أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: الزقاق

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 915
    المواضيع : 187
    الردود : 915
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي الزقاق

    الزقاق
    قصة بقلمي

    سدت مداخل الحارة من الشوارع الجانبية بعروق خشبية ضخمة وطويلة، ونشرت خيمة كبيرة، شملت نصف الزقاق المظلم الذي لا يحوى إلا ثلاث بيوت. وانهمك العمال في بناء مسرح بدائي، وتسلق عمال الكهرباء الجدران والأعمدة، وهم يمددون أسلاكا تحمل لمبات كهرباء ملونة. وقفز عامل مكبرات الصوت ليعلق بوقا أسودا ضخما على ذراع معدني لمنشر الغسيل، في ركن بلكونة الجيران.
    شق الأستاذ فكري طريقه بصعوبة بين جانب السرادق والحائط القديم للزقاق ، ملتمسا طريقا نحو باب البيت؛ ذلك البيت الذي قدر له أن يوفق ليجد فيه شقة صغيرة، من غرفة وصالة وعفشة مياه. شقة صغيرة لكنها تكفيه، كما أنها جيدة التهوية ،رغم ظلمة الزقاق، فقد كانت هناك في الطابق الأخير؛ بينها وبين السماء مسافة تسمح له بالتنفس ، والتمتع بنور شمس الله، إن هو خرج إلى مساحة السطح المتروكة أمام الشقة.مساحة تكفي لمقعد وطاولة، يؤدي فوقها مستلزمات واجبه المدرسي، نحو تلاميذ مدرسته الإعدادية التي عين بها منذ عامين.أو يستمتع بسويعات قراءة كتبه وروايته المفضلة.
    أو يسرح بخياله أثناء الاستماع لأغاني الجندول والكرنك ،من مذياعه الصغير.
    لم تكن له علاقات مع جيران، سوى بتحية عابرة في الصباح أوالمساء. لكنه كان يرتاح كثيرا للأسطى
    ( وجدي) ، حلاق الحي، إذ ينتمي مثله إلى أهل الريف والفلاحين.
    وكثيرا ما قضى في دكانه وقتا طيبا ،حتى صارا شبه صديقين.
    &&&&.
    كان الأستاذ (فكري) متفوقا، مرتب العقل، يرى أن المقدمات الجيدة، لابد أن تنتهي إلى نتائج جيدة, فلقد سعى سعيا جادا للحصول على شهادته التربوية العليا بتفوق، لكنه حرم فرصة التعيين كمعيد لعدم وجود واسطة تسنده، وتحايلوا أن الكلية ليست بحاجة إلى معيدين ذلك العام، ولكنهم عينوا من يريدون فيما بعد. ولكنه اعتبر أن النتائج كانت وفق ما بذل من مقدمات، وكان بها راضيا غير ساخط، ورضي بموقعه الجديد، حيث وضعته يد الإله.وعزم أن يسلك طريقا نحو دراساته العليا على حسابه الخاص.وكان عليه أن يجتهد في وظيفته، ليستغل فرصتها في تحقيق ما يريد.
    &&&
    لم يكن ليؤمن بالتمني. ولو ترك نفسه لأحلام الوهم، وتمنيات الثروة التي تهبط عن طريق المقامرة، أو اليانصيب، أو تلمس تلك الحفرة التي تحوي الكنز الكبير، ما استطاع أن يتجاوز سدود الفقر، وضربات العوز،التي نشأ تحت خيمته، في أسرة بذل الأبوان فيها جهدا خارقا، في تفريخ الأبناء، ومن ثم ، كان عليهم أن ينخرطوا في أعمال شاقة ،لسد تلك الأفواه، وملىء هاتيك البطون.
    &&&
    “ لكل مجتهد نصيب", هكذا كانت كلمات أبيه وجده، وشيخ الكتاب، وأساتذته الذين علموه.
    بالقطع كان صاحبنا يشعر أحيانا بشيء من الحنق ، وأحيانا بالغضب من واقعه، لكنه تعامل معه كمرحلة مؤقته، كما يرى نفسه، أنه الوحيد القادر على تجاوزه، بل هو واجبه وحده أن يغيره.وأنه وحده عليه بذل المقدمات ، وبعدها ستكون النتائج.
    وكان يرى في كل عقبة تلقى أمامه، نوعا من المسئولية المستحقة، عليه أن يتحملها بكل رضى.
    $$$
    صعد بعض شباب الشارع والزقاق إلى أسطح البيوت المحيطة بالسرادق، ليعلقوا المزيد من الزينات. على حين رصت المقاعد أمام المسرح الخشبي، حيث ستوضع العروس، وإلى جانبها رجلها المرتقب في كوشة صنعت بالجريد. والمصابيح الملونة.
    في جانب من الزقاق، كان هناك صف من المقاعد والطاولات، في ركن منزو، كان من الواضح أنه له خصوصية معينة.
    ضاعت على صاحبنا غفوة العصرية، حتى أذن المغرب بالمجيء، وهو مستلق فوق سريره الصغير، والى يساره نافذة تجذب إليه كل أنواع الصخب المشتعل في الزقاق.
    وفجأة، جفل مفزوعا من مكبرات الصوت التي انطلقت على حين غرة، وكأنها تنفجر من داخل غرفة نومه.
    (١..٢..٣..٤ . ميكروفونات الأسطى شمروخ تحييكم . آلووو .. آلووو ...آلووو
    مبروووك للعروسين .. والحاج ... ال .. )
    سد أذنيه بأصابعه ، وصفق باب الشرفة المتهالك الزجاج. يا لهذا الصخب الذي يدمدم في صدره، ويزلزل كيانه.
    (يا ألطاف الله ... أي مقدمات تلك ؟؟ وما الذي ستنتهي إليه هذه الليلة من نتائج؟؟؟ نعم لكل جهد أثر.ولكل سعي نصيب... نعم نعم. .. لكل فعل رد فعل ... لا لا ... لا يمكن ... شيء فظيع فظيع. أي شيء سينتج عن هذا الهراء .. أي شيء؟؟؟
    همس لنفسه..: النتائج واضحة .. النتائج معروفة!!
    كان صاحبنا يدس رأسه بين ركبتيه وقد تكور في ركن إلى جانب سريره).
    &&&
    إذن ضاعت من صاحبنا غفوة العصرية، وهو لا يحتمل عدم النوم في الظهيرة ،إذ تملكه صداع رهيب، ها هو يطل بأنيابه، لينهش رأسه حتى يغافله النوم.
    لكن أين له بالنوم ... هيهات هيهات.. فقد بدأ مهرجان الصخب.
    ..(العريس ... العروسة .. المعلم حنكورة .. وأبو تلات ... والزنبق . وأولاد المسلوت.. .ومعلمين السمك والفاكهة .. ورقصها يا جدع!!)
    وانهمرت الموسيقا الشعبية الصارخة. فهرول صاحبنا قاصدا الخروج إلى الشوارع المحيطة.
    وما إن لامست قدماه عتبة الدار .. حتى انحشر جسده في بوتقة من الأجساد والألوان والصخب ،والغبار والأضواء المبهرة. على جانب من خشبة المسرح ،كوشة العروسين، وفي منتصفه الفرقة الموسيقية، وأمامها نبطشي الحفل، وقائد النقطة والترحيب. لكن ما أبهر صاحبنا وأثارت دهشته هو عدد الراقصات اللواتي كن يترجرجن في رقصاتهن الماجنة لحما، ويتلألأن في زينتهن أصباغا.

    &&&
    كان شيطان الغواية والفحش متألقا فوق المسرح، ونفوس الشباب من الجنسين مشتعلة بكل الرغبات والغرائز. فانتشرت الهمسات، وتبودلت النظرات، واختلست اللمسات.واشتعل الزقاق بالرقص المجنون.ولم يدخر الجميع فرقة ومدعوين جهدا في بذل الحركات و الهز والتمايل المغري.يعلو المشهد دخان أزرق، وصيحات السكارى الذين أخذوا جانبا من الزقاق على الطاولات التي لها خصوصية معينة؛ تمتد من أفواههم خراطيم طويلة، تنتهي إلى زجاجات الشيشة، وتنبسط قدامهم مواقد الفحم المشتعل، والأحجار المعبأة بشيء بني اللون.
    $$$
    شق صاحبنا طريقه بصعوبة بالغة ؛بين أمواج من فتيات جميلات ،ونساء بدينات، شعر أنه يسبح في بحر من اللحم والعرق ،والأصباغ ،والفساتين المزركشة.عليه أن يقصد الشارع ... نعم الشارع ..
    ( إلى أي مرسى سترسو بنا سفينة الصخب المجنون والغواية الفاجرة تلك ؟؟ أهكذا تكون فرحة العرس؟؟ )
    رأسه تكاد تنفجر، وهو يحاول الهروب من الزقاق الذي تخيله قاربا يعج بالمجانين ويوشك أن تبتلعه الأمواج الغاضبة.
    (كل مجتهد نصيب، ولكل مقدمات نتائج, أي نتائج سيأتينا بها الفجر الجديد)؟!
    كان يجوب الشوارع الفسيحة، تلازمه أفكاره كرفقاء طريق مخلصين، وهو يقزقز شيئا من البذور المالحة في توتر واضح.
    اقترب الفجر، وما زال الصخب يطارد وجدانه من ذلك الزقاق البعيد.
    دلف إلى سكون المسجد، الذي بدأ يفتح أبوابه لمريدي فجر أوشك على القدوم.
    $$$
    عاد خفيفا، بعيد بزوغ شمس يوم جديد. تناول أرغفة، وعدة أقراص من الطعمية، ، وكيسا به شيئا يشبه السلاطة.من مطعم قريب. تأبط رزق يومه الدافيء، ممنيا النفس بوجبة إفطار لذيذة، وكوب من شاي مضبوط، فاليوم جمعة، فليغفو حتى الضحى، لينهض لصلاة يوم مبارك إلى وجدانه منذ الصبى، يذكره بجده وأبويه، وشيخ الكتاب الوقور.
    &&&
    اجتهد متحمسا في مشيته نحو الزقاق، الذي بدا أن الصمت قد سكنه، وزال عنه الصخب المجنون.
    وهناك رأي على البعد، حشدا من عربات الشرطة، وصفوفا من الناس يزج بهم داخلها، وعلى مدخل الزقاق، عربة إسعاف مفتوحة على مصراعيها.
    أقبل عليه صاحبه (وجدي) حلاق الحي ، وأخذ بيده، منتحيا به جانبا، وهامسه في حذر ، ناصحا إياه بعدم الذهاب الى البيت الآن. ولو قدرأن يقضي يومه بعيدا ،أو يبيت خارج الزقاق، يكون الأمر أفضل.فالجميع هنا رهن التحقيق. وأنت مش ناقص وجع دماغ.
    خير ... تساءل فكري مذعورا .. ايه اللي حصل ؟؟
    .” قتلوا بعض في الفرح؟"
    فمن المعتاد في مثل تلك التجمعات والمناسبات ،أن تنشب المشاجرات الدامية في الأحياء الشعبية والعشوائية. ولم .. لا ؟؟ فتلك الفعاليات مليئة بكل أسباب الفتن والعراك، في توافر الخمر والمخدرات ، وتواجد بلطجية وحشاشين، وخمورحية، ونساء ،وراقصات لا يرقصن إلا بسراويل داخلية.
    - رد (وجدي) وهو يحث صاحبه على الابتعاد: ليتهم فعلوا ذلك ..ففي الأمر فضيحة .. وربك الستار.
    $$$
    - صمتت الحارات المجاورة، كما صمت ذلك الزقاق، بعد تلك الليلة المشئومة لأسابيع. كان السبب فيما حدث، بضعة أطفال ، يختبئون في ركن مظلم ،خلف السرادق المشتعل بالصخب، في لعبتهم الأثيرة، التخفي والبحث، ليتعثروا في لفافة متسخة بشيء من الدماء، تحوي وليدا جديدا ؛ وكان أنثى.لا نعلم من ذا الذي ألقى بها حية ،وبحالة صحية جيدة، في ذلك الركن المظلم من الزقاق.

    مارس ٢٠٢٣

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,113
    المواضيع : 317
    الردود : 21113
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    بأسلوبك الوصفي الرائع الذي يجعلنا نتتبع الأحداث بلذة وشغف تعرفنا على
    الأستاذ فكري كشخصية ناجحة ـ إنسان متفوق مجتهد متدين وينعم بالرضى ويسعى
    إلى تكوين نفسه بكل جهد ومثابرة.
    ثم ننطلق إلى شيء مختلف تماما وهو سرادق العرس الذي نصب في الزقاق فملأ الدنيا بالصخب والإزعاج
    وهربا من الضجيج والموسيقى الصاخبة والطقوس الغريبة التي تفرض نفسها على العديد من الأفراح الشعبية
    في مصر والرقص بالأسلحة البيضاء والنارية فضلا عن تعاطي الخمور والمخدرات ، والرقصات الغريبة التي
    تشهدها العديد من تلك الأفراح.
    هرب صاحبنا من الغواية الفاجرة تلك وظل يجوب في الشوارع ليعود إلى الزقاق بعد بزوغ الشمس ليجد
    أن الدنيا قائمة على قدم وساق وعربات الشرطة والأسعاف تملأ المكان فحيث يوجد البلطجية والحشاشين
    وزبانية الشيطان توجد الفتن والعراك الذي يصل إلى القتل .. وتوجد أيضا الخطيئة متمثلة في لقيطة رمتها
    صاحبتها في ركن مظلم من الزقاق.

    القصة جميلة وصفا وأسلوبا وسردا .. ولكن اسمح لي أن أتسائل .. ماهى علاقة شخصية أستاذ فكري المجتهدة
    التي أسهبت في وصفها بوصف الفرح الشعبي وما يحدث فيه من هرج ومرج ، وفي النهاية بتلك اللقيطة!!!
    كان الحدث هنا أكبر مما تحتمله القصة القصيرة ، وكأنها رواية صغيرة.
    أؤكد بانني لست بناقدة ولكني مجرد قارئة ومتذوقة لما أقرأ
    فأرجو أن لا أزعجك برأي.. ولكم كل التحية والتقدير.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 915
    المواضيع : 187
    الردود : 915
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    السلام عليكم أ. نادية .. تحية لوجودك البهي.
    فكري هو المنطق المفقود.فكري تجسيد حي والشاهد على مجتمع متفسخ . إنه الكفاح المتسم بالمباديء والمنطق في بؤرة فاسدة.أما الواقع فهو الواقع اللامنطقي الي يشهد على ولادته المنطق ذاته .. فأي نتيجة نتوقعها من مجتمع مهلهل ، متسم بالفحش واللامبالاة ، بأوىصبح بؤرة انتاج السكارى وأرباب الخلاعة. ونتيجة ذلك كله .. هو أن نلقي باللقاء على قارعة الطريق . فك ي هو النموذج المفقود.. والشاهد على تساقط المباديء.