيمة لحضارة الغرب المادية، وأطلقت شتّى الشعارات البرّاقة المغرية لنشر ما تراه هي عالميا.. لينكشف أمرها أمام من أبى رؤيته من قبل: محض دولة عدوانية تريد التسلّط عالميا وفرض ما تراه بالقوّة العسكرية المجرّدة.
هزيمة عسكرية وانتصار شعبي
لم تكن هذه الهزيمة العسكرية لنظام استبدادي مفاجئة من وراء سائر التمنيات بالصمود، وحتى بالنصر العسكري على القوّة العاتية الغازية.. وتعدّدت منطلقات أصحاب هذه التمنّيات، فتلاقى عليها في خليط نادرا ما شهدناه في تاريخنا المعاصر، أنصارُ أفكار حزب البعث والأقرب إليها من التيارات اليسارية، مع أصحاب المنطلق الإسلامي تحت شعار تجاوز الخلافات في ساعة المحنة والخطر الخارجي، مع كثير من أهل هذه البلاد بعيدا عن الانتماءات، ومع اختلاف العقيدة، انطلاقا من الدفاع عن مهد الحضارات القديمة وعاصمة الخلافة العباسية وعن الإنسان والأرض في العراق.
ويبقى أنّ هذه الهزيمة العسكرية وقعت وبدت لغزا من الألغاز، سواء في نظر من تعلّق بالأمل فحسب، أو من لم يكن يريد أن يصدّق أن تسلّم "قيادة عسكرية وحزبية عقائدية" العاصمة العراقية على النحو الذي حدث وكثرت التكهّنات حوله ما بين صفقة على حساب البلد ومصيره عُقدت بليل، وبين هروب مدبّر مخطّط له من قبل نشوب الحرب تدبيرا محكما. والواقع أنّها لم تكن هذه هي الهزيمة الأولى من نوعها، بل ويمكن أن تتكرّر إذا تكرّرت أسبابها، لا سيّما وأنّ الأنظمة الاستبدادية لا تتعلّم الدروس التاريخية ولو وقعت بين يديها مباشرة، فما من نظام استبدادي إلاّ وكان أقصى ما يستطيعه عسكريا هو أن يمارس سياسات القمع بمختلف الدرجات.. تجاه شعب أعزل، أو أن يمارس العدوان إقليميا إلى أن يجد قوّة عسكرية تقمعه، بغض النظر عن درجة طغيانها هي، وهذا ما شهده العراق.
هي هزيمة عسكرية للنظام ومَن حمله، ولكنّها ليست قطعا من حيث معطياتها الأولية، ومن حيث مجراها، هزيمة شعب، لا من الناحية االعسكرية ولا من أيّ ناحية أخرى سواها، وحتّى تلك المظاهر التي حاولت آلة الإعلام الحربية الأمريكية "فبركتها" والتركيز عليها ونشرها كما لو كانت تمثّل الشعب في العراق، كان "إخراجها" من أدنى مستويات ما تصنعه تلك الآلة الإعلامية عادة، مثل تصوير بضع مئات هنا أو هنالك "يحتفلون" بالقوّة الغازية وتحت بنادقها، في مدن يسكنها الملايين، أو مثل إطلاق العنان –والأرجح بتخطيط مدبّر- لحفنة من اللصوص لنشر السلب والنهب حيثما اختفت أجهزة النظام، ويبدو أنّ القصد ليس مجرّد تشويه صورة شعب العراق فحسب، وإنّما القضاء على السجلات المالية والعقارية وسواها.. لتحطيم "الدولة" وصناعة "هيكل نظام" جديد يتحكّم بمصالح أهل البلاد تحت طائلة التهديد كلّما احتاج الأمر إلى إثبات ملكية حساب مالي.. أو بناء عقاري.. أو ما شابه ذلك.
إنّ مجرّد امتناع شعب العراق عن "الاحتفال" بسقوط الحكم الاستبدادي رغم معاناته منه، يرفع من قامة الإنسان الفرد في العراق إلى مستوى عملاق أمام أسلوب تصرّف الدولة العملاقة بأسلحتها، الصغيرة بتفكير من يخطّط لها، ولحروبها العدوانية.
الاحتفال الذي يكون عادة "تلقائيا" عند سقوط الاستبداد.. مرفوض شعبيا، لأن وسيلة إسقاط الاستبداد كان وسيلة همجية أمريكية يتطلّع مدبّروها إلى الاحتلال والهيمنة إقليميا ودوليا.. وكان الوعي الشعبي عاليا حتى في أشدّ ساعات المحنة الكبرى التي صنعتها له الدولة الكبرى.. منذ اليوم الأول للحصار غير المشروع بأي مقياس، إلى أيام هذه الحرب العدوانية غير المشروعة بأي مقياس أيضا.
رغم الهزيمة العسكرية للنظام وحزبه وقياداته، سجّلت إرادة شعب العراق بذلك انتصارا آخر بعد الصمود للحصار، على تلك القوّة الطاغية الأولى في العالم المعاصر، ولن يكون الانتصار الأخير، فالانتصارات والهزائم في الشعوب لا تقاس بأعمار المعارك العسكرية، وإنّما بما تصنعه الأجيال جيلا بعد جيل، ولقد كان شعب العراق كشعوب المنطقة الإسلامية قادرا في ماضيه التاريخي الطويل، على النهوض من تحت الركام ليتابع مسيرته الحضارية من جديد.. مرة بعد مرة، وسينهض أيضا من هذه الهزيمة العسكرية ومن أثقال الاستبداد الداخلي.
انتصار عسكري وهزيمة حضارية
كذلك لم تكن الهزيمة الحضارية للدولة الأمريكية هي الأولى من نوعها، فعناوين هيروشيما وفييتنام وعناوين مآسي المجاعات الكبرى مقابل ترسانات أسلحة الدمار، عناوين معروفة مشهودة أمام كل ذي عينين.. مهما حاول المتأمركون تجميل وجه السياسة الأمريكية بمساحيق التقدم التقني والمادي على حساب الإنسان وحقوقه وحرياته.. في سائر أنحاء الأرض، وكأنّ القتل بقنبلة ذكية أو عنقودية أو "أمّ القنابل" أرقى وأدلّ على التقدّم "الحضاري" من القتل بسكين أو خنجر ولو كانا من العصر الحجري.. أو كّأن الوصول إلى القمر واكتشاف خارطة العناصر الوراثية، تغفر لصانعي سياسات عالمية تنشر الموت جوعا ومرضا في صفوف ربع البشرية على الأقل.
لقد بدت هذه الهزيمة الحضارية للعيان أوّلا عبر أسلوب الإعداد لها وقد تميّز بذلك التعامل الفاضح ولو لبس لباس "التجبّر والتعالي" تجاه البقية الباقية من مظاهر احترام العلاقات الدولية حتى مع الحلفاء، واحترام الأجهزة العالمية المصنوعة أمريكيا بعد الحرب العالمية الثانية، والقائمة على الأرض الأمريكية، والواقعة في غياب جهاز قضائي أعلى لممارسة "رقابة شرعية دولية" تحت هيمنة موازين القوة..
وبدت للعيان ثانيا عبر تعليل الحرب بما لم يقنع صديقا ولا خصما، ولا حتى الأتباع الصغار وإن ردّدت ألسنتهم التمجيد التقليدي لما تصنع "أمريكا" سيّان ضدّ من، وكيف..
كما بدت للعيان ثالثا عبر توجيه أعتى الأسلحة الفتّاكة ضدّ دولة أو ضدّ شعب.. سيّان فالحصيلة بالمنظور الحضاري واحدة، وهي تعلم مسبقا أنّ تلك الدولة لا تملك القدرة العسكرية على مواجهة تلك الأسلحة الفتّاكة، وهو "خُلق" في التعامل الدولي في العصر الذي تريده أمريكا أمريكيا، لا يختلف عن خُلق مريض استفحال الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية من مثل الاعتداء بالرشاشات على أطفال في مدرسة، أو اعتداء عتاة المجرمين على المسنّين في الشوارع..
والأهمّ من تعداد المزيد لبيان مظاهر "السقوط" الحضاري الذي تمثلّه هذه الجولة العسكرية، هو تقدير حجم الهزيمة الحضارية الأمريكية على أرض العراق بالذات، ووفق المعطيات الدولية الراهنة بعد عقود عديدة من هيروشيما وفييتنام وسواهما، فهي هزيمة حضارية تمثل مفصلا تاريخيا ما بين حقبة صعود إجرامي بالمفهوم الحضاري، طال زمنيا، وبين حقبة الهبوط الإجرامي بالمفهوم الحضاري أيضا، بدأت الآن.. رغم كلّ تقدّم تقني وعلمي، ورغم سائر الشعارات المرفوعة عن الحريات والحقوق..
هي المسيرة التي صنعت "وجها حضاريا" بالقوة الدموية، ووضعت عنوان "الإنسان" على حلقات متواصلة من تنامي أسباب القوّة المحضة على حساب الإنسان نفسه، منذ مسلسل إبادة الهنود الحمر، إلى عصر التجارة بالرقيق، إلى ترسيخ أسباب العنصرية الداخلية في الدولة الحديثة النشوء، إلى الحرب الأهلية الدامية، ثمّ الخروج من الحدود "الوطنية" عبر الحملات الاستعمارية في أمريكا الوسطي والجنوبية، وحتى الانطلاق بالقوة العسكرية إلى جانب التفوّق العلمي لفرض الهيمنة العالمية، بالحروب أولا كما كان في غزو الفيليبين.. والأحلاف ثانيا عبر معطيات الحربين العالميتين.. وهذه المسيرة التي لم تعرف قطّ منطقا فرض نفسه بصورة حاسمة فتغلب على منطق القوّة وأصبح أعلى مفعولا منها.. رغم مقاومة "الإنسان" الأمريكي لها بين حين وحين، ظهرت معالمه في دعوات التحرير والمساواة، لتغيّبها معادلة موازين القوّة داخليا ودوليا من جديدة.. ولتوصل في نهاية المطاف إلى المرحلة الراهنة المتميّزة بالتطلّع إلى هيمنة انفرادية استبدادية مطلقة على الصعيد العالمي.
القوّة الغاشمة من وراء القناع الحضاري هي التي هُزمت حضاريا في الحرب ضدّ العراق، بسقوط هذا القناع، سقوطا تجاوز بمفعوله العالمي سقطات سابقة، ولهذا بات حدث العراق يمثّل مفصلا تاريخيا سبق للتاريخ أن سجّل ما يشبهه، ما بين صعود امبراطوريات وانهيارها.
وقد أبت جهات عديدة في الغرب الذي تتزعّمه الدولة العاتية، وتمثل الغالبية على المستوى السياسي وعلى المستويات الفكري والشعبي، أن تخوض غمار هذا "المفصل التاريخي" مع الدبابات والطائرات والصواريخ الأمريكية..
ولهذا لم يكن التحذير قطّ موجّها إلى إسقاط نظام حاكم في دولة ذات سيادة بالمفهوم الدولي المعاصر، أو عدم إسقاطه، ولا كان الرفض متعلّقا بقرار جائر من حيث الأساس أن تُستخدم "أسلحة فتاكة" لنزع "أسلحة فتاكة" من دولة أخرى.. بل ولا يمكن تفسير "درجة" التحذير والرفض والإصرار عليه بما هو معتاد في العالم الغربي داخل نطاق جولات "التنافس والصراع"..
إنّما كان الرفض المتواصل والقويّ والمستمرّ إلى ما بعد الحرب، متركّزا داخل العالم الغربي - كما تشهد نصوص المواقف الرسمية وبيانات المفكرين واحتجاجات المثقفين- على ما تراه تلك القوى رأي العين، كيف تقوّض الآلة العسكرية الأمريكية البقية الباقية من القيم الإيجابية في منظومة القيم الغربية، ليطفو على السطح كلّ ما كان فيها ظاهرا للعيان أو مغيّبا وراء الشعارات، وترمز إليه كلمة "شرعة الغاب"، سواء كانت القوّة المعتمدة قوّة المال أو الاحتكار دون مراعاة للإنسان نفسه، أو القذائف القاتلة.. الغبيّة منها والذكية.
السقوط بين الأمل.. وما يقتضيه
إنّ بغداد هي المحطة التي استطاعت -رغم سيطرة الاستبداد العسكري والحزبي فيها زمنا طويلا- أن تواجه بقيمة الإنسان وحده وقيمة الإرث الحضاري الكبير فيها، طاغوت العصر وسائر ما كان يمثله عبر قرون مضت، وما يمكن أن يمثله في مستقبل البشرية، ما لم يجد من الأسرة البشرية ما يكبح جماحه.
ولهذا فإن "سقوط بغداد" لا يثير في الأعماق الإحساس بالألم والأسى فحسب، وإنّما يثير في الوقت نفسه الأمل الكبير واليقين الراسخ، بأنّه سيكون نقطة تحوّل في مجرى التاريخ البشري عموما، وليس في المنطقة العربية والإسلامية فحسب.
ولا يعني هذا قطعا الوقوفَ موقف الانتظار أمام مسيرة عجلة التاريخ، بل يمكننا –ويجب علينا مهما اختلفت المنطلقات والتوجّهات والمواقع- أن نساهم في مضاعفة سرعتها، على كلّ صعيد. يجب أن يكون الخروج من الصدمة الأولى التي صنعها مجرى الأحداث أسرع بكثير من سرعة أولئك الذين ينطلقون من مختلف ألوان فلسفة المواقف الانهزامية والاستسلامية، وألوان ادّعاء الواقعية المزيفة، والتعلّق بمرجعية التبعيات الدولية بعيدا عن حقيقة مبادئ الشرعية الدولية ومثلها، المنتهَكَة من جانب أجهزة وقوى دولية عديدة بمنطق القوّة..
يجب الخروج من هول الصدمة إلى أرضية العمل الدائب المشترك بين سائر من يتحرّك متجاوزا الخلافات العتيقة للمحاور.. والتيارات.. والتوجّهات.. والانتماءات الشكلية وغير الشكلية، لخوض معركة بغداد الكبرى..
- نفسانيا.. رفضا لكل شكل من أشكال القهر.. والتسليم للقهر على أي مستوى قطري.. أو دولي، وفي كل ميدان سياسي أو عسكري أو اقتصادي أو اجتماعي أو فكري
- وجدانيا.. فليس مقياس العمل الحقيقي للقضايا المصيرية مقياس الانتماء وحده، وإنما هو مقياس جوهر الإخلاص لتلك القضايا من وراء الانتماءات، فإذا كان نبض انتماء العقيدة وانتماء الحضارة في الأمة العربية والإسلامية، هو النبض الذي يحرّك جماهير بلادنا، ويعبّئ قواها وإمكاناتها الكبرى، فكلّ عمل خارج هذا النطاق يمثل خيانة للقضايا المصيرية، مهما كانت وراءه من رؤى تفلسفها النظريات والاقتناعات الذاتية متجاهلة ما كان من تجارب مأساوية على امتداد العقود الماضية
- فكريا وعلميا.. بالتلاقي على كل مستوى من المستويات الفكرية والعلمية، من وراء الحواجز والحدود والقيود السياسية الممزّقة المدمّرة، ومن وراء الشكليات والاعتبارات القطرية المفرّقة المتخلّفة، ومن وراء التسميات والعناوين التي لا تقوم على أساس يجمع ما بين الشعوب ويجعل الفكر والعلم في خدمة قضاياها المصيرية..
- وعلى صعيد الإنجازات المرئية على أرض الواقع، في كل ميدان من ميادين الاستثمار لثروات الشعوب، مالية ومادية، وطاقات الشعوب العاملة والإدارية، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات والاتحادات والنقابات في مختلف المجالات.. ونتمنّى أن نقول في يوم قريب على مستوى الحكومات أيضا، على أن تضع الحكومات نفسها في خدمة الشعوب لا أن تستخدمها.. وأن تتجاوز نفسها من أجل القضايا المصيرية لا أن تتجاوزها من أجل البقاء في السلطة، وإلا فلا ينبغي في هذه المرحلة أن تبقى الحكومات هي "العقبة" في وجه التعاون من وراء الحدود، ولا يجوز التسليم بذلك بأي ثمن.
إن بغداد التي صنعت من خلال معطيات الظروف الحالية إقليميا ودوليا، مفصلا تاريخيا في مسيرة الهيمنة الأمريكية الآيلة للسقوط آجلا أو عاجلا، يجب أن نجعل منها، انطلاقا من جماهير الشعب العراقي وسائر شعوبنا، مفصلا تاريخيا في مسيرة النهوض الحضاري الذي رفعناه شعارا وسلكنا إليه مختلف السبل، ولم نقطع فيه خطوة حقيقة واحدة.. منذ بدء عصر الانحطاط في جسد الأمة الإسلامية حتى اليوم.
بغداد أمل المستقبل.. فمن يضع نفسه على هذا الطريق، يشارك في تحويل الأمل إلى واقع منظور، ومن لم يفعل فسوف تتجاوزه عجلة التاريخ، وعجلة التغيير، وعجلة البناء، وستعود بغداد، به وبدونه، عاصمة من عواصم الحضارة الإسلامية، ومنبر إشعاع لنور القيم الإنسانية للبشرية جمعاء.