أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 22

الموضوع: السّر الدّفـين: كيف أنشأ الخليل نظامه العَروضي..؟

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي السّر الدّفـين: كيف أنشأ الخليل نظامه العَروضي..؟

    كيف أنشأ الخليل نظامه العَروضي فكان مترابطاً شاملاً..؟
    ( السّر الدّفـين )

    هذا الموضوع "السر الدفين"، هو الجزء الثاني المكـمّـل لمقالتنا الأولى في رابطة الواحة التي بعنوان (هل عقلية الخليل عقلية رياضية..؟). فهي تعد امتداداً لها، فلا يمكن فهم بعض العبارات في هذه المقالة الجديدة فهماً صحيحاً، إلّا بالاطلاع على الجزء الأول منها.

    تاريخ نشر هذه المقالة: 18- 4 - 2023

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    ( 1 )

    حتى نستطيع بيان السّر الدفين الذي جعل نظرية الخليل العروضية مترابطة ومتينة وشاملة، والذي يعرفه الخليل أيضاً؛ لأنه سبب ظهور الجزء أسّ نظامه، مع شرط صـحته الذي ظل ملازماً له في كل نظامه (ظن عازم). هذا السر الذي أفرزَ بالمعيّة - ودون تقصّد من الخليل- ظاهرة التقليب بكلا نوعيها، أي التقليب الثابت والتقليب المتحرك على حدّ وصف محمد العلَمي؛ هذه الظاهرة التي فُـتِن بها البعض كما رأينا. وهو نفس السر الذي جعل الكل عـاجزين عن الإتيان بنظرية صوتية عروضية أقوى من نظرية الخليل، أو حتى مساوية لها في القوة.

    فليس هناك أقوى من نظرية الخليل العروضية إذا غابت نظرية قضاعة عن الساحة الصوتية والعروضية..! هذا على حدّ زعم صانعها طبعاً (أبو الطيب القضاعي)، وهو زعمٌ لا ألزم به أحداً إلّا نفسي ومن تبعني. وإذا اشتركَ بعد ذلك ذوي النباهة والمعرفة بهذا الزعم، فسوف يثبت هذا الزعم لعروض قضاعة في الساحات الصوتية والعروضية؛ إذا شاء له الله ذلك طبعاً؛ فصحة الفكرة وقوتها ليست الشرط الوحيد لهيمنة الفكرة على الساحة المعنية، فما لم يقدر الله أتباعاً للفكرة يحملونها عن صاحبها، فستظل حبيسة كُتب صاحبها.

    فأبو الطيب يشهد بأن نظرية الخليل العروضية هي نظرية مترابطة وشاملة، حتى لو شابها انتقادات كثيرة. ولا احد ينكر أن نظام الخليل العروضي قد كان لَبِنة ناقصة في بناء علوم العربية، قد فطن الخليل لنقصانها من البناء فشيّدها على ما اجتهد. وليس الذنب ذنبه إن لم يأت أحد ليستلم الراية منه. فهو يستحق الشكر لفطنته على اللبنة الناقصة من البناء وإقامتها، فمنعت العابثين من إفساد بضاعة العرب [الشعر بضاعة العرب]؛ فجزى الله الخليل خيراً، فرُبَّ مُبَلـَّـغٍ أوعى من سامع.

    لكن النظريات عموماً، بما فيها نظرية الخليل العروضية ونظرية قضاعة، بل وحتى النظرية النسبية لانشتاين في الفيزياء، جميعها تقبع في خانة الظن لا في خانة اليقين، لكن شتان شتان بين ظنّ منخفض القيمة قام على دلائل وقرائن مهزوزة ومفككة، وبين ظن مرتفع القيمة قام على دلائل وقرائن قوية ومترابطة، كنظرية الخليل ونظرية قضاعة. ومع أن صاحب عروض قضاعة قد اتكأ على جُهد الخليل الجبار في صقل بنيان نظامه العروضي، وهو أمر أدين فيه للخليل، لكن علم عروض قضاعة في كشفه لحقيقة الإيقاع العربي، هو مؤيد بدلائل وقرائن أقوى من التي في نظرية الخليل، وترابط مكونات نظرية قضاعة أقوى من ترابط مكونات نظرية الخليل.

    فعلى الرغم من اشتراك نظرية الخليل ونظرية قضاعة في أن كلّاً منهما معنِـيّ بنظم شعراء الجاهلية ومَن هُم في حكمهم حتى عصر بين الدولتين؛ إلّا أن هناك اختلافاً جوهرياً في البُنيان الذي قام عليه كلّ من العلمَين، فعروض قضاعة قد قام على القواعد الصوتية والإيقاعية التي سارت عليها قرائح العرب. وهذا بعكس نظام الخليل الذي قام على قدر ما وصل للخليل من قوالب شعر العرب، فهذه القوالب هي ما شكلّت نظامه ككل، بحيث إذا استدرَك عليه قالب لا مكان له فيه، تضعضع نظامه ووصف هذا القالب بالشذوذ كما هو معروف.

    وقيام نظام قضاعة على ما ذكرنا، هو سبب قدرة أبي الطيب أكثر من غيره على كشف السر الدفين المشار إليه. فأبو الطيب قد تعاملَ مع المادة الخام التي تعامل معها الخليل، ثم هضمها هضماً عميقاً، ثم تفرّس في نظرية الخليل التي سبق وجودها وجود نظرية قضاعة، فنظر كيف تعاملت نظرية الخليل مع هذه المادة الخام؛ فتكشّف له بعض ثغراتها التي لم يكشفها غيره. ثم بدأ البحث في العروض من الصفر تقريباً، متخلياً عن الآراء المسبّقة. وكان نتيجة ذلك هو انبثاق نظرية قضاعة التي تفوّقت على نظرية الخليل بمراحل. وما كان ذلك إلّا لأن أبا الطيب القضاعي قد خرج على أساسات نظرية الخليل الصوتية والإيقاعية؛ فمن سيظل مرتهناً لها فسيظل دائراً في فلك الخليل رغم أنفه، حتى لو ادّعى عكس ذلك، وحتى لو استند على مقطع الأصواتيين الذي ملأ الدنيا جعجعةً من غير طحن..!

    أقول: فحتى نستطيع بيان هذا السّر الدفين، فلا بد لنا من بعض المقدمات الضرورية عن حقيقة الإيقاع العربي بمنظور قضاعة، التي ستزيل من الأذهان بعض الآراء المسبّقة عند الشخص، كي نضمن أن يُفهم عنا حقيقة الكلام القادم كما أردناه. فبعض القراء قد يكونون متأثرين بمقولات علم أصوات اللغة المحدَث؛ هؤلاء الذين انقلبوا حتى على مفهوم الحرف الصوتي الصحيح في أصله. كما أنّ المتشبّع بتقريرات نظرية الخليل العروضية، لن يستطيع منع نفسه من مقارنة أقوالي بأقواله. ومن فُـتن منهم بالأرقام، استناداً على مقولة "عقلية الخليل الرياضية"، ومقولة " أن الذائقة العربية في وزن الشعر هي ذات صفات رياضية دقيقة مطردة"، فهذا عائق اكبر من جميع ما سبق. إضافة إلى عدم تفريق البعض [أو تعمّدهم لعدم التفريق..!]، بين التقديس الذي هو مذموم، وبين الاحترام والتقدير الذي هو واجب مستحَق عن جدارة للخليل رحمه الله، في رقبة كل عربي ومسلم.

    فكل هذه المعيقات ستمنع الشخص من إدراك السّر الدفين المقصود، على الوجه الصحيح الذي يريد صاحب عروض قضاعة بيانه. فهذا السر الدفين هو من مكتشافات نظرية قضاعة العروضية، التي تفوّقت على نظرية الخليل بأشواط كثيرة كما قلنا. وبالتالي، فلا بد من حضور بعد المفاهيم الضرورية في عروض قضاعة، برفقة المصطلحات الضابطة لها فيه؛ لينفتح المجال أمامنا دون معوّقات معرفية وفكرية، كي نتحدث عن هذا السّر الدفين المشار إليه.
    التعديل الأخير تم بواسطة ابو الطيب البلوي القضاعي ; 18-04-2023 الساعة 12:41 AM سبب آخر: الخط

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    ( 2 )

    الآن وبعد تلك المقدمة الضرورية نقول: قد سبق لنا وأن قلنا بأن الخليل وأبا الطيب يقرّان بوجود واقع الدائرة، لكنهما يختلفان في ماهيتها في عروض شعر العرب (يختلفان في مفهومها). فمفهومنا للدائرة الإيقاعية العربية يختلف عن مفهوم الخليل عنها؛ فالدائرة بما أنها كيان إيقاعي في الأصل، فيجب أن تُقرأ على أساس المكوّن الإيقاعي الذي يؤلّفها، وليس على أساس المكوّنات الصوتية التي تتألّف منها هذه المكونات الإيقاعية، على ما هو الحال في دوائر نظام الخليل المقروءة من الوتد والسبب.

    فالدائرة بمفهوم قضاعة هي امتداد لا متناهي من الأنساق المنتظمة التكرار من كلا الطرفين؛ بحيث لا يزيد التكرار فيها عن نسقين، وإلّا فهي ليست دائرة عربية. (ظن عازم). فعروض شعر العرب برأي أبي الطيب، لم يقم على الأجزاء إنما قام على ثلاثة أنساق عُقدية [(نسق الفتلة لا نعم)- (نسق القنطرة لا لا نعم)- (نسق العنقاء لا لا نعم)]. وعلى ذلك، فليس للدائرة العربية طول كما افترض الخليل في دوائره الهندسية، إنما الطول هو للسلاسل المقتطعة منها (ظن عازم)؛ فهناك أحكام اقتطاع للسلاسل من الدائرة العربية، مهما كان طول السلاسل، قد راعاها العرب بشكل مدهش كما سنرى بعد قليل.

    فإذا مُثِّلت هذه الأنساق على هيئة دائرة، فهي حرّة الدوران في كلا الاتجاهين. كما في هذا الشكل عن دوائر العرب العُقدية الأربع بنظر نظام قضاعة، والتي يسميهما عروض قضاعة من باب التسهيل، على اسم أول بحر اشتُق منها بحسب أطول نسق مؤلّف لها. فدائرة الرجز ودائرة البندول، وكذلك دائرة قحطان التي حلّت محل دائرة المشتبه المرفوضة في عَروض العرب، تقتصر على نسق واحد في تأليفها. أمّا دائرة البسيط فهي تتألف من نسقين مكررين بانتظام.

    دائرة الرجز والبسيط بالانساق.jpg
    https://photos.app.goo.gl/F1WhoEwp5vMCX8ck8

    دائرة البندول وقحطان بالانساق.jpg
    https://photos.app.goo.gl/6RTAvRYczNhLHPas8

    فدائرة الرجز تقتصر على نسق القنطرة في تأليفها، فيكون بحر الرجز هو أول بحورها. والكامل والوافر ضمن دائرة الرجز، لأن الإيقاع الأولي بين الكامل والرجز من جهة، والوافر والهزج من جهة؛ هو إيقاع أولي مشترَك بينهما كما قلنا من قبل، والقانون الصوتي العامل في كل اثنين منها هو ما سيفرّق بينهما (التكافؤ والخبب)، على تفصيل خاص ليست هذه المقالة مكانه.

    ودائرة المشتبه التي حكم عروض قضاعة بأنها ليست دائرة عربية، فقد حلّت محلها دائرة قحطان التي تقتصر على نسق العنقاء في تأليفها، فيكون (بحر قحطان) بديل المقتضب، هو أول بحورها لكونه يبتدئ بعنقاء. ودائرة البندول التي منها المتقارب، تقتصر على نسق الفتلة في تأليفها، فيكون بحر البندول الذي طرحه الخليل من نظامه كبحر حَي، كما قلنا وبسبب ما قلنا، هو أول بحورها. أمّا دائرة البسيط فهي تتألف من نسق القنطرة ونسق الفتلة مكرّران بانتظام، فيكون البسيط هو أول بحورها.

    وإذ تلاحظ، فإن شرط انتظام تكرار الأنساق في الدائرة هو شرط ضروري؛ سواء كانت الدائرة الإيقاعية عربية أم غير عربية. فلولا ذلك لَما استحقت دائرة المشتبه وصفنا لها من قبل بكونها دائرة إيقاعية بالمعنى العام؛ مع أنها ليست دائرة عربية كما قلنا. فأنساقها الثلاثة المؤلّفة لها مكررة فيها بانتظام فيما لو تابعت الدوران على دائرة المشتبه الهندسية لمرتين على الأقل. أمّا شرط أن لا يزيد التكرار في الدائرة عن نسقين وبانتظام، فهذا الشرط إنما يميز الدوائر الإيقاعية العربية عن غير العربية.

    دائرة المشتبه الهندسية بالانساق.jpg


    وبما أنّ الدائرة الإيقاعية في شعر العرب هكذا هو حالها بنظر أبي الطيب، وأنه لا طول لها إنما الطول هو للسلاسل المقتطعة منها كما قلنا. فإنّ هناك أحكاماً لاقتطاع السلاسل من الدائرة العربية، قد راعاها العرب بشكل مدهش كما قلنا؛ من ضمنها الحدّ الأدنى لطول السلسلة المحقق للسقوط الإيقاعي على الدائرة (قواطع البحور). وهذه الأحكام هي ما حافظت على أن يكون انتظام الأنساق في الدائرة منعكساً في السلاسل المقتطعة منها، في أيّ طول للسلسلة حقّق ذلك. فإذا لم تكن كذلك فهي ليست سلسلة عربية، حتى لو أمكن إسقاطها نظرياً على الدائرة العربية بطول التام القياسي..!

    فالمعوّل عليه في انتماء السلسلة لنظام العرب، سواء كسلاسل قياسية تامة، أو كسلاسل أقصر طولاً من طول التام؛ هو السقوط الإيقاعي للسلسلة على الدائرة العربية المستعملة (1)؛ على اعتبار أنّ الدائرة هي مرجع الانتظام الإيقاعي الكلّي للأنساق وطوالعها في شعر العرب (ظن عازم)، وليس أنها مجرّد حقيبة لتجميع عدة بحور معاً كما هو حالها في نظام الخليل.

    (1): قلنا أن من أحد شروط كون الدائرة عربية أم ليست بعربية، غير شرط انتظام تكرار الأنساق فيها طبعاً، هو أن لا يزيد تكرار الأنساق فيها عن نسقين. وبناء على هذا الشرط الصحيح، فيمكن وجود دائرتين عربيتين تدخل العنقاء فيهما. فإذا جمعنا نسق العنقاء مع نسق القنطرة وكررناهما بهذا الانتظام، ستنشأ دائرة السراب العربية ثنائية النسق. أمّا إذا جمعنا نسق العنقاء مع نسق الفتلة وكرّرناهما بهذا الانتظام، فستنشأ دائرة الفراغ العربية ثنائية النسق أيضاً. لكن دائرتي السراب والفراغ دوائر مهملة وجوباً، أي لا يجب استعمالها مطلقاً على الرغم من أنها دوائر عربية (ظن عازم). وهذا هو سبب منحنا لها هذه المسميّات (الفراغ والسراب). وتفسير ذلك يتعذر في هذا الموضع. ولذلك استعملت في المتن عبارة "الدائرة العربية المستعملة"، وذلك لأخرج هاتين الدائرتين العربيتين المهملتين من الاعتبار.

    فدوائر نظام الخليل لا تراعي سوى قضية الإسقاط النظري على الدائرة، فهي لا تستطيع مراعاة الإسقاط الإيقاعي حتى لو أرادت..؟ ذلك أن دوائر نظامه كما قلنا من قبل، موظّفة في نظامه كي تمنح الشرعية للأجزاء المنضوية فيها فقط؛ وسبب ذلك أنّ الجزء نفسه الذي هو الأداة الإيقاعية الأهم في نظامه، ليس له شرعية في ذاته كما قلنا ورأينا. وهذا ما جعل دوائر نظام الخليل في واقع الحال، أشبه بالحقيبة لتجميع عدّة بحور معاً في دائرة واحدة، في الصورة القياسية التامة فقط، الأمر الذي جعل دور الدائرة باهتاً في نظام الخليل على ما هو مشاهد. وحال دوائر الطريقة الرقمية للأستاذ خشان، لا يختلف كثيراً عن حال دوائر الخليل، فهي إنما نسخة رقمية عنها.

    فبدون حضور واقع الدائرة العربية عموماً، فليس هناك أيّة ميزة لسلسلة عن أخرى، سواء كانت تامة الطول أو دون التامة، أليس كذلك..؟ ولو غابت فكرة الدائرة عن الساحة العروضية من منظور قضاعة على الأخص، مع غياب أحكام الاقتطاع الإيقاعية منها طبعاً؛ سيغدو أيّ تفسير لسبب اقتصار العرب على السلاسل التي مضوا عليها دون غيرها، لا حُجة قاطعة فيه لأحد على أحد. وحينها سيكون القول المقبول عقلاً أكثر من غيره المفسّر لذلك، أي عند غياب منظور قضاعة؛ هو القول بأن السلاسل المشابهة لسلاسل العرب القياسية، التي لم ينظم عليها شعراء العرب المعتَدّ بنظمهم؛ هي فقط لم يحالفها الحظ في أن تكون بحوراً، بما فيها ذلك المهملات القياسية التي أثبتها الخليل في دوائر نظامه..!

    فالقول بأنّ السلاسل التي لا مكان لها في نظام الخليل لا تمثّل شعراً، حتى وإن أشبهت سلاسل العرب في بعض الأشياء؛ للالتفاف على هذا الإشكال؛ على ما قال الأخفش وتلميذه الزجّاج من بعده [(العروض للأخفش، ص 143 ، ت/ 221 هـ). (العروض للزجّاج، ص 120، ت/ 311 هـ)]. أو هي على الأقل تمثّل موزوناً لا شعراً على ما يقول الأستاذ خشان، والمعنى في الحالتين واحد. (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص 42، 245). فهذا القول لا يعفي الباحث العروضي من تبعيّة ما قلناه في الفقرة السابقة، فهذا القول منهم مؤسّس على نظرية الخليل القاصرة عن حصر السلاسل الممكنة الوجود على ما ظهر لنا، وقاصرة عن الحكم على السلاسل صوتياً وإيقاعياً، حكماً قاطعاً مريحاً للعقل والنفس، على ما أشرنا في مقالة سابقة لنا.

    ثم أنّ هذا القول مجافٍ للصواب في ذاته تماماً، وهو ناتج عن ما استقر في الأذهان من أنّ نظم العرب الجاهليين ومن هم في حكمهم، هو أعلى طراز من النظم يطمح إليه الشاعر العربي في كل عصر؛ لكن مفهوم الشعر أوسع بكثير من مفهوم العروض. فمفهوم الشعر عموماً، هو استخدام جُمل اللغة المعينة في الشعر بأسلوب مثير للعواطف، غير الأسلوب العادي في الكلام. فالمتلقون للشعر المتذوقون له، في أيّ لُغة كانت؛ لا يقبلون من الشاعر أن يقول لهم ما يعرفونه بالطريقة التي يعرفونها، إنما هُم يتوقعون منه أن يقول لهم ما يعرفونه بطريقة لا يعرفونها (الجملة في الشعر العربي، ص 22- محمد حماسة عبد اللطيف). والشعر بمفهوم العرب موزون مقفّى، وعند غيرهم من الأقوام قد يكون موزوناً على شرط العرب وقد لا يكون. وعلى ذلك، فعند العرب شعر، وعند الأقوام غيرهم شعر؛ أمّا أنّ شعر العرب أعلى كعباً من شعر غيرها بسبب كذا وكذا، فهذا تفصيل إضافي لا يسلب استحقاق ما أنتجه غير العرب بهذا الشرط مسمّى شعر.

    كما أنّ الإيقاع مجرّداً هو إيقاع كما قلنا من قبل، فأن تُبدع كشاعر سلسلة صوتية وتمضي عليها في كل أشطر قصيدتك، ودون إمضاء للقانونين الصوتيّيَن عليها [التكافؤ والخبب]، فهذا إيقاع سواء وافق نظم العرب أم لم يوافقها؛ وهذا التقرير صحيح أيضاً مع عَروض غير العرب. أمّا محاولة معرفة طبيعة القوانين الإيقاعية التي راعتها قرائح العرب، وصناعة نظرية عروضية مع مسطرة لها لقياس لذلك لأيّ سبب كان، فهذا إنما هو تأصيل وتقعيد لعروض العرب تمييزاً له عن غيره فقط. (2)

    (2): راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي عنوانها: (الفرق بين الإيقاع المجرّد والإيقاع العربي، وأهمية العروض للعربية). وراجع مقالتنا في رابطة الواحة التي عنوانها (صعوبة نظام الخليل وتعقيده، آتيةٌ من ذاته، لا من ذات المشتغلين فيه مُعلّمين أو مُتعلّمين)، فقد بينا فيها كيف أن نظرية الخليل قاصرة عن الحكم على السلاسل المستجدَة صوتياً وإيقاعياً.

    والشعور والذوق لا يركن عليهما في الحكم العقلي على السلاسل أهي عربية أم غير عربية، فلو كانا هما طريق ذلك، لَما أجهد الخليل نفسه ولا أجهد أبو الطيب نفسه، في صناعة كل منهما لنظرية عَروضية تخصّصت بنظم شعراء الجاهلية ومَن هُم في حكمهم حتى عصر بين الدولتين؛ فأحكام هاتين النظريتين على السلاسل صوتياً وعروضياً، هي أحكام عقلية وليست أحكاماً شعورية. (3)
    فالذوق ليس بمقياس معتبر، فها هي سلسلة الدوبيت غير العربية إطلاقاً، قد نظم عليها بعض الشعراء بعد الخليل، فاستساغ إيقاعه كثير من العرب قديماً وحديثاً..! لدرجة دفعت الدماميني بسبب غلبة الشعور عليه، إلى محاولة إلصاقها بنظام العرب غصباً؛ مستعملاً بعض تقريرات نظام الخليل الخاطئة بنظرنا، وفوق ذلك قد استعمل الدماميني هذه التقريرات بتعسف وتكلّف غير مقبول إطلاقاً؛ فادعى أنّ الدوبيت هو نفسه الوافر..! إنما قد أصاب كل أبياته الخرم والزحافات المختلطة المرفوضة بنظرنا (زحاف العقل وزحاف النقص). (الغامزة، ص 20)

    (3): أي نعم أن تقدير مراتب الزحاف الثلاث في نظام الخليل (مرتبة الحَسن، والصالح، ومرتبة القبيح)، التي هي تعبير عن ناحية إيقاعية، قد خضع بعض تقديرها لذوق الخليل، أي للشعور؛ والبعض الآخر في تقديرها قد جاء استناداً على نسبة شيوعها في الشعر (دراسة في التأسيس والاستدراك. ص 143، محمد العلمي). فسواء اتفقنا مع فكرة مراتب الزحاف نفسها، ومع تقديرات الخليل لها أم اختلفنا معه فيها؛ لكن هذا كان على مستوى غلاف نظريته وليس نواتها. ثم أن هذا كان على مستوى الإيقاع الثانوي المزاحِف، وليس على مستوى الإيقاع الأولي غير المزاحف بعد. فمراتب الزحاف هي وصفٌ لمدى حُسن الزحاف أو قبحه في البحر المعين، وهي ثلاث مراتب في نظامه كما قلنا. فنواة نظرية الخليل هي الجزء والدائرة ومكونات الجزء الصوتية (الأسباب والأوتاد)، والزحاف والعلة المرتبطان بالأسباب والأوتاد ضمن الجزء. وما عدا ذلك في نظامه هو غلاف نواة نظريته، كالعروضة- الضرب - المجزوء - المنهوك - الاعتماد المعاقبة- المراقبة- المكانفة- الاعتماد- الخرم- التشعيث- ومراتب الزحاف]

    وإرجاع الحكم على السلاسل القياسية المشابهة لسلاسل العرب في كونها سلاسل عربية أم غير عربية، إلى اللغة العربية، أي في كونها غير متفقة مع بناء الجملة العربية والكلام العربي. وهو رأي طرحه الدكتور حسني عبد الجليل في محاولة منه لتفسير سبب عدم نظم العرب على البحور المهمَلة في دوائر نظام الخليل (ميزان الذهب، ص 123، الهامش رقم 1 والهامش رقم 2). فمع أن البحور المهملة هي احد احتمالات السلاسل القياسية الممكنة الوجود وليس كلها، لكن ما سينطبق عليها بحسب رأي حسني عبد الجليل، سينطبق كذلك على باقي احتمالات السلاسل القياسية المشابهة لسلاسل العرب، الممكنة الوجود عن غير طريق الدوائر.

    لكن رأيه هذا أُقدّره بدرجة الظن الغافل، لأن واقع البحور المهملة في الدوائر الإيقاعية محسوس تماماً، وكونه لم ينظم عليها أحد من الشعراء العرب المعتَد بنظمهم، هو أيضاً واقع محسوس. إنما إرجاع السبب في عدم استخدام العرب لها لكونها ليست متفقة مع بناء الجملة العربية، فهذه ركيزة مضللة ومرفوضة عقلاً. فمناط البحث هنا هو بحث إيقاعي ولا دخل للغة العربية بذلك إطلاقاً؛ فاللغة العربية مرنة جداً، فهي تستطيع التلبّس بأيّ إيقاع تريد، وها هي قد تلبّست بالدوبيت غير العربي.

    ولذلك، يجب البحث عن سبب معقول لتفسير ذلك غير ما ذكر حسني عبد الجليل. وهذا السبب المعقول يجب أن ينحصر بسبب إيقاعي فقط، أي هل هذه السلاسل القياسية التي لم تحظ بشرف نظم العرب عليها، محقّقة لشرط العرب الإيقاعي أم لا. ولا سبيل إلى الحكم على ذلك بموثوقية عالية، إلّا بحضور فكرة الدائرة العربية لأنها هي مرجع الانتظام الإيقاعي الكلّي للأنساق وطوالعها في شعر العرب؛ فبدون حضور واقع الدائرة العربية عموماً، وعلى الأخص فكرة الدائرة بمنظور قضاعة، فليس هناك أيّة ميزة لسلسلة عن أخرى كما قلنا.
    التعديل الأخير تم بواسطة ابو الطيب البلوي القضاعي ; 18-04-2023 الساعة 12:59 AM سبب آخر: اضافة صور

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    ( 3 )

    ففكرة الأنساق العُقدية الثلاثة هي فكرة إيقاعية، مثلها مثل فكرة الأجزاء العشرة الإيقاعية بنظر الخليل، هذه التي حاولت ترجمة هذا التكرار المنتظم للأنساق في دوائر العرب وفي السلاسل المقتطعة منها؛ لكنها فشلت في ترجمتها الترجمة الصحيحة. فالأنساق شبيهة بها من حيث كونها تسلسلات وليست سلاسل، ومن حيث كونها كيان إيقاعي حتى لو تألّف من مكوّنات صوتية في ذاتها.

    فإنه وإنْ كانت السلسلة الصوتية في الشعر العربي لها تأثير إيقاعي بمجملها، لكن هذا التأثير الإيقاعي لها لم يحصل إلّا بسبب التكرار المنتظم للأنساق الإيقاعية التي تتألف منها السلسلة في الشعر العربي. وليس بسبب التكرار المنتظم للمكوّنات الصوتية المؤلّفة للأنساق فيها فقط، أو حتى للمكوّنات الصوتية المؤلّفة للأجزاء فقط؛ مهما كانت رؤية كل باحث صوتي أو عَروضي لهذه المكوّنات الصوتية؛ أهيَ سببين ووتدين بنظره، أم حروف متحركة وساكنة فقط، أم وحدات صوتية، أم مقاطع أصواتية، أم كانت أرقاماً جوفاء..!

    وبالتالي، فمن يتعامل مع السلسلة كاملة من خلال الاقتصار على علاقة الأوتاد بالأسباب فيها، معتبراً أنّ السلسلة بمجملها هي نفسها الكيان الإيقاعي، أسوة بما هو حالها في دوائر الخليل؛ فهذا خطأ فادح شنيع، لا يمثّل فكرة الإيقاع نفسها، ولا يمثّل كذلك حقيقة الإيقاع في عروض شعر العرب. وبالتالي هو لا يمثّل حتى فكر الخليل ومنهجه العروضي الذي انتبه لهذا الأمر، فالخليل في نظامه قد اختار فكرة الجزء لتقطيع السلاسل فقط، وليس لتقطيع الدائرة بالأجزاء.

    فدوائر نظام الخليل، وبسبب من طبيعتها [ماهيتها]، لا يمكن قراءة إيقاعها من خلال الأجزاء، على ما حاول أن يجتهد أبو الحسن العروضي وغيره؛ فكانت محاولته في منتهى التعقيد على عكس مراد الخليل (الجامع في العروض والقوافي، ص 242). (انظر الرسم لترى كيف هي محاولته)

    دائرة المختلف- ابو الحسن العروضي.jpg
    https://photos.app.goo.gl/zDwrbg6c6nC1bT1r7
    (دائرة الطويل (المختلف) كما صورها أبو الحسن العروضي)

    دائرة المشتبه - ابو الحسن العروضي.jpg
    https://photos.app.goo.gl/ACeqje4fFSxVpiH27
    (دائرة المشتبه كما صورها أبو الحسن العروضي)

    فدوائر نظام الخليل إنما تُـفك فقط من خلال الأوتاد والأسباب المتموضعة على محيط دوائره الهندسية [وليس تُقرأ إيقاعياً منها]. وهي تُفك بداية من المكون الصوتي الذي حدّده الخليل عليها، وهو غالباً وتد مجموع مربوط بالبحر الذي هو أصل الدائرة..؟ ذلك أن دوائره مصمّمة لتفرز سلاسل قياسية محدّدة الطول مسبّقاً، وبالتالي هي لا تستطيع حتى لو أرغمتها؛ على أن تتوفر على أحكام اقتطاع إيقاعية كالتي في نظام قضاعة كما سنرى بعد قليل، هذه التي راعها العرب عند الاقتطاع من الدائرة في جميع الأطوال، وليس فقط للطول القياسي.

    ومعظم الرقميين ارتكبوا هذا الخطأ الشنيع في النظرة للإيقاع، أي عاملوا السلسلة بمجملها على أنها هي نفسها الكيان الإيقاعي، مهما كان طولها. يأتي على رأسهم الأستاذ خشان صاحب الطريقة الرقمية الأشهر؛ فقد اقتصر في طريقته على تكرار المكوّنات الصوتية التي قالها الخليل للجزء على طول السلسلة؛ أي ألغى التفاعيل [أو ألغى الحدود بين التفاعيل بحسب تعبيره] (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص: 22- 24، 236)، (منظومة الخليل لعلم العروض، خشان، ص 5- 13).

    وهو يحسب بذلك انه يشرح منهج الخليل بعيداً عن وَهْم التفاعيل، تمثيلاً منه لفكر الخليل الرياضي الشمولي بزعمه. وظن بهذا الصنيع أنه ما زال وفِـيّـاً لمنهج الخليل الذي لم يكشفه احد غيره..! فلو كان الأمر كما ظن الأستاذ خشّان ومعظم الرقميين، لاقتصر الخليل على رواية التنعيم الساذجة في تأصيل سلاسل العرب، هذه التي استفاد منها الخليل بداية صنعه لنظامه (4)؛ طبعاً مع إجراء بعض التطوير البسيط عليها لتحقيق هذه الغاية البسيطة..! (ظن ثاقب)

    وصنيع الرقميين هذا عند العارف ليس بمستغرب، ذلك أنّ الهدف النهائي والأوحد لجميع الطُرق الرقمية في العروض - حتى لو ادّعى الرقميون عكس ذلك- هو فقط تسهيل الاستدلال على البحر أو على قالب معين فيه؛ هذه التي يعاني منها متعلّمي نظام الخليل الصعب بطبعه، بسبب أنّ شعر العرب به وجهي إيقاع، أولي سالم من الزحاف، ووجه ثانوي مزاحف. وهذا الهدف لهم لن يتحقق لهم إلّا بهذا الصنيع، فالجزء وحده ليس طريق معرفة ذلك، لكونه بعض من السلسلة لا كلها، ولأن الجزء حمّال أوجه كثيرة؛ خاصة مع دخول الزحاف والعلل المربوطة بدوائر الخليل على الخط.
    والدليل على ذلك أنه ليس خشان وحده من فعل هذا، بل فعله كذلك احمد مستجير ومحمد طارق الكاتب؛ وهما على ما أشرنا من قبل، أصحاب طُرق رقمية قبل طريقة خشان الرقمية. أمّا طريقة الشيخ جلال الحنفي الرقمية (1978م)، فمختلفة تماماً عن هذه الطُرق، فهو إنما منح الأجزاء أرقاماً، في صورتها السالمة والمزاحفة والمعلولة، وهو بالمناسبة لا يقيم للدائرة كثير قيمة في طريقته هذه. (العروض تهذيبه وإعادة تدوينه، ص 39- 58).

    (4): رواية التنعيم، واستفادة الخليل منها بداية صنعه لنظامه: قال أبو بكر محمد القضاعي: {وتكاد تجزئة الخليل تكون مسموعة من العرب، فإنّ أبا الحسن الأخفش روى عن الحسن بن يزيد أنه قال: سألتُ الخليل بن أحمد عن العروض، فقلت له: هلّا عرفت لها أصلاً..؟ قال: نعم، مررتُ بالمدينة حاجاً، فبينما أنا في بعض طرقاتها، إذ بصُرت بشيخ على باب يعلّم غلاماً، وهو يقول له، قُل: نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم نعم ... نعم لا نعم لا لا نعم لا نعم لا لا. قال الخليل: فدنوت منه فسلمت عليه، وقلت له: أيـّها الشيخ، ما الذي تقوله لهذا الصبي..؟ فذكر أنّ هذا العلم شيءٌ يتوارثه هؤلاء الصبية عن سلَفِهم، وهو علم عندهم يسمّى(التنعيم)؛ لقولهم فيه: نعم. قال الخليل: فـحجَجتُ ثم رجعت إلى المدينة فأحكمتُها}. (دراسة في التأسيس والاستدراك لمحمد العَلمي، ص 37).

    ولست الوحيد الذي يقول بأن الخليل قد استفاد من رواية التنعيم بداية صنعه لنظامه. فهناك كثر قالوا بذلك، يأتي على رأسهم الدكتور محمد العلمي، فقد قال: {وعصر الخليل كان عصر وضع العلوم العربية، ولم يكن العروض بدعاً من غيره من العلوم. **، ولا شك أن الخليل حين وضع علمه، لم يبنه من فراغ، ذلك أن التنعيم أو المتير اللذين سبقت الإشارة إليهما، يمكن أن يكونا الأساس الذي بنى عليه عمله، خصوصاً انه يصرّح بأن أصل العروض هو ما وجده عند الشيخ الذي يعلم صبية. فقد يكون التنعيم هو الذي بعثه على التفكير في أصل نظامه} (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 60). والدكتور سيد البحراوي قال بذلك أيضاً في مقدمة تحقيقه لكتاب العروض للأخفش (العروض للأخفش: ص 129)؛ وكلام البحراوي عن هذا الأمر قريب من كلام محمد العلمي السابق الذكر. أقول: وليس عيباً أو قدحاً في المرء أن يستفيد من إشارات من سبقه، فالعلوم البشرية علوم تراكمية بطبعها، فأبو الطيب أيضاً قد استفاد من رواية التنعيم واستفاد من نظرية الخليل في نفس الوقت، فعروض قضاعة تخلّقَ في رَحِم عَروض الخليل ثم خرج مولوداً جديداً لا صِلة له بأُمّه. بل أن من الشروط العقلية والاجتماعية والأكاديمية، الواجبة على من يأتي نظرية جديدة في أيّ موضوع، أن يبين ضعف وثغرات النظرية السابقة في الميدان، التي تعرضت لنفس الموضوع؛ وهذا ما فعله أبو الطيب القضاعي.


    فحتى الوتد المفروق والسبب الثقيل الذين قالهما الخليل، كمكوّنات صوتية بنظره وليس كمكوّنات إيقاعية في نظريته العروضية، قد كان الجزء ذو القيمة الإيقاعية هو سبب مولدهما في ذهن الخليل وفي نظامه العروضي، وليس السلاسل الصوتية هي سبب مولدهما في ذهنه. وقد ظلّا موجودين في طريقة خشان الرقمية التي ألغت التفاعيل فزالت الحدود بين التفاعيل في طريقته..! (العَروض رقمياً، ص: 29، 32 للسبب الثقيل، وهو يعترف بالوتد المفروق على استحياء تحت مسمّى "التوأم الوتدي"، ص 95).

    فالوتد المفروق كان لأجل أن نظامه لا يحتمل التجزيء التساعي كما قلنا ورأينا. أمّا السبب الثقيل في نظامه فقد كان لأجل فصل الكامل عن الرجز والوافر عن الهزج؛ على مستوى جُزئَـيّ الكامل والوافر (متَفاعلن // - /0 - //0، مفاعلَتن //0 - // - /0)؛ وليس على مستوى السلسلة الصوتية لهما بطولها على ما ظن البعض، حتى لو بدا ظاهر الأمر هكذا. فكلّ اثنين من هذه البحور الأربعة يشتركان بإيقاع أوّلي واحد كما قلنا؛ مع أنها بحور مختلفة عن بعضها في واقع الشعر.

    فلم يستطع الخليل في ظلّ الأساسات التي ينطلق منها في نظامه، الفصلَ بينها إلّا برابط السبب الثقيل المزروع في جُزئَـيّ الكامل والوافر، وليس المزروع في سلاسلهما. فبالزحاف الذي سيسكّن ثاني السبب الثقيل في كل من هذين الجزأين، سيتحوّلان إلى نفس تنعيم جُزئَـيّ الرجز والهزج (متْفاعلن = مستفعلن /0 - /0 - //0 وَ مفاعلْتن = مفاعيلن //0 - /0- /0)، اللهم أنها في الرجز والهزج ستكون صورة قياسية لهما، وستكون في الكامل والوافر صوراً ناتجة عن صور مزاحفة للجزء القياسي لكل منهما، أي بزحاف الإضمار والعصب.

    ولنظام قضاعة طريقته المميزة في الفصل بين هذه البحور الأربعة دون حضور كائن السبب الثقيل المتوهَّم؛ ويتعذر الحديث عن ذلك في هذه المقالة.

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    ( 4 )

    فلا وجود لكائن الوتد المفروق وكائن السبب الثقيل في أنساق عروض قضاعة، ولا في السلاسل المقرّرة فيه؛ ذلك أنّ السلاسل الصوتية تقوم على الوحدات الصوتية النوعية برأي أبي الطيب، وليس على الحرف الصوتي بكلا شقيه، ولا على فكرة المقطع البائسة [Syllable]. وما دام أنّ الأمر كذلك، فحتى الأنساق بصفتها مكوّن إيقاعي في نظام قضاعة، فهي تقتصر على هذه الوحدات الصوتية.

    وبداية هذه الوحدات الصوتية هو الحرف الصحيح المحرّك مهما كان صوته وصوت حركته؛ ولا بد لهذه الحروف المحركة وراء بعضها، أن تنتهي بساكن في الحشو، وأن تنتهي بساكن نهاية السلسلة على الحقيقة أو على التقدير (ظن عازم). وهكذا يتحدّد مسمّى وطول الوحدة الصوتية النوعية، فالشعر العربي يقتصر على أربع وحدات صوتية نوعية، ثلاث منها كثيرة الورود، وهي الـخُطوة ( لا: /0 )، والعُقدة ( نعم: //0 )، والـجَدْلة ( نعمم: ///0 ). أمّا الوحدة الصوتية الرابعة فقليلة الورود لأنها نشاز؛ وهي الرّبـْطَة (نعملم: ////0 ).

    والخطوة هي أدنى وحدة صوتية نوعيّة وكميّة في نفس الوقت، فباقي الوحدات الصوتية يمكن بنائها منها مباشرة [وسيأتي الحديث عن الناحية الكمية المقصودة فيما بعد]. وهذا ما يفسّر لنا حضور الخطوة الكثيف في السلاسل القياسية العربية. لكن العرب من أجل تنويع الإيقاع الأولي لشعرهم [أي خلق بحور متعددة]، لحاجة قرائحهم لذلك، ولأن التعبير عن الأغراض الشعرية بتراكيب اللغة يتطلب ذلك؛ كان لا بد من استحداث وحدة أخرى معها تساعدها في إنشاء الإيقاع، ولا بد أن تكون بعدها مباشرة من حيث الطول الكمّي، أي وحدة العقدة.

    فالذي حصل أنهم بدافع الاصطلاح الإيقاعي، وليس بدافع الاصطلاح الصوتي؛ قد دمجوا خطوتين معاً دمجاً ثابتاً لإنشاء وحدة العقدة، فجعلوا هذه العقدة في سلاسل عروضهم تأخذ نفس حكم وحدة الخطوة من حيث الأولية. وهكذا صار عندنا في الصور الأولية لعروض الشعر العربي، عُقدة أولية من باب التواضع الإيقاعي، في مقابل خطوة أوّلية أصالة، لأنها أدنى وحدة صوتية نوعيّة وكميّة كما قلنا. ومن ثم قام العرب بترتيبهما ضمن ثلاثة أنساق عُقدية [(نسق الفتلة لا نعم)- (نسق القنطرة لا لا نعم)- (نسق العنقاء لا لا نعم)]؛ وذلك لصنع إيقاعات البحور الأولية العُقدية.

    وسبب ظهور وحدة الجدلة ووحدة الربطة في سلاسل الشعر العربي، أنها ناتجة عن عمل القوانين الصوتية، التكافؤ والخبب، على وحدات الأنساق الصوتية الأولية بطبعها (الخطوة والعقدة الأوليّتان)؛ هذه المعبّر عنها بالزحاف في نظام الخليل. ولن نتحدث في هذه المقالة عن كيفية ذلك [راجع كتاب المنتج الجاهز لعروض قضاعة- المتاح على الانترنت]. فالخلاصة أن هذه الوحدات الصوتية الأربع هي مكوّنات صوتية بحتة [مدرَج صوتي]، وليست مكوّنات إيقاعية على ما توهّم البعض بسبب ارتهان الخليل للحرف الصوتي في التفسير والتأصيل. فحتى السبب الثقيل والوتد المفروق التي انفرد بها الخليل عن نظام قضاعة، هي مكوّنات صوتية بنظر الخليل حتى لو خالفناه الرأي بشأنها؛ لكن الجزء هو المكوّن الإيقاعي في نظامه وليس هيَ برفقة غيرها من المكونات الصوتية في نظامه.

    وهذه الوحدات الصوتية التي قالتها قضاعة، كانت قد فرضت نفسها على الخليل، لأن الواقع إذا كان له وجود حقيقي، فلا بد له أن يرسل إشارات تدل الباحث المُجِد على وجوده، ولعله سيفرض نفسه على الباحث دون أن يشعر به (راجع مختصر خريطة العقل للمؤلف). وهذا فعلياً هو ما حصل مع الخليل، فمع أنها فرضت وجودها عليه، لكنه لم يقتصر عليها في نظامه الصوتي العروضي، ولم يولها العناية التي تستحقها؛ وذلك بسبب ارتهانه للحرف الصوتي في التأصيل وفي التفسير كما قلنا وكما سنرى.

    وهذه المسمّيات المستحدَثة لهذه الوحدات الأربع في نظام قضاعة (خُطوة، عُقدة، جدلة، ربـطة)، هي مسمّيات مَرنة جداً، بدل أسمائها غير المرنة في نظام الخليل بسبب كونها فيه أسماءً مركّبة (سبب خفيف، وتد مجموع، فاصلة صغرى، فاصلة كبرى). أمّا هذه الرموز المعطاة لها (لا، نعم، نعمم، نعملم)، فهي جرياً على ما سار عليه العرب صوتياً في رواية التنعيم، اللهم أننا أضفنا لها الرمزين الصوتيين المفقودين منها، والمختارين بعناية (نعمم، نعملم) ليدلّا على ما ذكرنا. فرواية التنعيم أشارت فقط للإيقاع الأولي العربي الخالي من الجدلات والربطات، أمّا الجدلة والربطة فهي تظهر فقط في الإيقاع الثانوي بفعل القوانين الصوتية التي عبّر الخليل عنها بالزحاف كما قلنا.

    فالأصل في المدرَج الصوتي المستخدَم في تأصيل وتفسير القضايا الصوتية، مهما كان هذا المدرَج؛ أن يكون مجرداً عن اللغة [عن المعنى] (ظن عازم)، وذلك لتنحصر دلالته في التعبير عن الناحية الصوتية فقط. وهذه الرموز المذكورة تحقق ذلك تماماً، لأنها ستعمل كمسطرة صوتية بامتياز، على اعتبار أنّ السلاسل الصوتية تقوم على الوحدات الصوتية النوعية كما قلنا، وليس على الحرف الصوتي بكلا شقيه.

    أمّا ما هي الدلالة الإيقاعية لهذه الوحدات الصوتية عند اجتماعها في السلسلة، فهنا لا بد من حضور مسطرة التنغيم (بالغين)، المركّبة على مسطرة التنعيم (بالعين). ويتمثّل التنغيم بوضع فواصل [ ، ] بين تسلسلات محددة في السلسلة، إبرازاً للقيمة الإيقاعية لهذه التسلسلات [مثلاً: نعم، لا نعم، لا نعم، لا نعم، لا (المتقارب)]؛ فالتنغيم على ذلك يتضمن تلقائياً التنعيم المشار إليه. فأبو الطيب يرفض إلباس أنساق نظامه الإيقاعية وطوالعها هنداماً لغوياً كما فعل الخليل [فاعلن، مستفعلن، متَفاعلن، مفعولاتُ...الخ]، تأثراً منه بأبحاث علم الصرف ذو الطبيعة اللغوية (هندام فَعل الصرفية). أمّا التعبير برمز المتحرك والسابت ( / - 0 ) المنبثق عن شِقّـي الحرف الصوتي، المتحرك والساكن؛ فهذا أدعوه في نظامه قضاعة بـ (الترميز الصوتي).

    وإذا ظن احد أنّ أجزاء نظام الخليل المرتدية هندماً لُغوياً، لها جاذبية موسيقية أكثر مما هي في أنساق عَروض قضاعة العريانة من الهندام اللغوي، جرياً على ما مضى عليه العرب (تقريباً)؛ فمن المستحسَن أن اذكّره بأن هذا الجاذبية الموهومة لها، إنما هي على مستوى السلاسل القياسية فقط. لكن أكثر المنظوم في شعر العرب، وفي نظام الخليل نفسه، هي سلاسل غير قياسية من حيث الطول ومن حيث دخول الزحاف عليها (معلولة ومزاحفة ومخرومة)، ما يؤدي لتمزّق الهندام اللغوي بفعل الزحافات والعلل؛ فتغيب بالتالي هذه الجاذبية الموهومة لهذا الهندام اللغوي.

    فهذا الصنيع من الخليل [أي إلباسه لأجزاء نظامه الإيقاعية هنداماً لغوياً]، جعل تصوّر الإيقاع وما يطرأ عليه تصوّراً لُغوياً، لكن اللغة لا دخل لها بالإيقاع، فاللغة إنما تُسكب في القوالب الصوتية الإيقاعية. والعروض العربي على الأخص، هو ناحية موسيقية إيقاعية لا علاقة لها باللغة. ولذلك كان صنيع الخليل هذا، بسبب ارتهانه للحرف الصوتي في التأصيل وفي التفسير كما قلنا؛ هو أحد أوجه الصعوبة الكثيرة في نظام الخليل. ولذلك كان اعتماد صاحب عروض قضاعة لمسطرة التنغيم الإيقاعية المركّبة على مسطرة التنعيم الصوتية، العريانة من الهندام اللغوي، هو الحل الأمثل برأيه للخروج من هذا الإشكال وتداعياته السلبية على مبحث العَروض.


  6. #6
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    ( 5 )

    فالحرف الصوتي بكلا شِقّيه (المتحرك والساكن)، إنما هو مدرج صوتي وسيط بين المكونات الصوتية الدّنيا [الحروف بأنواعها والحركات بأنواعها]، وبين المدارج الصوتية الحقيقية الذي تقوم عليه السلاسل الصوتية، أي الوحدات الصوتية النوعية المذكورة آنفا (ظن عازم).

    فأول ما تنتظم المكونات الصوتية الدّنيا في عضو النطق، فهي تنتظم ضمن المتحرك والساكن؛ وهذا الأمر قد أدركه اللغويون العرب (5)؛ ثم ينتظم الساكن والمتحرك في مدارج قضاعة (الوحدات الصوتية التي يقول بها عروض قضاعة)، لتؤلّف بعد ذلك التسلسلات والسلاسل الصوتية؛ وهذا الأمر الثاني هو الذي غاب عن اللغويين العرب وعن غيرهم بحسب تقديرنا. وإثبات ذلك بالتفصيل العميق قد ذكرناه في كتابنا الأم لعروض قضاعة، وفنّدنا ما سواه بالأدلة والبراهين الكثيرة.

    (5): قال الأخفش (ت/ 211 هـ) تحت عنوان (هذا باب تفسير الأصوات): {اِعلَم أنّ الكلام أصوات مؤلفة، فأقل الأصوات في تأليفها الحركة، وأطول منها الحرف الساكن، لأن الحركة لا تكون إلّا في حرف ولا تكون حرفاً، والمتحرك أطول من الساكن لأنه حرف وحركة، وقولهم (ساكن): أي لا حركة فيه. **، وأقل ما ينفصل من الأصوات فلا يوصَل بما قبله ولا بما بعده، حرفان. الأول منهما متحرك لأنه لا يُبتدئ إلّا بمتحرك، والثاني ساكن لأن كل ما تقف عليه يسكن. ولا تصل إلى أن تُفرِد من الأصوات أقل من ذا. **، ولا تزيد أقل من ذا، لأنك إن زدت الحركة لم تقدر عليها في الانفصال لأنها تعتمد على ما بعدها}. (العروض للأخفش، ص 142). وراجع: (سر صناعة الإعراب، ج 1، ص 32)، وراجع (الجامع في العروض، ص 56، لأبي الحسن العروضي). وراجع: (الحركة والسكون عند الصوتيين العرب وتكنولوجيا اللغة الحديثة. مجلة مَجمَع اللغة العربية بالقاهرة، العدد 88، 2000 م) - عبد الرحمن الحاج صالح - رئيس مجمع اللغة العربية السابق بالجزائر، رحمه الله).

    والشّرْم الذي هو مصطلح من مصطلحات عروض قضاعة التي لا غنى عنها، هو وقوف الوحدة الصوتية الأخيرة في السلسلة على متحرّك. فالشّرْم لا ينتقصُ من حقيقة أيـّاً هذه الوحدات الصوتية النوعية الأربع. فمثلاً: لو جاءت التفعيلة المشوّهة فاعلاتكَ ( /0 //0 // ) نهاية السلسلة وليس في حشوها، وذلك كما في نهاية سلسلة المتوفر (فاعلاتكَ فاعلاتكَ فاعلاتكَ: لا نعم، نعمم نعم، نعمم نعم، //)، فهي على الحقيقة تنتهي بعقدة مشرومة؛ فساكن العقدة موجود على التقدير. وهذا بعكس متحركَـيّ فاعلاتكَ الأخيرين التي في الحشو، فهما ضمن وحدة الجدلة الصوتية. وهكذا يتضح بطلان هذه التفعيلة الوهمية جملةً وتفصيلا.

    فهذا نفس ما حصل مع زحاف الكف على (فاعلاتنْ : لا نعم لا) في موضع العروضة في نظام الخليل، أي نهاية سلسلة الصدر (مثلاً لا حصراً)، فقد كان الكفّ يُوقفها على متحرك فتصير (فاعلاتُ: لا نعم / )، فكان تقدير الخليل لهذا المتحرك الأخير بأنه متحرك الخطوة التي غاب ساكنها بفعل الزحاف في نظامه، أي هي خطوة مشرومة وليس أيّ كائن صوتي آخر. وبالتالي فالشرم لم يُلغ حقيقة العروضة فاعلاتنْ التي نهايتها سبب خفيف (خطوة)، وليس مجردّ حرف متحرك قائم لوحده. أمّا وقوف (فاعلاتُ: لا نعم / ) وغيرها في نظام الخليل على متحرك في الحشو بسبب الزحاف، فهذا بسبب خطأ فكرة الجزء. فالجزء فكرة خاطئة حتى لو أدّت الـمَهمّة المنوطة بها في نظام الخليل. (6)

    (6): ليس مستحيلاً أن تعثر على فكرة قد تكون خاطئة أو باطلة، ومع ذلك قد تجد لها مكاناً في تطبيق عملي ما. فمثال الفكرة الخاطئة التي وجدت لها سبيلاً في التطبيق العملي، هي فكرة الجزء في نظام الخليل. أمّا مثال الفكرة الباطلة التي وجدت لها سبيلاً في التطبيق العملي، فهي فكرة الوتد المفروق والسبب الثقيل في نظامه. بل أنّ بعض الأفكار الجزئية ضمن نظرية ما صحيحة بالمجمل، يبدو معها تطبيق النظرية العملي صحيحاً في الظاهر، لكن تكون الفكرة الجزئية ضمنها باطلة في الواقع. وهذا من نحو مفهوم (سهم الزمن) في نظرية النسبية في الفيزياء لأينشتاين [وليس مفهوم الزمن فيها فانتبه]، فهذه النظرية مبنية على فن المنطق، وبحسب القوانين الرياضية الفيزيائية فيها، فإنّ سهم الزمن حُر الاتجاه للمستقبل وللماضي، لكن سهم الزمن في الواقع العملي لا يسير إلّا للمستقبل.

    وما قلناه تواً هو تفسير قولنا السابق من أن الوحدة الصوتية الأخيرة نهاية السلسلة، تنتهي بساكن على الحقيقة أو على التقدير. فهو على التقدير لأن سبب حصول الشرم هو سبب ذهني لُغوي [أو نَحوي]، وليس سبباً صوتياً بحتاً. فإنتاج عضو النطق للكلام ليس حدثاً مجرّداً عن العملية الذهنية المصاحبة للرغبة بالكلام، أي عن المعنى الذهني المراد تبليغه صوتياً. وتأدية معنى الكلام على وجهه الصحيح هو ما جلب الشرم ليس إلّا. وذلك كما في كلمة ( لِـمَ..؟ //) للسؤال عن السبب إنْ قامت وحدها فأدّت المعنى؛ فلا يمكنها تأدية المعنى المراد منها ذهنياً إن جاءت الميم ساكنة. ولذلك فكلمة ( لِـمَ..؟ //) في هذا المثال، لا تُضرب كمثل لُغوي على كائن السبب الثقيل، ذلك أنها إنما تمثّل عُقدة مشرومة.

    فالوقوف على متحرك دون ضرورة، مرهق لعضو النطق ولعملية التنفس، ولذلك كان متنفسه الوحيد هو الشرم لأجل السبب الذهني اللُغوي المشار إليه. فما بالك بالوقوف على متحرك في حشو الكلام المتصل كسلاسل الشعر العربي، أو في حشو المفردة اللغوية المتصلة بطبيعتها، فهو ليس فقط مرهق لعضو النطق وللتنفس، بل هو يـمحق اتصال السلسلة كلياً.

    ولأجل ذلك كان وقوف عضو النطق على الحرف غير المحرك في الحشو (على الساكن)، وقوفاً هيّناً عابراً وليس وقوفاً متمكّنـاً، هو أمر ضروري لعضو النطق وللتنفس معاً، وليس للسامع. ووقوفه على الحرف الساكن نهاية السلسلة هو الوضع الطبيعي وغيره استثناء، أي الشرم (7). حتى أنّ هذا قد رأيناه في أوجه الوقف في العربية، مع المدرج الوسيط نفسه نهاية السلسلة ونهاية المفردة اللغوية (أي الحرف الصوتي)، الذي نزعَ للوقوف على الشِق الساكن منه ما أمكنه ذلك (8)؛ فلا يقف العربي على الشق المتحرك منه، أي الشرم، إلّا بسبب ما قلناه فقط.

    (7): راجع مقالتنا في رابطة الواحة التي بعنوان (ظاهرة الزحاف وتضليل مصطلح الساكن للعقل). فأبو الطيب يفرّق بين الحرف غير المتحرك فيما لو كان في حشو السلسلة أو في حشو المفردة اللغوية، عنه فيما لو كان نهاية السلسلة ونهاية المفردة اللغوية، حتى لو اشتركا بصفة عدم التحريك. فالذي في الحشو هو ساكت لأن الكلام متصل به، فمع الساكت عملية النطق مستمرة حتى آخر متحرك في الجملة (في السلسلة). أمّا الحرف غير المحرك نهاية السلسلة فهو ساكن على الحقيقة (أي كعلامة لآخر وحدة صوتية في السلسلة)؛ لأن إنتاج عضو النطق الكلام المؤدي لمعنى تام، قد انتهى في هذا الموضع، فسكنَ المتكلم عن متابعة الكلام. وقد انتبه ابن جنّي لهذا الفرق بينهما (ت/ 392 هـ)، لكنه مع الأسف لم يتابع هذا الاكتشاف فلم يستثمره؛ فكأنه كان ومضة في ذهنه ما لبثت أن انطفأت (الخصائص، ج 1، ص 57 - 58، 60). ولم نشأ في هذه المقالة أن نستخدم هذا التفصيل للحرف غير المحرك بحسب موضعه، أي الساكت والساكن، حرصاً منا على عدم تشتيت القارئ.

    (8): راجع (الوقف ووظائفه عند النحويين والقرّاء، ص 13، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية- مجلس النشر العلمي- جامعة الكويت: الرسالة 159 - الحولية الحادية والعشرون، 2000 - 2001 م).


    وبما أن هناك تلازم مصيري بين الحرف الصحيح وحركته، فلا حضور للحركة إلّا برفقة الحرف الصحيح؛ وأنه لا يمكن ابتداء الكلام إلّا بحرف متحرك في كل لغة وليس فقط العربية؛ ومن ظن غير ذلك فهو واهِم (راجع: الحركة والسكون عند الصوتيين العرب وتكنولوجيا اللغة الحديثة - عبد الرحمن الحاج صالح). وبما أن الحرف الصوتي إنما هو مدرج صوتي وسيط كما ظهر لنا. فإن الوحدات الصوتية الحقيقية (المدرج الصوتي الحقيقي) الواجبة الحضور للتعامل مع السلاسل الصوتية، يتوجب أن تنتهي بحرف غير محرك في الحشو (ساكن)، وتنتهي بحرف غير محرك نهاية السلسلة على الحقيقة أو على التقدير كما قلنا؛ وذلك سيراً على نفس هذا المبدأ. وهذا الكلام منطبق على الوحدات الصوتية التي ذكرها أبو الطيب واقتصر عليها في إقامة بيان نظام قضاعة، فجميعها في الحشو تنتهي بساكن، وتنتهي بساكن نهاية السلسلة على الحقيقة أو على التقدير.

    وبناءً على كل هذا، فإنّه ليس هناك وجود حقيقي لكائن صوتي يقف على متحرك نهاية السلسلة الصوتية؛ ولا وجود لمثله أيضاً في حشو السلسلة تلقائياً..؟ لأنه في الحشو سيكون بداية وحدة صوتية. فإذا كان ولا بد من الوقوف على متحرك، أي لأجل أنّ المعنى سيذهب بالتسكين، فهذا -كما قلنا- يكون في نهاية المفردة اللغوية المفصولة عن سلسلتها، وفي نهاية السلسلة المتصلة حصراً (أي الشرم). وبذلك يتضح أن الوتد المفروق والسبب الثقيل هما كائنين باطلين على المستوى الصوتي؛ وهما كذلك باطلين على المستوى الإيقاعي كما رأينا وكما سنرى. ولنفس هذا السبب، ولأسباب أخرى، كانت معظم مقاطع الأصواتيين باطلة من وجهة النظر الصوتية الصحيحة (بحسب تقديري).

    وإذا كنت قد أسهبت قليلاً في بيان حقيقة الوحدات الصوتية الأربع التي يقول بها عروض قضاعة، فهذا كي يعرف القارئ أن أبا الطيب القضاعي ليس عيالاً على غيره، فقوله بالوحدات الصوتية التي اقتصر عليها مسنود ببراهين صوتية وفكرية قوية. فإذا كان الخليل قد قال بها، فهذا لا يجعل من عروض قضاعة مجرّد نسخة مطوّرة عن عروض الخليل..؟ فعدا عن أنّ الخليل لم يُولِ هذه الوحدات الاهتمام الذي تستحقه بسبب ارتهانه للحرف الصوتي، وأنه خلط غيرها بها (9)، فإنه إذا اتّفق العِلمان الموجودان في الساحة العروضية بجدارة على بعض الأساسات، أي نظام الخليل ونظام قضاعة؛ فليس معنى هذا أنّ العِلمين قد خرجا من مشكاة واحدة؛ وإلّا فإنّ الخليل وأبي الطيب عيال على شيخ المدينة الذي كان يعلّم الغلام التنعيم، أليس كذلك..؟!

    (9): كدليل واضح جداً على ارتهان الخليل للحرف الصوتي في قضية الوحدات الصوتية، أنّ الخليل مع أنه قال بوحدة السبب الخفيف الصوتية (وحدة الخطوة)، فقد كان المفترَض به طالما أنّ الزحاف متعلّق حصراً بالسبب الخفيف، وطالما أنّ مكوّنات الجزء الصوتية في نظامه هي الوتد والسبب وليس الحروف؛ أن يكون تعريفه للزحاف مبنياً على أساس ترتيب موقع السبب الخفيف نفسه في الجزء، مهما كان الجزء، وليس على موقع الحرف الساكن فيه. وذلك كأنْ يقول (الخبنُ هو حذف ساكن السبب الخفيف الأول في الجزء)، فهكذا سينطبق التعريف على الأجزاء: فاعلن وفعولن وفاعلاتن [فعِلن - فعولُ - فعلاتن]. وكأنْ يقول (الطي هو حذف ساكن السبب الخفيف الثاني في الجزء)؛ وهكذا سينطبق التعريف على الجزأين مستفعلن وفاعلاتن [مستعلن - فاعلاتُ].
    لكن الخليل وبسبب ارتهانه للحرف الصوتي كما قلنا، فقد أسند تعريفه للزحاف على أساس عدد الحروف المؤلّفة للجزء، وعلى ترتيب الحرف الساكن بينها كما هو معروف، أهو الحرف الثاني، أم الرابع، أم الخامس، أم السابع. فالخبن في تعريفه هو حذف الثاني الساكن من الجزء، والطي هو حذف الرابع من الجزء، وهكذا البقية (القبض والكف، وكذلك الزحافات المركبة، الخبل والشكل). (العقد الفريد، ج 6/ 272). ومن احد الأدلة المهمة على ارتهان الخليل للحرف الصوتي في مبحث العروض، هو وأفراد طبقته، هو معاملته شواهد الشعر معاملة شواهد اللغة، وهذا النقطة يعرفها من تبـحّر بعمق في شواهد نظام الخليل، وفي كتب العروض القديمة، وأقوال الخليل المبثوثة فيها. لكن شواهد الشعر لا تعامل معاملة اللغة، لأنها تقوم على الوحدات الصوتية وليس على الحروف الصوتية كما قلنا، ولأن العروض العربي هو ناحية صوتية إيقاعية لا علاقة لها باللغة.


    وهناك سبب آخر لأسهابنا في بيان حقيقة الوحدات الصوتية الأربع، وهو لكي يتأكد القارئ بأن هذه الوحدات الصوتية هي مكوّنات صوتية بحتة، وليست مكونات إيقاعية على ما ظنّ بعض قومنا بسبب هيمنة نظرية الخليل على الساحة العروضية، وارتهان الخليل للحرف الصوتي في التفسير والتأصيل كما قلنا. ونعيد هنا ما قلناه سابقاً، من أن إثبات هذه الأقوال بالتفصيل العميق، قد ذكرناه في كتابنا الأم لعروض قضاعة، وفنّدنا ما سواه بالأدلة والبراهين الكثيرة.

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    ( 6 )

    وبينما أنّ الشرم يمكن أن يقع لجميع الوحدات الصوتية في نهاية جملة النثر، لكنه في سلاسل الشعر العربي كتوجيه إيقاعي له، هو محصور بوحدة الخطوة نهاية الصدر، وفي غير قوالب الكامل والوافر التي يمكن في بعضها تموضع الخطوة نهاية الصدر؛ فهذين البحرين يرفضان شرم الخطوة لسبب ليس من السهل بيانه هنا. كما أنّ الشرم لا يقع للوحدة الصوتية نهاية سلسلة العجز حيث موضع القافية، مهما كانت هذه الوحدة؛ لأنه لا وقوف لقافية عربية على متحرك؛ فإشباع حركة الحرف المحرك في هذا الموضع واجبة، وبذلك يختفي واقع الشرم نهاية سلسلة العجز. ويميّـز عروض قضاعة الخطوة المشرومة نهاية سلسلة الصدر عن غير المشرومة، بكتابة رمز تنعيمها نفسه، إنما يوضع تحتها خط لبيان أنها جاءت مشرومة (هكذا للمتقارب التام مثلاً: نعم، لا نعم، لا نعم، لا نعم، لا).

    وإذا كان حصول الشرم في الشعر العربي ليس مستغرباً، لأنه ظاهرة عامة في الشعر وفي النثر كما رأينا. لكن نظام الخليل مرّة لا يستطيع توصيفه (10)؛ ومرّة دخل ضمن مفهوم الزحاف في نظامه (العروضة فاعلاتُ - مثلاً لا حصراً). ومرّة دخل ضمن مفهوم مكوّن صوتي في أحد أجزاء نظامه؛ وذلك كما في (مفعولاتُ /0 - /0 - /0/) الافتراضية نهاية سلسلة السريع التامة القياسية بزعم الخليل [مستفعلن مستفعلن مغعولاتُ ، ع.= 12]؛ فنهايتها خطوة مشرومة على الحقيقة، وهذه الخطوة المشرومة فيها قد كانت ضمن مكوّن الوتد المفروق الصوتي في نظامه..! (11). وكما في العقدة المشرومة نهاية (فاعلاتكَ) فيما لو جاءت نهاية السلسلة كما قلنا، فالعقدة المشرومة هنا هي مكوّن السبب الثقيل الصوتي في نظامه..!

    (10): نظام الخليل لا يستطيع توصيف الشرم إذا تلبّس بالجزء المعلول المزاحِف الذي أصله القياسي ينتهي بوتد مجموع. وذلك كما في مستفعلن إذا أصابتها علة القطع في موضع العروضة (نهاية الصدر)، فصارت هكذا (مستفعلْ: لا لا لا)، ثم دخلها الخبن بعد ذلك فصارت على هذه الهيئة (متفْعلْ: نعم لا)، فيُلبسها العروضيون بعد ذلك هندام فعولن تحسيناً لصورتها. فإذا أصابها الشرم بعد كل ذلك صارت هكذا (متفْعلِ : نعم /) الشبيه تنعيمها بتنعيم فعولن المقبوضة (فعولُ نعم /). فهذا الشرم الواقع عليها وهي بهذه الحالة، لا يمكن توصيفه في نظام الخليل إطلاقاً..؟
    فالزحاف في نظامه يُركّب على الصورة القياسية للجزء، والذي هو هنا الجزء مستفعلن السباعي؛ وليس على الصورة المزاحفة والمعلولة الناقصة الحروف عن مقدار الجزء السباعي، والتي هي هنا التفعيلة (متفْعلْ: نعم لا) ذات الخمسة حروف. فلا يجوز أن يقال أن (متفْعلِ : نعم /) قد أصابها زحاف القبض بداعي تشابه تنعيم (متفْعلْ: نعم لا) مع تنعيم الجزء الخماسي فعولن (نعم لا)؛ فالمتشابه هنا بينهما إنما هو الهندام اللغوي فقط. وهذا الأمر قد تفطّن له الدماميني عند تعقيبه على رأي أبو الحَكَم والصفاقسي، وذلك عندما ظنّا أنّ زحاف القبض قد جاء شذوذاً مع شرم الخطوة في صدر قالب مخلّع البسيط، لأن نظام الخليل لا يستطيع توصيف الشرم في هذه الحالة. (الغامزة ص 161)

    (11): فالجزء (مفعولاتُ) نهاية سلسلة السريع القياسية، هو على الحقيقة عبارة عن عنقود مشروم (لا لا لا /)، أي أن الخطوة الرابعة في العنقود جاءت مشرومة، فالشرم لا يصيب إلّا نهاية السلسلة كما رأينا. فلما كان العنقود هو جرس سلسلة السريع القياسية بنظر الخليل؛ فهذا ما سوّغ لنا إضافة الشرم للعنقود (العنقود المشروم). والعنقود على ما أشرنا سابقاً (الجزء الأول من هذه المقالة)، هو مكوّن أصيل في العروض العربي، لكن لا مكان له في بنية نظام الخليل لأنه ثماني الأحرف، فهو ينشأ عن نسق العنقاء عند تطبيق علة القطع عليها (لا لا لا نعم- بالقطع تؤول إلى عنقود: لا لا لا لا). أمّا العنقود المشروم فهو سباعي الأحرف، لذلك وجد له مكاناً في بُنية نظام الخليل بفضل دائرة المشتبه التي صنعها الخليل على عينه كما قلنا.


    وكل هذا الاضطراب في موضوع الشرم في نظام الخليل، بل وفي غير ذلك من دقائق نظامه، وعلى رأسها فكرة الجزء والزحاف والعلة؛ قد جاء بسبب أن الخليل عند تأصيله لنظامه وتعريف مبادئه وتفسير دقائقه، قد ارتهن بشدة في كل ذلك للحرف الصوتي بكلا شِقّيه كما قلنا؛ حتى مع قوله بالوحدات الصوتية التي قالتها قضاعة. وكان هذا منه جرياً على ما مضى عليه في مبحثَـيّ الصرف والنحو؛ هذه التي للحرف الصوتي مكان فيها حقاً..؟

    فالباحث في هذين الميدانَين، النحو والصرف، ينصبّ اهتمامه على الحرف وحركته، ودلالة ذلك الصرفية والنحوية فقط؛ ولذلك كان الحرف الصوتي بشقيه، هو الأداة الصوتية الوحيدة المناسبة للبحث فيها على هذا المستوى. فالحرف الصوتي -كما قلنا- هو مدرج صوتي وسيط بين المكونات الصوتية الدّنيا [الحروف بأنواعها والحركات بأنواعها]، وبين المدارج الصوتية الحقيقية الذي تقوم عليه السلاسل الصوتية، أي الوحدات الصوتية النوعية المذكورة آنفا. ولو أنّ لعروض العرب علاقة من قريب أو من بعيد، بمخارج الحروف، أو بالإعراب والصرف؛ لأناخ أبو الطيب ناقته في صحراء البصرة، فلا طاقة له بدخول البصرة موطن الخليل العبقري..! نقول هذا بدليل أن تقطيع السلسلة بالأنساق أو بالأجزاء، لا تراعي هذه الأمور اللغوية.

    ولكون أن الحرف الصوتي هو مدرج صوتي وسيط بين ما ذكرنا؛ فهذا يفسّر لنا أمرين في نظام الخليل العروضي، الأول هو استطاعة الخليل بواسطته إقامة نظامه العروضي بشكل مترابط شامل؛ فالوحدات الصوتية تلقائياً تتضمن في جوفها الحرف الصوتي بكلا شِقّيه. والأمر الثاني: أنه وبسبب ارتهان الخليل للحرف الصوتي كما رأينا، فقد كان هذا أحد أهم أوجه صعوبة نظام الخليل المعروف عنه؛ فصفة الترابط والشمول لا تعني بالضرورة أن النظام سيكون سهلاً تبعاً لذلك. والطُرق الرقمية لأنها مرتهنة للحرف الصوتي أيضاً، متابعة لما مضى عليه الخليل في نظامه؛ فلم تستطع هي الأخرى التخلّص من هذه الصعوبة نهائياً.

    والسبب الجوهري في ذلك، أنّ الحرف الصوتي والوحدات الصوتية لا يلتقيان، فلا يمكن لأحدهما أن يسد عن الآخر تماماً، لا في التأصيل ولا في التفسير، وخاصة في التفسير؛ حتى وإن كان الحرف الصوتي متضمناً في هذه الوحدات تلقائياً كما قلنا. فبينما أنّ الوحدة الصوتية هي كيان صوتي مجرّد عن اللغة [مجرّد عن المعنى]، لكن الحرف الصوتي ذو الشقين فقط (المتحرك والساكن)، هو ذو طبيعة لغوية. لكن وحدة الخطوة تتألف من حرفين معاً، متحرك وساكن، والعقدة من ثلاثة حروف، متحركين وساكن،..الخ. وعلى ذلك، فلا يمكن لأحدهما أنّ يسد عن الآخر تماماً، لا في التأصيل ولا في التفسير. (12)

    فعروض الشعر العربي هو سلاسل صوتية موسيقية بامتياز، ولذلك فإن التعامل معها يكون حصراً من خلال الوحدات الصوتية المؤلّفة لها، على مستوى إنقاص الأطوال منها (العلة)، وعلى مستوى عمل القوانين الصوتية عليها (الزحاف). وليس التعامل معها من خلال الحرف الصوتي، حتى وإن كان الحرف الصوتي متضمناً في هذه الوحدات تلقائياً، فأمكن بذلك توصيف التغيرات الحاصلة في الزحاف والعلة من خلال الحروف كما فعل الخليل. فاستعمال أداة الحرف الصوتي في توصيف ذلك، هو السبب الجوهري في صعوبة نظام الخليل بالإضافة لخطأ فكرة الجزء في ذاتها.

    (12): سترى مصداق هذا الكلام بأوضح ما يكون، في مقالة لنا قادمة عن القافية العربية (في رابطة الواحة)، وسنرى فيها كيف أن التعاريف الثلاثة للقافية المنقولة عن الخليل (دراسة في التأسيس والاستدراك، ص 169) جميعها مضطربة. فمع أن القافية العربية منصهرة في الإيقاع القائم على الوحدات الصوتية وليس الحروف (منصهرة في الجرس)، لكنها مع ذلك تتألف من حروف لأن القافية ناحية لُغوية بسبب علقها بمفردات اللغة ذات المعنى؛ فالقافية كلمات لغوية عمادها حرف الرّوي الواجب التزامه في كل قوافي القصيدة.
    لكن الخليل عند محاولته تعريف القافية تعريفاً مخصّصاً (التعاريف الثلاثة المنقولة عنه)، لم يعرفها على أساس الحروف فقط، إنما قد عرّفها على أساس الإيقاع القائم على الوحدات الصوتية، لكنه استخدم الحرف الصوتي في تعريفها. فالتعريف المشهور بينها، والذي عليه إجماع كبير، معرفاً بدلالة مفهوم الساكن والساكت في نظام قضاعة، حيث أنّ القافية تنتهي بساكن وما قبل ذلك سواكت؛ هو أنها: (الحروف والحركات بدءاً من ساكن القافية إلى أول متحرك قبل أول ساكت يَلِي ساكن القافية). فلأن الحرف الصوتي والوحدات الصوتية لا يلتقيان، فلا يمكن لأحدهما أن يسد عن الآخر تماماً كما قلنا، لذلك فقد اضطربت هذه التعاريف الثلاثة للقافية المنقولة عنه جميعها، فجميعها فشلت في الانطباق على جميع احتمالات القافية العربية.




  8. #8
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    ( 7 )

    وتجدر الإشارة هنا إلى أن أسماء الأنساق العقدية الثلاثة (الفتلة والقنطرة والعنقاء)، هي أسماء مخصّصة في عروض قضاعة؛ فإذا أطلقت فلا تشير إلّا لمفهومها المبيّن، أينما وقعت في السلسلة (في الحشو أو في موضع الجرس نهاية السلسلة). فانتبه لهذا لأننا بعد قليل سنتواجه مع قضية "شبيه النسق" ومع قضية (طوالع الأنساق). وكذلك هو حال أسماء الوحدات الصوتية الأربع، فهي أسماء مخصّصة أيضاً (الخطوة- العقدة- الجدلة- الربطة).

    لكن عروض قضاعة يحتاج أن يطلق على تسلسلات معينة غير الأنساق في السلسلة، أسماءً معينة، الغاية منها هو تسهيل توصيف دقائق النواحي الصوتية والإيقاعية بأقل قدر من الكلام. وهي ثلاثة مسمّيات، واحد منها مخصّص، والاثنين الباقيين غير مخصّصين.

    فالتسلسل المؤلف من عقدة متبوعة بخطوة (نعم لا) ليس بنسق. وأينما ورد هذا التسلسل في السلسلة العُقدية فإن عروض قضاعة يطلق عليه مسمّى "القِفْل" كمسمى مخصّص، والجمع "أقفال". ولا تخلو سلسلة عُقدية من قفل واحد على الأقل [كهذه: نعم، لا لا لا نعم ، ع.= 7]. ويمكن توصيف العقدة الأولى من القفل بأنها "عُقدة القفل"، وتوصيف الخطوة الداخلة في تأليف القفل بأنها خطوة القفل. فإذا وردت العقدة دون خطوة بعدها، فهذا ليس بقفل إنما هي تتمة النسق؛ لأن هذه الحالة لا تحصل إلّا في نهاية السلسلة عندما يحتل النسق آخر السلسلة (هكذا للمتقارب بطول الأثلم مثلاً: نعم، لا نعم، لا نعم، لا نعم، فسلسلة المتقارب الثلماء هذه، تتضمن ثلاثة إقفال فقط).

    فعلى الرغم من أنّ القفل ليس بنسق كما قلنا، لكن مصطلح القفل ضروري جداً في عروض قضاعة؛ ولن نخوض في أهميته هنا. لكن نشير هنا للضرورة، بأننا سنستخدم عبارة "عُقدة القفل" في بيان حدود الجرس في عروض قضاعة، فتذكّر ذلك. أو عند القول بأن المتقارب والطويل والمضارع يبتدئان بعقدة قفل، وكذلك الهزج ومعه الوافر، وكذلك بحر الأزد بديل المضارع في نظام قضاعة.

    وتسلسل الخطوتان المتجاورتان (لا لا) أينما لزمت الإشارة لهما، فسنطلق عليها مسمّى (وَتـَر)، وذلك كمسمى عام نكرة (والجمع أوتار)، أي هو مسمّى غير مخصّص. فنقول مثلاً: (وتر القنطرة)، فنقصد الخطوتين التي قبل عقدة نسق القنطرة. ونقول: الوتر الثاني في جرس العنقود (لا لا لا لا)، حيث العنقود من جهة الوصف فيه ثلاثة أوتار. ونقول: جرس هذه السلسلة وتر (حيث الجرس موضعه نهاية السلسلة). ونقول: بحر الراقص لا يتألف من خطوات منفردة كما قلنا من قبل، إنما هو يتألف من أوتار من بدايته، وكل وتر منها هو نسق عود لاعُقدي.

    وتسلسل الخطوات الثلاث المتجاورة (لا لا لا) أينما لزمت الإشارة لها، فسنطلق عليها مسمّى (سكة) كمسمّى عام نكرة أيضاً (والجمع سِكَك). فنقول مثلاً: (سكة العنقاء)، فنقصد الخطوات الثلاث التي قبل عقدة نسق العنقاء. ونقول: جرس هذه السلسلة سكة. ونقول: سكة العنقود الأولى (لا لا لا لا)، والعنقود من جهة الوصف فيه سكتين. وستدرك في المقولة القادمة أهمية هذه المصطلحات الثلاثة.

    فعروض قضاعة يفرّق بين مفهوم التسلسل الصوتي ومفهوم السلسلة الصوتية، إذ بينما أنّ الشطر العربي يعتبر سلسلة صوتية مدرجية بامتياز، لكن أيّ تجزيء لها مهما كان طوله الكمّي، سيُعتبَر على أنه تسلسلات فيها. فالحشو هو تسلسل مهما بلغ طوله، لأنه جزء من السلسلة وليس كلها. والأنساق أيضاً تسلسلات مخصّصة، وأجزاء نظام الخليل هي أيضاً تسلسلات مخصصة في نظامه. والقفل أيضاً تسلسل مخصّص، أمّا الوتر والسكة فهي تسلسلات غير مخصصة.

    فمصطلح التسلسل ذو فائدة عظيمة في الشرح، فهو سوف يجنّبنا سوء الفهم عند الحديث؛ فبدونه قد يظن القارئ أنّ الحديث يدور عن سلسلتين فيما لو كان التسلسل طويلاً كما هو حشو سلسلة الطويل القياسية، لكن وصفه بكون تسلسل سيزيل سوء الفهم المتوقع. والحد الأدنى لطول التسلسل يبلغ وحدتين كميّتين (ع. = 2)، أي احتوائها على متحركين اثنين فقط؛ وفعلاً هناك حشو يبلغ هذا الطول [كهذه: نعم، لا لا لا نعم ، ع.= 7، فعقدة القفل هي الحشو هنا فقط، والعقدة بقيمة وحدتين كميّتين]. وسيأتي الحديث بتفصيل عن الناحية الكمية بعد قليل.

    وهذا يعني أنّ الخطوة وحدها لا ينطبق عليها مصطلح التسلسل، ذلك لأنها بمقدار وحدة كمية واحدة، فالخطوة هي وحدة صوتية نوعية وكمية في نفس الوقت كما قلنا. أمّا الوحدات الصوتية فوق الخطوة، كالعقدة مثلاً، فتدخل ضمن مصطلح التسلسل بمعناه العام؛ ذلك أنّ العقدة يمكن أن تُحل لخطوتين. لكن حيث أنّ مفهوم الوحدة الصوتية مفهوم صوتي خاص، فلا يشار للعقدة ولا لأيّ من الوحدات فوق العقدة بمصطلح التسلسل، إلّا على سبيل التجوّز بسبب ما ذكرنا، أي بالنظر لأصلها الأولي، أو بالنظر لعدد الوحدات الكمية فيها كما هو الحال مع العقدة.

    هذا وقد يتخصّص مصطلح التسلسل الصوتي بإضافة أوصاف أخرى له، فوق حمله لمدلول التسلسل العام، وهذا من نحو: (تسلسل أولي- تسلسل ثانوي- تسلسل عُقدي - تسلسل لاعُقدي). كما قد يتخصص مصطلح التسلسل كلياً إذا عيّناه، ومنحناه من ثم مصطلح دال عليه دون سواه، كما في مسميات انساق قضاعة ومسمّى القفل. وكما في مسمّيات طوالع الأنساق كما سنرى بعد قليل، فالعنقود عبارة عن تسلسل مخصص كطالع لنسق العنقاء في موضع الجرس.

  9. #9
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي

    ( 8 )

    ومن الضروري هنا الإلمام ببعض الأشياء المهمة في هذا الموضع من هذه المقالة؛ والتي هي على علاقة ماسّة بالسر الدفين الذي ما زلنا نمهّد الطريق للحديث عنه بدون معوّقات؛ وهو أيضاً على علاقة ماسّة بأحكام اقتطاع سلاسل عربية من الدائرة العربية. وهذه الأشياء الضرورية تتلخص في أربعة أمور:

    الأمر الأول: واقع أنّ هناك موضعاً مخصوصاً في نهاية إيقاع كلا الشطرين، أولاهُ شعراء العرب أهمية مخصوصة؛ هو واقع مدرك تماماً؛ أدركه الخليل وأدركه صاحب عروض قضاعة وآخرون كُثر. أمّا ما هي حدود هذا الموضع، وحدود التسلسل الذي سيكون قبله، أي الحشو؛ وما هي طبيعة هذه الأهمية لهذا الموضع المخصوص؛ فهنا يقع الاختلاف بين الأطراف؛ فكل واحد سينظر لحدوده وأهميته من خلال النظرية العروضية التي جاء بها.

    فالخليل لكونه أقام نظامه على فكرة الجزء، فقد عبّر عن ذلك بفكرة العروضة والضرب والحشو. أمّا أبو الطيب فقد عبّر عن ذلك بفكرة الجرس والحشو، ذلك أنّ عروض شعر العرب برأيه إنما يقوم على الأنساق المغايرة في فكرتها لفكرة الجزء. ولذلك فقد يتفق أحياناً تحديد الجرس والحشو في عروض قضاعة، مع تحديد العروضة والحشو في نظام الخليل؛ وفي كثير من المواضع لا يلتقيان. فهم سيلتقيان دائماً فيما لو تطابق النسق مع الجزء تماماً، كما في البسيط والرجز ومعه الكامل والبندول فقط، وسيلتقيان في بعض الأحيان في غير ما ذكرنا من بحور، بحسب طبيعة العلة الداخلة على الضرب.

    فالجرس في عروض قضاعة هو الخطوة أو التسلسل بعد آخر عُقدة قِفْل في السلسلة. وقد نضع بدل عقدة القِفل هذه، أي التي يقع بعدها الجرس؛ هذا الرمز (#)، وذلك من اجل تمييز موضع الجرس عن غيره في السلسلة. وهذا الرمز الجديد ليس إجبارياً؛ فالجرس بهذا التعريف الذي ذكرناه، يعتبر معيار ثابت لتحديده في كل سلسلة عُقدية مهما كانت، لكن هذا الرمز مع ذلك، له فوائد في مواضع مخصوصة كما سنرى. انظر هذه السلاسل كمثال:

    أ) الرمل التام: لا نعم، لا لا نعم، لا لا #، لا (ع.= 12) = [فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن]. فالجرس هنا خطوة. أمّا العروضة [أو الضرب] في نظام الخليل، فهي التسلسل فاعلاتن، وهي عروضة تامة.

    ب) المديد بطول الأثلم (المديد الأثلم): لا نعم، لا لا نعم، لا #، لا (ع.= 11)، = [فاعلاتن فاعلن فاعلاتن]. والجرس هنا أيضاً خطوة. أمّا العروضة [أو الضرب] فهي فاعلاتن، لكنها عروضة مجزوءة هذه المرة وليست تامة.

    ج) المتقارب التام: نعم، لا نعم، لا نعم، لا #، لا (ع.= 12) = [فعولن فعولن فعولن فعولن]. والجرس هنا أيضاً خطوة. أمّا العروضة [أو الضرب] فهي فعولن، وهي عروضة تامة.

    د) المتقارب الأثلم: نعم، لا نعم، لا #، لا نعم (ع.= 11) = [فعولن فعولن فعولن فعو]. الجرس هنا نسق فتلة. أمّا الضرب فهو (فعو)، وهو ضرب تام محذوف معتمَد.

    هـ) البسيط الدارع: لا لا نعم، لا نعم، لا لا #؛ لا نعم (ع.=14) = [مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن]. تطابق هنا الجرس مع الضرب [أو مع العروضة]، فالجرس هنا نسق فتلة. أمّا الضرب فهو (فاعلن)، وهو ضرب تام.

    و) الخفيف بطول الأصفر (الخفيف الأصفر): لا #، لا لا لانعم (ع.= 8) = [فاعلاتن مستفع لن]. الجرس هنا نسق العنقاء. أمّا الضرب [أو العروضة] فهو (مستفع لن)، وهو ضرب مجزوء.

    ز) الطويل الدارع: نعم، لا نعم، لا لا نعم، لا #، لا لا (ع.= 14) = [فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن]. الجرس هنا وتر، والمسمّى المخصص لجرس الوتر هنا هو " قَطيف"، ذلك أنه ناشئ عن نسق قنطرة حُذفت عقدتها. أمّا الضرب في نظام الخليل فهو (مفاعيلن)، وهو ضرب تام.

    ح) المديد بطول الأخضر (المديد الأخضر): لا نعم، لا لا #، لا لا (ع.= 9)، = [فاعلاتن فاعلن فاعلْ]. قد توافق الجرس والضرب هنا بين نظام الخليل ونظام قضاعة. فالجرس والضرب هنا وتر (لا لا). فهو في نظام الخليل (فاعِلْ)، وهو ضرب مجزوء أبتر، والبتر علة مركبة من علة الحذف وعلة القطع، ذلك أن ضرب المديد المجزوء هو فاعلاتن في الأصل. والمسمّى المخصص لجرس الوتر هنا في نظام قضاعة هو "فَـتيل"، ذلك أنه ناشئ في هذا القالب عن نسق فتلة أصابتها علة القطع مباشرة بحسب توصيف الخليل لها من خلال الحرف الصوتي؛ أما تعريف القطع في نظام قضاعة، فهو حلّ عقدة النسق الذي احتل موضع الجرس لخطوتين، ثم حذف الأخيرة منهما. (13)

    (13): قلنا أن التعامل مع السلاسل الصوتية يكون من خلال الوحدات الصوتية المؤلّفة لها، وليس من خلال الحرف الصوتي؛ حتى وإن كان الحرف الصوتي متضمناً في هذه الوحدات تلقائياً. والإنقاص من أطوال السلاسل يكون على هذا الأساس أيضاً، ومن نهايتها حصراً؛ وهذا هو مفهوم العلة الأساس في نظام الخليل. وعلى ذلك، فتعريف نظام قضاعة لعلة القطع هو: حلّ عقدة النسق الذي احتل موضع الجرس لخطوتين، ثم حذف الأخيرة منهما. ذلك أن عقدة النسق في أصلها الصوتي، إنما هي خطوتين مدموجتين ببعض على نحو ثابت لغاية إيقاعية كما قلنا. ويطلق نظام قضاعة على علة القطع مسمّى"الثقب" للتخلص من هذا الإرباك بين العلمَين. أمّا الخليل ولكونه قد ارتهن بشدة للحرف الصوتي كما قلنا، فإن تعريف علة القطع في نظامه جاء بدلالة الحرف الصوتي، فتعريفها فيه هو: (القطع هو حذف ساكن الوتد المجموع من آخر الجزء، وتسكّن ما قبله). [راجع منطوق علة القطع في نظام الخليل الذي قلناه في كل من: (العقد الفريد، ج 6، ص 273). (الجامع في العروض والقوافي، ص 111). (الغامزة، ص 108، للدماميني)].

    ط) البسيط بطول الأحدب (المديد الأحدب): لا لا نعم، لا #، لا لا لا (ع.= 10)، = [مستفعلن فاعلن مستفعلْ]. الجرس هنا سكة، والمسمّى المخصص لجرس السكة هنا هو "قطاع"، ذلك أنه ناشئ عن نسق قنطرة أصابتها علة القطع مباشرة بحسب توصيف الخليل، والتي هي بتعريف قضاعة حلّ عقدة النسق الذي احتل الجرس لخطوتين ثم حذف الأخيرة منهما. أمّا الضرب فهو (مستفعلْ)، وهو ضرب مجزوء مقطوع.

    ي) المنسرح التام (بتأصيل قضاعة): لا لا نعم، لا لا لا #، لا لا لا (ع.= 12)، = [المنسرح التام بتأصيل الخليل: مستفعلن مفعولاتُ مستفعلن]. الجرس هنا سكة، والمسمّى المخصص لجرس السكة هنا هو "عُنق"، ذلك أنه ناشئ عن نسق عنقاء حُذفت عُقدتها. أمّا الضرب فهو (مستفعلن)، وهو ضرب تام. و(مستفعلن) الضرب هنا هي تفعيلة وهمية كما قلنا من قبل، وكما سنشرح بعمق لاحقاً.

    ك) الخفيف التام (بتأصيل قضاعة): لا نعم، لا لا لا #، لا لا لا لا (ع.= 12)، = [الخفيف التام بتأصيل الخليل: فاعلاتن مستفع لن فاعلاتن]. الجرس هنا عنقود، والعنقود معرَّف بنفسه؛ فهو ناشئ عن نسق عنقاء أصابتها علة القطع مباشرة بحسب توصيف الخليل، والتي هي بتعريف قضاعة حلّ عقدة النسق الذي احتل الجرس لخطوتين ثم حذف الأخيرة منهما. أمّا الضرب فهو (فاعلاتن : لا نعم لا)، وهو ضرب تام. وسنشرح لاحقاً كيفية مجيء فاعلاتن كضرب وعروضة للخفيف التام في نظام الخليل بدل جرس العنقود.

    ل) الخفيف بطول الأثلم (الخفيف الأثلم): لا نعم، لا لا لا #، لا لا لا (ع.= 11)، = [الخفيف الأثلم بتأصيل الخليل: فاعلاتن مستفع لن فاعلا]. الجرس هنا سكة، والمسمّى المخصص لجرس السكة هنا هو "عُنق"، ذلك أنه ناشئ عن نسق عنقاء حُذفت عُقدتها، تماماً كما المنسرح التام. أمّا الضرب فهو (فاعلا)، وهو ضرب محذوف تام.

    وقد تطابق تماماً تحديد عروض قضاعة لموضع الجرس، مع الموضع الذي أولاهُ شعراء العرب أهمية مخصوصة؛ خاصة إذا أخذت بعض الأحكام الإيقاعية التي راعاها العرب بالاعتبار، والتي جعلت بعض الأجراس في صورتها الثانوية تبدو أولية في الظاهر، لكنها على الحقيقة إيقاع ثانوي كما سنرى؛ وذلك كجرس المنسرح التام الذي هو عنق وليس فتلة كما افترضَ الخليل. وجرس الخفيف التام الذي هو عنقود وليس فاعلاتن. وجرس السريع بطول الأثلم الذي هو قطاع (11 وحدة كمية)، وأن السريع ليس مفصولاً عن الرجز كبحر كما قرّر الخليل. وسنعود لاحقاً فنشير إلي هذه الأمور لتفهم المقصود منها تماماً.

    فالجرس ذو واقع حقيقي وليس افتراضي كما هو حال فكرة الضرب والعروضة. والسبب في هذا التطابق أنّ الجرس مرتبط بمفهوم الأنساق التي قام عليها عروض شعر العرب على الحقيقة. وفكرة الأنساق بعكس فكرة الأجزاء، تستمد شرعيتها من ذاتها ومن الدائرة أيضاً. والجرس هو من أهم أدلة صاحب عروض قضاعة على وجود واقع حقيقي للنسق، وليس مجرّد افتراض هدفه التسهيل. وشواهد هذا التطابق قد ملئت الكتاب الأم لعروض قضاعة، وكذلك كتاب المنتج الجاهز المتاح على الانترنت.

    تناقض: قلنا أن الأستاذ خشان في طريقته الرياضية [الشمولية]، التي زعم بأنها تمثل فكر الخليل الرياضي الشمولي الذي لم يكشفه احد غيره..! يعامل السلسلة بمجملها على أنها هي نفسها الكيان الإيقاعي مهما كان طولها (العَروض رقمياً، بحثٌ في منهجية الخليل، ص: 22- 24، 236). لكن ناقض نفسه لـمّا قال بوجود منطقة العروضة ومنطقة الضرب، التي لها أحكام إيقاعية مخصوصة غير أحكام منطقة الحشو كما قال. (العَروض رقمياً، ص 8)
    فعدا عن أن تحديده لحدود منطقة الضرب مخالف لتحديد الخليل، وفي هذا خروج عن منهج الخليل بعكس ما ادعى؛ فهذا تبعيض للسلسلة يجعلها تنقسم إلى حشو ونهاية إيقاع، فلم تعد بالتالي السلسلة هي الكيان الإيقاعي بمجملها، على ما مضى عليه في أصل طريقته الرقمية..! فهذا تناقض فظيع منه. والذي فرض هذا الواقع عليه وجعله يتناقض مع نفسه، أن نهاية إيقاع كلا الشطرين الذي أولاهُ شعراء العرب أهمية مخصوصة؛ هو واقع مدرك تماماً، ولذلك فلا بد أن يفرض هذا الواقع نفسه على الباحث العروضي.
    والذي فات الأستاذ خشان هنا، طالما انه الخبير الوحيد بمنهج الخليل كما يدعي، أن الذي جلب واقع منطقة الضرب في طريقته الرقمية، أو جلب واقع العروضة في نظام الخليل، أو جلب واقع الجرس في نظام قضاعة، أن السلسلة الشعرية إيقاعياً، إنما تتألف من وحدات إيقاعية مكررة بانتظام، وليست تتألف إيقاعياً من وحدات صوتية مكررة بانتظام على ما مضى عليه في طريقته الرقمية؛ أي أنه ليست السلسلة هي الكيان الإيقاعي بمجملها على ما توهّم.
    فالخليل رأي أن هذه الوحدات الإيقاعية المكررة بانتظام، هي الأجزاء بنظره، وصاحب عروض قضاعة يخالفه في ذلك فيرى أن هذه الوحدات الإيقاعية المكررة بانتظام هي الأنساق وطوالعها. ثم أن الخليل رأى بأن الجزء الأخير في السلسلة الذي يسميه العروضة (أو الضرب)، هو الموضع الذي أولاه شعراء العرب أهمية مخصوصة، ولذلك تعلق بها مبحث العلل في نظامه، وتعلق بها وكذلك الزحاف الذي جرى مجرى العلة في العروضة والضرب. وصاحب عروض قضاعة يرى أن النسق الأخير في السلسلة هو المعني بذلك، سواء ورد مكتملاً في هذا الموضع، أو ورد ناقصاً (طوالع الأنساق)، وأن أحكام التلوين في عروض قضاعة هي ما تنظم هذا الأمر. وهكذا يتأكد لنا زيادة عن ما قلناه، خطأ معظم الرقميين عندما عاملوا السلسلة بمجملها على أنها هي نفسها الكيان الإيقاعي، مهما كان طولها، ويتبين لنا تناقضهم كذلك.



  10. #10
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2022
    الدولة : الاردن
    المشاركات : 111
    المواضيع : 23
    الردود : 111
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي


    ( 9 )
    والأمر الثاني الضروري الإلمام به في هذا الموضع، هو أن موضع الجرس كما حدّدناه أعلاه، قد يحتله نسق مكتمل كما رأينا في الأمثلة، فيكون الجرس هو النسق نفسه. أو قد يحتله بعض من النسق كما رأينا في الأمثلة أيضاً، وذلك نتيجة حذف عُقدة النسق نفسها أو أكثر من ذلك؛ وذلك عند إرادة الإنقاص من طول السلسلة المعينة، حيث الإنقاص من طولها منوط بنهايتها فقط كما قلنا.

    أو قد نلجأ ولنفس السبب، إلى حذف وحدة صوتية نوعية واحدة فقط من عقدة النسق الذي احتل موضع الجرس، ويكون هذا بحلّ عقدة النسق نفسها في موضع الجرس لخطوتين، ثم حذف الخطوة الأخيرة منهما..؟ فعقدة النسق عقدة أولية، وهذه العقدة في أصلها الصوتي إنما هي خطوتين مدموجتين ببعض على نحو ثابت لغاية إيقاعية كما قلنا. والتعامل مع السلاسل الصوتية يكون من خلال الوحدات الصوتية كما قلنا، وليس من خلال الحروف.

    وهذا الأمر الثاني ليس فقط يحصل عند إرادة الإنقاص من طول سلسلة معينة؛ بل هو يحصل كذلك عند اقتطاع سلسلة من الدائرة بطول محدّد. ذلك أن الدائرة بمنظور قضاعة ليس لها طول، إنما الطول هو للسلاسل المقتطعة منها كما قلنا.

    ويطلق عروض قضاعة على القدر المتبقّي من النسق في موضع الجرس بعد الإنقاص منه، مهما كان هذا القدر، مسمّى (طالع النسق)، والجمع طوالع. وعلى ذلك، فالطالع جرس بالضرورة لكنه ليس جرس نسق. فنسق الفتلة كجرس لها طالعين: طالع الوتر، وطالع الخطوة. ونسق القنطرة كجرس لها ثلاثة طوالع: طالع السكة، وطالع الوتر، وطالع الخطوة. أمّا نسق العنقاء كجرس فلها أربعة طوالع: طالع العنقود، وطالع السكة، وطالع الوتر، وطالع الخطوة. وهذه الطوالع باستثناء فيما لو كانت خطوة؛ قد منحناها أسماءً تخصّصها في موضع الجرس، راجعة إلى جرس النسق الذي انقلبَ عنه الطالع (انظر الرسم الشارح لها).

    جرس النسق العُقدي- وأجراس طوالع النسق.jpg
    https://photos.app.goo.gl/rVW4dt5YRrnvJDqEA

    أمّا الخطوة فهي اسم مخصص أصلاً كوحدة صوتية كما قلنا، حتى لو جاءت كطالع لنسق (أي في موضع الجرس). فإذا احتلت الخطوة موضع الجرس فتخصيصها أن يقال (جرس الخطوة).
    وهذا الأمر، أي الطوالع، عدا عن علاقتها بالسر الدفين، فلها أهمية إيقاعية عظيمة قد لا تدركها الآن، لأننا لن نأتي على ذكرها في هذه المقالة؛ لكن يكفيك أن تعلم أنه بغياب مسمّى وواقع الطالع، فإن توصيف التفاصيل الإيقاعية المتعلقة بالإيقاع، خاصة إيقاع الأجراس؛ سيكون مرهقاً للعقل عند التفكير، وللنص عند التسطير.

    أعود فأقول: فأسماء هذه الطوالع المخصّصة، ذات العدد المحدود بسبب أن انساق العرب العقدية هي ثلاثة فقط؛ لها علاقة بالسر الدفين عند شرحه؛ لأنها ستربط السلاسل من جهة أجراسها، بالدائرة الإيقاعية العربية بمفهوم قضاعة. فالدائرة هي مرجع الانتظام الإيقاعي الكلّي للأنساق وطوالعها في شعر العرب كما قلنا من قبل. هذا مع ملاحظة أن جرس الخطوة جرسٌ حيادي، فلا عمل للقوانين الصوتية (التكافؤ والخبب)، على جرس الخطوة، ذلك لأنها خطوة منفردة في هذا الموضع، فهي خطوة قِفل. وعند عُقدة القفل يتوقف عمل القانون الصوتي. أي يتوقف عمل الزحاف، فالزحاف لا يمس سواكن الأوتاد المجموعة.


صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة