عيل تائه يا أولاد الحلال.
بقلمي
كنت طفلا اسمرا نحيفا
لم يتعد سنواته الثلاث ، ذا ضعف بصر لم يكتشفه فيه أحد بعد!!!
يرتدي قميصه الأبيض،وبنطاله القصير الأزرق.. وصندله البني المكشوف. كنت واقفا على مدخل حارتنا ،ممسكا بمسدس اللعبة في يدي، متطلعا في انبهار إلى جلبة الشارع الصاخب بالبيوت والناس والدكاكين والألوان. وشمس الظهيرة، تنصب على المشهد كله ، تنير المكان ،فتتألق الوجوه ،وتلمع الأزياء والعربات !!!
&&&
شد انتباهي كما شد أطفالا غيري ، موسيقا نحاسية صدحت، وفرقة قد أقبلت من شارع جانبي، لتنه*مر عبر شارعنا، يتقدمها ( بلياتشو)؛ الذي كان ,كأفراد الفرقة،يرتدي ملابس مبهرة الألوان، وكان عزفهم يفجر النفس فرحا وطربا.
&&&
هرولت مع من هرول من الصغار، وسرنا خلف الركب وعلى جانبيه؛ نقفز ونصفق ونتابع المسير.
... كنت مبهورا.. بالفرقة الموسيقية الملونة التي تعزف الألحان، مارة بشوارع المدينة إعلانا بفيلم جديد في سينما مجاورة.... تابعت الفرقة والبلياتشو، الذين جاوزوا عدة شوارع، خرجوا منها ، ودخلوا غيرها، حتى تناقص عدد الصبية من حولي. فتابعت مسيري وراء أفراد القوجة حتى اختفوا.. داخل مبنى ذا بوابة كبيرة. خفتت موسيقاهم حتى صمتت، ، وأغلقت دوني الأبواب.
وصمت من حولي المكان.
&&&
حاولت الرجوع..لكن هيهات هيهات !! فقد اختلطت في عيني الحارات بالدكاكين،بالبنايات ،وامتزجت في رأسي ألوان البيوت بوجوه غريبة ، وأرعبني الصخب الإنساني وضجيج العربات ؛فكانت رحلة التيه.
وكان إحساسا مخيفا بالغربة والضياع.
$$$
... لم يكن أمامي سوى السير.. حتى أدميت قدماي، وتورمت أصابعي في صندلي المكشوف أثر احتكاك التراب بها.
فلم أجد غير الارتماء جالسا علي الرصيف .. وقد التهب أسفلت الشارع جراء شمس الصيف.
كنت جائعا متعبا من السير على غير هدي في الشوارع المتشابهة.. المتتابعة...والغبار وزحام الطريق.
دامع العينين، محتقن الحلق ببكاء مكتوم ، مضطرب القلب بخوف غريب، مفزع الوجدان بحزن عجيب.فانفجرت بالبكاء.
.$$$
ما زلت أذكر وجه الشاويش الطيب.. وطعم
( سندوتش الطعمية الساخنة )... الذي لم أكمله من تعبي.. وحبات من
( الطوفي)التي أهداني إياها: ما كدت ألمسها حتى رحت في سبات عميق.. فوق سرير حديدي ذي بطانية خشنة رمادية اللون.
&&&
حبن صحوت تلك الليلة، كان رأسي مستندا إلي كتف ذات الشاويش الذي كان يحملني وهو يدق جرس بابنا.. فإذا بأمي تحتضن الشاويش من فرحتها!
&&&
(لم يثبت في ذاكرتي، كيف وصلت إلى مركز الشرطة. لكنني عرفت حين كبرت ؛أن بعض المارة أودعوني هناك، بعد العثور علي نائما منكها على رصيف الشارع.)
و أما كيف وصلت بيتي فبلا شك كان لذلك قصة أخرى ، وقعت في غيابي.
أهل قد فزعوا لافتقادهم صبيهم الذي لم يعد حتى سدول الليل، أختاي أهملتا مراقبتي قد تمت معاقبتهما.
جيران التأموا حول أمي وأبي. نساء يبكين، ورجال يسعون في كل اتجاه البحث والتنقيب.
استئجار منادية تطوف الشوارع والحارات.عهدتها شوارع المحروسة في تلك السنوات الجميلة الماضية؛ وهي تنادي في الناس بنغمات جهورية:
(عيل تائه يا أولاد الحلال)،
ثم بلاغ قد قدم إلى مركز الشرطة بالحي القاهري العريق.
&&&
هكذا ، حين انبهرت ، ضعت. وهكذا سعوا ،فرجعت.
وسكنت بوتقة الأمان من جديد. حتى أمسيت رجلا قمت، على قدر طاقتي, بكل تكاليف الرجولة؛ شابا وكهلا ، وزوجا وأبا ومعلما.
فلم أعد طفلا، ولكن وجداني ما زال طفلا
, لذلك انبهرت كثيرا في دروب حياتي.فكان علي أن أحكم عقلي، لأعود إلى جادة الطريق وحدي .. نعم وحدي ، وبمحض إرادتي ، كي لا أضيع، فهل أضمن أن أجد ذات النفوس والقلوب من حولي،تنبهني أو تبحث عني، إذا تاهت خطوتي وراء الألوان المبهرة؟