نظرات في رسالة حكم المشي بين القبور بالنعال
المؤلف أشرف بن يوسف بن حسن وهو يدور حول حكم المشى بين القبور وقد استهله بذكر حكم الحرمة فقال :
"اعلم – رحمك الله – أنه لا يحل لأحد أن يمشي بين القبور بالنعال , أيا كان نوع هذه النعال , فلا يختص الحكم بالنعال السبتية دون غيرها , إلا إذا كان للماشي عذر يمنعه من خلع نعليه فلا يخلعهما حينئذ , فإذا مشي في نعليه بين القبور أنكر عليه , وعلم الحكم الشرعي , وإذا لم يمر بين القبور لا يخلع نعليه , مثل أن يقف عند أول المقبرة , و يسلم , و لا يدخل في المنع من لبس النعال بين القبور الخفاف ."
وفصل المسائل في الموضوع فقال :
"الكلام في هذه المسألة يتناول الأمور التالية :
أولا : حكم المشي بين القبور بالنعال :
اختلف أهل العلم في حكم المشي بين القبور بالنعال على ثلاثة أقوال :
أ – القول الأول : التحريم وهو قول ابن حزم , كما في المحلى 5/136 , ولكنه خص التحريم بالنعال السبتية دون غيرها , كما سيأتي إن شاء الله في المسألة التالية , والشوكاني في نيل الأوطار 4/107، واختار هذا القول من المعاصرين سماحة الشيخ ابن باز – - , كما في مجموع فتاويه 13/355 , و فضيلة الشيخ الألباني – - , كما في أحكام الجنائز صـ252 . وانظر: التمهيد لابن عبدالبر 21/79 .
واستدل أصحاب هذا القول بالدليل الأثري والدليل النظري :
أولا : الدليل الأثري :
وهو ما رواه أحمد في مسنده 5/224,84,83 (21953,20788,20787,20784) , وابو داود (3230) , وابن ماجه (1568) , والنسائي (4/96) (2048) , عن بشير رسول الله (ص) قال: كنت أماشي رسول الله (ص) آخذا بيده , فقال لي : " يا ابن الخصاصية , ما أصبحت تنقم على الله ؟! أصبحت تماشي رسوله " – قال : أحسبه قال : آخذا بيده – قال : قلت : ما أصبحت أنقم على الله شيئا , قد أعطاني الله كل خير. قال : فأتينا على قبور المشركين , فقال " لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا ". ثلاث مرات , ثم أتينا على قبور المسلمين فقال : " لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا ". ثلاث مرات يقولها , قال : فبصر برجل يمشي بين المقابر في نعليه , فقال : " ويحك يا صاحب السبتيتين , ألق سبتيتيك ". مرتين أو ثلاثا , فنظر الرجل , فلما رأى رسول الله (ص) خلع نعليه.
واما حكم هذا الحديث فقد قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/40 : وقد اختلف الناس فى هذين الحديثين , فضعفت طائفة حديث بشير.
قال البيهقى : رواه جماعه عن الأسود بن شيبان , ولا يعرف إلا بهذا الإسناد , وقد ثبت عن أنس , عن النبى (ص) , فذكر هذا الحديث .
وقال أحمد بن حنبل : حديث بشير إسناده جيد , أذهب إليه إلا من علة .
وأما تضعيف حديث بشير فممالم نعلم أحدا طعن فيه ، بل قد قال الإمام أحمد : إسناده جيد
وقال عبد الرحمن بن مهدى :كان عبد الله بن عثمان يقول فيه : حديث جيد ، و رجل ثقة. اهـ كلام ابن القيم رحمه الله.
وقال الحاكم فى المستدرك 1/373 : صحيح الإسناد . و وافقه الذهبى ، واقره الحافظ فى الفتح 3/160 .
كذا فى المطبوع ، ولعلها : فصححت . فإن السياق يقتضى ذلك .
السنن الكبرى 4/80 .
انظر : المغنى 3/514، وموسوعة فقه الإمام أحمد 6/236 .
واحتج بهذا الحديث ابن حزم فى المحلى 5/137 على تحريم المشى بالنعال بين القبور ، وفى مكان آخر من نفس الكتاب 5/142 ، 143على أنه لا يدفن مسلم مع مشرك .
وقال النووى فى المجموع 5/280 : رواه أبو داود والنسائى بإسناد حسن .
والحديث حسنه أيضا الشيخ الألبانى , كما فى تعليقه على سنن أبى داود و سنن ابن ماجه .
وقد ثبت عن الإمام أحمد أنه كان يعمل بهذا الحديث , فقال أبو داود فى مسائله ص 158 : رأيت أحمد إذا تبع الجنازة , فقرب من المقابر خلع نعليه . و كذا فى (العلل) (3091) . طبع بيروت
وقال الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن المشى بين القبور فى النعلين , فقال : أما أنا فلا أفعله , أخلع نعلى على حديث بشير فما كان أتبعه للسنة .
ثانيا : الدليل النظرى :
قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/41 : و من تدبر نهى النبى (ص) عن الجلوس على القبر , والاتكاء عليه , والوطء عليه علم أن النهى إنما كان احتراما لسكانها أن يوطأوا بالنعال فوق رؤوسهم , ولهذا ينهى عن التغوط بين القبور , واخبر النبى (ص) أن الجلوس على الجمر حتى تحرق الثياب خير من الجلوس على القبر , و معلوم أن هذا أخف من المشى بين القبور بالنعال .
وبالجملة فاحترام الميت فى قبره بمنزلة احترامه فى داره التى كان يسكنها فى الدنيا ؛فإن القبر قد صار داره .
وقد تقدم قوله (ص) نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي( كسر عظم الميت ككسره حيا )).فدل على أن احترامه فى قبره كاحترامه فى داره ,والقبور هى ديار الموتى و منازلهم , و محل تزاورهم ، و عليها تنزل الرحمة من ربهم والفضل على محسنهم ,فهى منازل المرحومين , و مهبط الرحمة , و يلقى بعضهم بعضا على أفنية قبورهم يتجالسون و يتزاورون ,كما تضافرت به الآثار
و من تأمل كتاب القبور لابن أبى الدنيا رأى فيه آثارا كثيرة فى ذلك , فكيف يستبعد أن يكون من محاسن الشريعة إكرام هذه المنازل عن وطئها بالنعال واحترامها ؟ ! بل هذا من تمام محاسنها , و شاهده ما ذكرناه من وطئها , والجلوس عليها , والاتكاء عليها . ا هـ
و زاد ابن قدامة فى المغنى 3/515 : ولأن خلع النعلين أقرب إلى الخشوع وزى أهل لتواضع . اهـ
ب – القول الثانى : الجواز . و به قال جمهور العلماء , و هوقول الحسن , وابن سيرين , والنخعى , وابى حنيفة , و مالك , والشافعى , و جماهير الفقهاء من التابعين و من بعدهم .
قال جرير بن حازم : رأيت الحسن وابن سيرين يمشيان بين القبور فى نعالهما .
واحتج أصحاب هذا القول بما رواه البخارى (1374,1338) , ومسلم 4/2201,2200 (2870) , عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله (ص) : ( إن العبد إذا وضع فى قبره , و تولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ) .
ووجه الاستدلال بهذا الحديث : أن هذا إخبار من النبى (ص) بما يكون بعده , وان الناس من المسلمين سيلبسون النعال فى مدافن الموتى إلى يوم القيامة , على عموم إنذاره عليه السلام بذلك , و لم ينه عنه (ص) , فلوكان مكروها لبين ذلك , والأخبار لا تنسخ أصلا , فصح إباحة لباس النعال فى المقابر .
وقد أجيب عن هذا الاستدلال بجوابين , هما :
1- أن هذا إخبار من النبى (ص) بالواقع , وهو سماع الميت قرع نعال الحى , وهذا لا يدل على الإذن فى قرع القبور والمشى بينها بالنعال ؛ إذ الإخبار عن وقوع الشىء لا يدل على جوازه , ولا تحريمه , ولا حكمه.
قال ابن قدامة فى المغنى 3/515 : واخبار النبى (ص) بأن الميت يسمع قرع نعالهم لاينفى الكراهة ؛ فإنه يدل على وقوع هذا منهم , ولا نزاع فى
وقوعه وفعلهم إياه مع كراهته
وقال ابن حجر فى الفتح 3/206 : واستدل به على جواز المشى بين القبور بالنعال , و لا دلالة فيه . قال ابن الجوزى : ليس فى الحديث سوى الحكاية عمن يدخل المقابر , و ذلك لايقتضى إباحة , ولا تحريما . اهـ
2- أن هناك احتمالا أن يكون المراد من الحديث سماعه إياها بعد أن يجاوز المقبرة , واذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال .
قال الشوكاني في نيل الأوطار 4/107 : سماع الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشي على قبر , أو بين القبور . اهـ
ثم أجاب القائلون بجواز المشى بين القبور بالنعال على حديث بشير ابن الخصاصية بعدة أجوبة , نذكر منها :
1- قال الخطابى فى معالم السنن 1/276 : وخبر أنس يدل على جواز لبس النعل لزائر القبور , وللماشى بحضرتها , وبين ظهرانيها .
فأما خبر السبتيتين فيشبه أن يكون إنما كره ذلك ؛ لما فيهما من الخيلاء , وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم , قال الشاعر يمدح رجلا :
* يحذى نعال السبت ليس بتوأم *
يعنى : قوله (ص) : "إن العبد إذا وضع فى قبره , و تولى عنه أصحابه .... الحديث
وقد تعقب كلام الخطابى بأن ابن عمر رضى الله عنهما كان يلبس النعال السبتية , ويقول: إن النبى (ص) كان يلبسها , وهو حديث صحيح . قاله الحافظ فى الفتح 3/206 .
وقال ابن عبد البر فى التمهيد 21 /78 : ولا أعلم خلافا فى جواز لباس النعال السبتية فى غير المقابر , وحسبك أن ابن عمر يروى عن رسول الله (ص) أنه كان يلبسها , وفيه الأسوة الحسنة (ص) . أ هـ
2- قال الطحاوى فى شرح معانى الآثار 1/510 بعد أن ذكر حديث بشير ابن الخصاصية , قال :
فذهب قوم إلى هذا الحديث , فكرهوا المشى بالنعال بين القبور , وخالفهم فى ذلك آخرون فقالوا: قد يجوز أن يكون النبى (ص) أمر ذلك الرجل بخلع النعلين , لا لأنه كره المشى بالنعال بين القبور , لكن لمعنى آخر من قذر رآه فيهما يقذر القبور , وقد رأينا رسول الله (ص) صلى وعليه نعلاه , ثم أمر بخلعهما , فخلعهما و هو يصلى , فلم يكن على كراهة الصلاة فى النعلين , و لكنه للقذر الذى كان فيهما , وقد روى عن رسول الله (ص) ما يدل على إباحة المشى بين القبور بالنعال .
حدثنا نصر بن مرزوق , قال :ثنا آدم بن أبى إياس , قال :ثنا حماد بن سلمة , قال : ثنا محمد بن عمرو , عن أبى سلمة , عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله (ص) ,
فذكر حديثا طويلا فى المؤمن إذا دفن فى قبره : ((والذى نفسى بيده إنه ليسمع خفق نعالكم حين تولوا عنه مدبرين )) .
حدثنا على بن معبد , قال : ثنا عبد الوهاب بن عطاء , قال : أنا محمد بن عمرو , فذكر بإسناده مثله .
حدثنا فهد , قال : ثنا أحمد بن حميد , قال : ثنا وكيع , عن سفيان , عن السدى , عن أبيه , عن أبى هريرة رضى الله عنه رفعه، مثله .
فهذا يعارض الحديث الأول إذا كان معناه على ما حمله عليه أهل المقالة الأولى , و لكنا لا نحمله على المعارضة , و نجعل الحديثين صحيحين , فنجعل النهى الذى كان فى حديث بشير للنجاسة التى كانت فى النعلين ؛ لئلا ينجس القبور , كما قد نهى أن يتغوط عليها أو يبال , و حديث أبى هريرة رضى الله عنه يدل على إباحة المشى بالنعال التى لا قذر فيها بين القبور , فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح معانى الآثار , وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله (ص) بما قد ذكرنا عنه من صلاته فى نعليه , ومن خلعه إياهما فى وقت ما خلعهما للنجاسة التى كانت فيهما , ومن إباحة الناس الصلاة فى النعال . ا هـ
وقد أجاب عن ذلك ابن حزم , وابن القيم:
قال ابن حزم فى المحلى 5/137 ,138 : وقال بعض من لا يبالى بما أطلق به لسانه , فقال : لعل تينك النعلين كان فيهما قذر .
فمن قطع بهذا فقد كذب على رسول الله (ص) ؛ إذ قوله ما لم يقل , ومن لم يقطع بذلك فقد حكم بالظن , وقفا ما لا علم له به , و كلاهما خطتا خسف , نعوذ بالله منهما .
ثم يقال له : فهبك ذلك كذلك , أتقولون بهذا أنتم , فتمنعون من المشى بين القبور لا بنعلين فيهما قذارة ؟ فمن قولهم : لا .
ثم يقال له : فهبك ذلك كذلك , أتقولون بهذا أنتم , فتمنعون من المشى بين القبور بنعلين فيهما قذارة ؟ فمن قولهم : لا . فيقال لهم: فأى راحة لكم فى دعوى كاذبة ؟! ثم لو صحت لم تقولوا بها, و لبقيتم مخالفين للخبر بكل حال ؟!
و يقال له أيضا : و لعل البناء فى الرعاف إنما هو فى الدم الأسود ؛ لشبهه بدم الحيض , و لعل فساد صلاة الرجل إلى جنب المرأة إنما هواذا كانت شابة خوف الفتنة , و مثل هذا كثير. ا هـ
وقال ابن القيم تهذيب السنن 9/41 بعد أن ذكر كلام الطحاوى : وهذا ليس بشىء , ولا ذكر فى الحديث شىء من ذلك . ا هـ
جـ القول الثالث : الكراهة . وهذا هو مذهب أهل الظاهر , وبه قال يزيد بن زريع وأحمد بن حنبل , ومن المعاصرين الشيخ ابن عثيمين ,فقد قال فضيلته فى مجموع الفتاوى 17/200 : والقول بأن المشى بالنعال بين القبور للكراهة هو قول جمهور العلماء , و هو عندى أظهر من القول بالتحريم ؛ لأن النهى عن ذلك من باب إكرام قبور المسلمين واحترامها , والقول بأن ذلك إهانة لها فنهى عنه , غير ظاهر ,و هذا هوالذى صرف النهى إلى الكراهة .
واذا تأملت هذه الأقوال الثلاثة وجدت أن القول بالجواز قول ضعيف ؛ لما سبق من ضعف الاستدلال بقول النبى (ص) : (( إن العبد إذا وضع فى قبره , و تولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم )) .
انظر : موسوعة فقه الإمام أحمد 6/236 , و عمدة القارى 8/147 .
يعنى بذلك : ما ورد فى حديث بشير ابن الخصاصية المتقدم ذكره من النهى عن المشى بين القبور بالنعال.
وانما قال الشيخ هنا بالكراهة دون التحريم ؛ لأنه يرى أن ما يتعلق بالآداب و مكارم الأخلاق فالأمر فيه للاستحباب , والنهى فيه للكراهة , و ما كان يتعلق بالعبادات فالأمر فيه للوجوب , والنهى للتحريم ؛ لأن الأول يتعلق بالمروءة , والثانى بالشريعة .
و ضعف التأويل الذى أولوا به حديث بشير ابن الخصاصية .
و حينئذ يبقى الأمر دائرا بين الكراهة والتحريم , واذا كان الأمر هكذا فلا شك أن الأولى والأحوط هو خلع النعال ؛ لأنك إذا خلعت نعليك عند المشى بين القبور لم ينكر عليك أحد , واذا لم تخلعهما أنكر عليك الذى يذهب إلى التحريم .
كما أننا نقول : إن القول بالكراهة دون التحريم إنما هو مقبول على قول من يرى أن ما كان من باب الآداب ومكارم الأخلاق يكون النهى فيه للكراهة .
وأما على القول بأن الأصل فى النهي هو التحريم – وهو قول جمهور الأصوليين – فلا محيص عن القول بالتحريم ؛ لورود النهى الصريح عن لبس النعال بين القبور , كما فى حديث بشير ابن الخصاصية .* * *
* ثانيا : هل يختص النهى عن المشى بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها ؟
اختلف أهل العلم في ذلك على قولين :
القول الأول : أن النهى خاص بالنعال السبتية دون غيرها . وبه قال ابن حزم , واستدل على ذلك بما يلى :
أن النبى (ص) إنما دعا صاحب سبتيتين بنص كلامه , ثم أمره بخلع نعليه .
وما رواه البخارى (1374,1338) , ومسلم 4/2201,2200 (2870) , عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله (ص) : ( إن العبد إذا وضيع فى قبره , وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم ) .
قال ابن حزم فى المحلى 5/137 : فهذا إخبار منه عليه السلام بما يكون بعده , وان الناس من المسلمين سيلبسون النعال فى مدافن الموتى إلى يوم القيامة , على عموم إنذاره عليه السلام بذلك
قال فى المحلى 5/136 : ولا يحل لأحد أن يمشى بين القبور بنعلين سبتيتين , وهما اللتان لا شعر فيهما ,
فإن كان فيهما شعر جاز ذلك , فإن كانت إحداهما بشعر , والأخرى بلا شعر جاز المشى فيهما . ا
و لم ينه عنه , والأخبار لا تنسخ أصلا , فصح إباحة لباس النعال فى المقابر , ووجب استثناء السبتية منها ؛ لنصه عليه السلام عليها . ا هـ
و يجاب عن هذا الاستدلال منه بما سبق أن أجبنا به على هذا الحديث عند الكلام على أدلة القائلين بجواز المشى بين القبور بالنعال .
و ممن ذهب كذلك إلى كون النهى خاصا بالنعال السبتتية : القاضى أبو يعلى .
قال ابن القيم فى تهذيب السنن 9/42 : وقال القاضى أبو يعلى : ذلك مختص بالنعال السبتية لا يتعداها إلى غيرها .قال : لأن الحكم تعبدى غير معلل , فلا يتعدى مورد النص . اهـ
والقول الثانى فى هذه المسألة : أنه لا فرق بين النعال السبتية و غيرها من النعال التى عليها شعر ؛ إذ الكل فى مثابة واحدة فى المشى فيها بين القبور , و منافاتها لاحترامها .
وقد قال ابن حجر معلقا على ما ذهب إليه ابن حزم من كون النهى خاصا بالنعال السبتية , قال فى الفتح 3/206 : واغرب ابن حزم فقال : يحرم المشى بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها , و هو جمود شديد
وقال الشوكانى فى نيل الأوطار 4/107 : و لا يختص عدم الجواز بكون النعلين سبتيتين ؛ لعدم الفارق بينها و بين غيرها , وقال ابن حزم : يجوز وطء القبور بالنعال التى ليست سبتية ؛ لحديث : ((إن الميت يسمع خفق نعالهم )) . و خص المنع بالسبتية , و جعل هذا جمعا بين الحديثين , و هو وهم ؛ لأن سماع الميت لخفق النعال لا يستلزم أن يكون المشى على قبر أو بين القبور فلا معارضة . ا هـ
و هذا هو القول الراجح بلا شك , و كون الرجل كان يلبس نعلين سبتيتين هذا وصف طردى، لا مناسبة فيه للحكم .
ومثال ذلك : لو جاء فى بعض الأحاديث أن رجلا كثير الشعر , ضخم البدن , مفتول العضلات, جاء إلى النبى (ص) , و هو يقول :يا رسول الله , إنى جامعت امرأتى فى نهار رمضان , فماذا على ؟
فهذه الأوصاف كلها أوصاف طردية , و على هذا فلو استفتانا رجل نحيف أصلع ضعيف العضلات فإنه يكون حكمه كحكم الأول تماما , مع أن الأول كان كثير الشعر , مفتول العضلات , كبير الجسم , وهذا الثانى نحيف أصلع ضعيف العضلات , و مع ذلك كله نقول : إن حكمه كحكمه ؛ لأن الأوصاف المذكورة أوصاف طردية لا مناسبة لها .
* ثالثا : فإن كان للماشى عذر يمنعه من خلع نعليه ؛ مثل الشوك يخافه على قدميه , أو نجاسة تمسهما، أو شدة حرارة الأرض , أو نحو ذلك , لم يكره المشى فى النعلين.
قال أحمد فى الرجل يدخل المقابر , و فيها شوك , يخلع نعليه : هذا يضيق على الناس حتى يمشى الرجل فى الشوك , وان فعله فحسن , هو احوط , وان لم يفعله رجل . يعنى لا بأس
* رابعا : فإذا مشى الإنسان فى نعليه بين القبور لغير حاجة أنكر عليه , كما أنكر النبى (ص) على صاحب السبتيتين , وعلم الحكم الشرعى .
* خامسا : فإذا لم يمر بين القبور فإنه لا يخلع نعليه ؛ مثل أن يقف عند أول المقبرة , ويسلم . * سادسا : ولا يدخل فى المنع من لبس النعال بين القبور الخفاف؛ لأن نزعها يشق , وقد روى عن أحمد أنه كان إذا أراد أن يخرج الى الجنازة لبس خفيه , مع أمره بخلع النعال ."
وكل المسائل السابقة خلاف دون وجود نص حقيقى فالحديث الذى اعتمده المؤلف وهو حديث خلع النعال السبتية يتعارض مع أن خلع النعال يكون في الوادى المقدس وفيه البيت الحرام كما قال تعالى :
" اخلع نعليك إنك بالواد المقدس"

ومن ثم لا يجوز خلعهما في المقابر
وأما المسألة الثانية وهى المشى بين القبور فأمر مباح لقوله تعالى :
" ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره"

فالقيام على القبر وهو الوقوف خارج الحفرة يقتضى المشى إليها ولم يذكر الله خلع النعال أو الأحذية