أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: زجاجة صغيرة صفراء

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 915
    المواضيع : 187
    الردود : 915
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي زجاجة صغيرة صفراء

    زجاجة صغيرة صفراء

    يدق رأسي صداع عجيب.عندما قمت من نومي متثاقلا كان هذا حالي كما هو شأنه كل مساء .
    فركت أذن جهاز التلفاز علني أكسر الملل بشيء من الأخبار,صفعتني وجوه لامعة متأنقة , كان الحوار المتعاكس محتدما لحد التناحر … وخيل ألي أنني رأيت كليهما ممسكا بين سبابته وإبهامه بزجاجة صغيرة لامعة صفراء.
    لم أعر الأمر اهتماما فقد تعودنا على مشاحنات البرامج السياسية التي تكسر رأسك صداعا,و تكسب عقلك مزيدا من الحيرة و البلبلة.
    &&&
    خرجت متثاقل الخطى نحو شارع السوق.حملني الزحام بين الناس. قدماي معلقتان في الهواء, وأنا مدفوع بأجساد المارة فوق رصيف الشارع القديم .
    هناك ,على بعد خطوات, طاولة خشبية تسد نهر الطريق أمام سيل المشاة , فوقها رجل نحيف رفيع الساقين … طويل الرقبة كأبي قردان , تمتد أسنانه من وجهه عبر شفتين غليظتين,كان منحنيا مقوس الظهر… يدور على كعبيه دورة كاملة ,مادا يده في أعين المارة, ممسكا بين سبابته وإبهامه بزجاجة صغيرة صفراء.
    - قرب .. قرب .. يا إنسان..
    - الشربة العجيبة … والوصفة الرهيبة.
    - علاج المزمن والمدمن .
    - وما فشل فيه الساحر والطبيب .وترجع الحبيب ,
    - مضادة لآلام البطن والدود وتخلي الوش مفرود.
    - وتشفي أوجاع المفاصل,و الهم اللي حاصل,
    - والعمى ,والنحافة,و سبب لخفة الدم واللطافة ,
    - وضد السمنة , (واللحم الكثير) و أزمة الضمير.
    - والعجز ,وعدم الخلفة,
    - وفقدان الشهية ,في الليلة اللي هي.
    وأكاد أجزم أنني سمعته يقول:
    - وضد العنوسة وتحبب فيك بالعروسة,
    - وضد غلاء المهور والأسعار,ونسيم في الجو الحار.
    الناس ينتبهون إلى صوت البائع …. يغيرون مساراتهم… يتجهون إلى حيث يقف . ويستمر الرجل :
    - وضد نكد الزوجة, وتصلح العوجة.
    - وتمحو الأمية,و تحلِّي الملوخية
    - وسرها (باتع) في الانتخابات,و نتيجة الامتحانات,
    - وتشفي العضة والخـَضَّة ,
    - والخبطة والرضة,
    الناس تتقاطر من كل حدب وصوب …. تتكاثف …. حول نقطة واحدة ، حيث الطاولة والرجل الذي فوقها.
    - تحميك من القرصة, والغدر م البورصة.
    - وضد الفساد , والخبث والعناد.
    - وأنفلونزا الطيور, والكورونا ومشكلة الطابور , ومن تآمروا علينا.
    الجموع تتكتل , كالنمل حول قطعة الحلوى … وتيتمر نداءات الرجل:
    - وضد الإيدز,وكيد النساء والحموات,
    - وذوبان المرتب.وتأخر الترقيات.
    - ,وهمز الشياطين ,وحقد الحاسدين
    - وأذى الجيران ,وتسلط رئيسك في العمل, وغزو الأمريكان.
    - وأحلى من مضغ اللبان, وخلفة الصبيان.
    - وضد البلاهة والجنون, والصاحب النذل الخئون.
    ارتفع نداؤه فوق كل نداءات الباعة المقيمين والجائلين..
    - قرب يا تعبان .. جرب يا هفتان
    - وبكم؟ بعشرين قرش … يا بلااااش … والعرض ساعتين …
    - خد لك إزازتين وادفع تمن واحدة…
    - والأجر ع الديان …قرب يا عدمان.. جرب يا كحيان.
    رواد المقاهي والحوانيت ,سكان المنازل وأصحاب المحال وعابرو السبيل ومفترشو الأرصفة ..
    شحاذون وأعيان . دلالات , وباعة جائلون.شيوخ وشباب وصبية. نساء وفتيات وصبايا .غرباء ومقيمون , راحلون وواصلون .حشاشون وأتقياء , سوقة ومتسوقون , لصوص وعساكر , يهرعون نحو الطاولة ومن فوقها ….
    وحول نقطة مركزية واحدة …التحم الجميع كتلة واحدة من الهمم واللحم والشغف والعظم والعرق وامتدت أياديهم إليه بال بربع جنيه .
    &&&
    بحركة سريعة بارعة ,راح يخطف النقود , يدسها في عب قميصه,و من كيس متسخ يتدلى من خاصرته ,يخرج الزجاجات الصغيرة الصفراء، ويلقي بها على الناس , ولم يرجع لهم بالطبع باقي المبلغ , فالزحام شديد والإقبال أشد .
    كان الناس يتخاطفون الزجاجات الصغيرة الصفراء في اندفاع محموم وإصرار مذهل ،ووصل الحماس ببعضهم, أنه كان ينتزع الغطاء ويلقي بما حوت الزجاجة في جوفه متلذذا بطعم الإكسير العجيب, مذكرا إياي بحفلات الانتحار الجماعي السريع.

    : كبسة … كبسة …

    ثوان معدودات … والرجل الذي كان فوق الطاولة ,صار تحتها ,حاملا إياها , يشق طريقه هاربا ويندس وسط الزحام , وكيس متسخ يتدلى من خاصرته النحيلة ممتلئ عن آخره.مقوس الظهر دقيق الساقين يذوب بين الأجساد والهموم والأقدام والآلام والعرق والآمال.
    بوحشية، هجم العسس على كل شيء ضربا وصفعا وركلا … يرمون بالأشياء في شاحنة البلدية :
    - طاولات وأقفاص وصناديق ,
    - عربات أطعمة رخيصة ,
    - أكياس منتفخة ,.وبضائع تافهة.,
    وبين صيحات متعددة المصادر والمشاعر والهدف,وقفت مذهولا بين تأوهات المرضى، وأنات المعدمين،وانسللت بحذر وخوف في الفوضى العارمة ,واختبأت في الحافلة المزدحمة, راجعا من حيث أتيت.مددت يدي المرتعشة أتحسسها ،لأتأكد من وجود زجاجتي الصغيرة الصفراء، في جيب بنطالي القديم المهتريء ,فاطمأن قلبي.

    وعلى البعد في الميدان الكبير تعالت صيحات الجند اللاهثة, يحيون قائدهم المغوار إعلانا بانتهاء الغزوة بالنصر المبين .وفي اصطفافهم غير المنتظم وغير المهيب , رأيتهم بأم عيني على البعد, زجاجات صغيرة صفراء تؤدي التحية لزجاجة كبيرة صفراء.

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,105
    المواضيع : 317
    الردود : 21105
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    قال زمان المصري الفهلوي .. ( أحنا اللي دهنا الهوا دوكو)
    وهنا وقف البياع الفهلوي وسط الزحام يبيع الوهم في زجاجات صغيرة صفراء
    تعالج النحافة وضد السمنة، وتشفي الأجساد من الأمراض والنفوس من الهموم
    وسرها باتع في الأنتخابات والأمتحانات...
    فتتقاطر الناس البسطاء المقهورين في حلم إنها وجدت علاج مشاكلها المتفاقمة
    جسديا ونفسيا واحتماعيا... بربع جنية .. يابلاش.

    رسمت مشهدا مبهرا بين زحام السوق بمقدرة بارعة في الوصف والتصوير
    لقصة تحكي هموم شعب يبحث عن حل لمشاكله حتى لو كان بالوهم والخيال.
    قلمك قدير بسخريته ، مضحك حد البكاء.
    تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 915
    المواضيع : 187
    الردود : 915
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    عندما يصر الطاغوت على استمرار سيطرته ، لا يترك مساحة الا للسخرية المريرة.
    أ. نادية الجابي.
    تحية لحرف النابض بالتذوق الراقي، ولشخصك الكريم.

  4. #4
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Nov 2019
    المشاركات : 3,444
    المواضيع : 234
    الردود : 3444
    المعدل اليومي : 2.15

    افتراضي

    رسمت صورة ساخرة لشعب يبحث عن حل لآلامه ومشاكله في حدود إمكانياته البسيطة
    وكأنه السحر الذي سيخلصه من تعاسته، والترياق الذي سيحقق كل أحلامه
    فلا عجب من التهافت على الزجاجات الصفراء والإندفاع المحموم للحصول عليها
    وصف رائع بعين أديب ساخر لواقع مر.

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد نديم شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2006
    المشاركات : 915
    المواضيع : 187
    الردود : 915
    المعدل اليومي : 0.14

    افتراضي

    أ. أسيل .. نعم .. إنه الوهم الذي نعيشه سعيا وراء الكمال والخلود، فنقع في حبائل كل نصاب وشيطان مريد.
    تحيتي لتواجدك الراقي.