أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: الكأس الأخيرة

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد المختار زادني شاعر
    تاريخ التسجيل : Sep 2005
    الدولة : المملكة المغربية
    المشاركات : 1,230
    المواضيع : 143
    الردود : 1230
    المعدل اليومي : 0.18

    افتراضي الكأس الأخيرة

    استوى على الأريكة العتيقة التي تتوسط الغرفة الضيّقة قبالة طاولة صغيرة منبسطة لا يعرف سطحها التنظيف إلا نادراً.
    مدّ يده إلى جراب مكوّم بجانبه وأخرج منه زجاجة وضعها بحركة عادية على الطاولة إلى جوار كأس زجاجية عتيقة الصنع؛ شهدتْ عددا من مثل جلسته هذه خلال عقدين من الزمن، وكأنها ملّتْ شفتيه وكرهت ما اعتاد أن يصبّ في جوفها من النبيذ.
    لمس زرّا على واجهة المذياع وضبط ارتفاع صوته، فانطلقت منه أنغام تفصل عادة ما يذاع من برامج. استظرف تلك المقطوعة فراح يدندن في نبرة لا تخلو من نشاز، ومشى نحو المطبخ فأحضر صحنا صغيرا به بعض المكسّرات وضعه جنب الكأس، ثم جلس بمكانه على الأريكة المترهّلة.
    ولما كان ضوء النهار يلملم بقايا اصفراره المشوب بسحنة رمادية متزايدة الثقل بدأت تُضعف تباين الأشياء تدريجيا، أشعل شمعة كانت مثبتة على علبة حليب معدنية فارغة.
    فتح الزجاجة وملأ الكأس الأولى التي ما لبث أن صبّها في حلقه بشغف، وأعادها مكانها... جاء صوت المذيع يتلو قائمة البرامج المسائية ثم تلاه فاصل موسيقي صامت من روائع الفن القديم.
    ظلت الزجاجة تروي جوف الكأس من صهارة قلبها وظلت الكأس تتبرّأ من دم العناقيد تصبّه في وعاء ينفث ريحا كريهة في جوّ الغرفة : وعاءٌ يلبس جسدا بشريا اعتاد صاحبه أن يملأه حتى الطفح، ولربّما يفيض فيسقي منه الطاولة وما حولها بعد حين... وظلت يده تنتاب صحن المكسّرات فتحمل منه حبة أو اثنتين تنتحران على مدخل ذاك الوعاء تضحية وقربانا لذوق المرارة المتطفّل على نشوة شبيهة بالعذاب!
    بدأ الدوّار يدبّ في دماغه والتثاقل يتسرّب في حركات يديه يطرد التناسق ويلغي الاتزان من كل جسده. صمتَ المذياع قليلا ثم انطلقت منه نشرة الأخبار... مدّ يده المرتعشة بآلية وأدار البحث عن محطة إذاعية أخرى . لا فائدة ! بكل المحطات كانت نشرة الأخبار تتحدّى مسمعه. غيّر الضبط على الموجة القصيرة و مضى يبحث عن مـحطة عربية ... شدّ أذنه صوت رخيم هزّكيانه ؛ كان شيخ من القرّاء يجود ما تيسر من كتاب الله الكريم بنبرة من مقام "الصّبــا":
    « كـلّ حزبِ بما لدَيهم فرِحـــون » .
    ارتعدتْ فرائسه بشدّة كمن لمس سلكا موصولا بمولدكهربي عالي الجهد، وبحركة جدّ عنيفة مسح سطح الطاولة بكل ما كان عليه. ارتطمت الزجاجة وهي تهوي أرضا بالكأس فكسرتها، وشرب فتيل الشمعة من بقية ما كان في جوف الزجاجة المنكفئة، فساد الظلام. ارتعب كل شيء فيه . وقعت أصابعه صدفة على ولاعة السجائر فاستنار بضوئها الخافت وبدأ يتلمّس مفتاح النور الكهربائي حتى ضغطه فعاد النور لجو الغرفة.
    تهاوى جسمه في بطن الأريكة. أطبق بيديه على رأسه وأغمض جفنيه لحظة فتحهما بعدها مضطراً كأنما أحسّ جمراً يلهب محجريه المشّقّقينِ بدفقٍ الدموع الساخن؛ سيل من لآلئ كانت تندفع من قلبه الذائب ! انهمرت فجأة بغزارة السنين التي أمضاها على تلك الحال. ثم مالبث أن تلمس طريقه نحو رشّاش الحمام... الماء؛ سرّ الحياة، أعطاه انتعاشة وصفاء ذهن.
    وقف يلفّ جسمه في منشف كان يدّخره الأيام الاصطياف على الشاطئ الجميل.
    واجه صورته المعكسة على المرآة المثبثة بباب "دولاب" ملابسه العتيق؛ كاد ينكر ملامحه وهو يمرّر طرف المشف ليجفف قطرات الماء الممزوجة ببقايا الدمع على خديه وهو يردد همسات نبعت من عمق أوصاله:
    - منذ اللحظة، أنت عبد الواحد! اسم على مسمى...
    سمع النداء لصلاة الفجر. تردّد قليلا كأنما خامره إحساس بلا أهليته لارتياد المساجد الطاهرة، طرد عنه ذاك الوسواس بدمعة أخرى ثم نزل الدرج في خفة المقبل على استلام جائزة ثمينة مستحقة ...
    كاد فضاء المسجد يخلو من المصلين حين تنادى أحدهم:
    - الله أكير! ... صلاة الجنازة يرحمكم الله!...

  2. #2
    الصورة الرمزية د. سلطان الحريري أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2003
    الدولة : الكويت
    العمر : 58
    المشاركات : 2,954
    المواضيع : 132
    الردود : 2954
    المعدل اليومي : 0.39

    افتراضي

    الأستاذ الحبيب زادني:
    يسرني أن أكون أول المارين في قصتك الرائعة، واسمح لي بالتعبير عن إعجابي الشديد بقلم متألق في سماء الكتابة، لقد قرأتها من أولها إلى آخرها وهي تشدني بخيط خفي من التشويق ، والتي تعد من أهم سمات القص البارزة ؛ لأنها تعني امتلاك ناصية اللغة ، وقد نجحت نجاحا كبيرا في إبراز الفكرة بطريقة سردية محببة للنفس، مشفوعة بوصف متألق ، إلى جانب مبدا التداعي الذي طغى على الأشياء في قصتك ، وكأنني بالكأس ينطق بما لا ينطق به الإنسان، وهكذا كانت كل كلمة في قصتك لها وزنها الذي يدفع الحدث إلى الأمام ، إلى أن اكتمل عقد تلك القصة بنهاية ، لا استطيع إلا أن اقول في حقها إنها من السهل الممتنع، يتوقعها القارئ ، ولكنه إلى جانب ذلك يراها فريدة في مكانها..
    الحبيب زادني: زادني شرفا قراءتي لنصك الجميل، والذي يدفعني إلى المرور دائما في عالمك الكتابي السامق..
    دمت مبدعا
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    أديبة
    تاريخ التسجيل : Jul 2003
    المشاركات : 5,436
    المواضيع : 115
    الردود : 5436
    المعدل اليومي : 0.72

    افتراضي

    كيف فاتتني هذه الرائعة أخي الفاضل ، بحق قصة محترف . الفكرة - و إن كانت مطروقة - إلا أن جمال عباراتك الوصفية و دقة رسم الحس فيها و جميل التناول أعطاها هذه الروعة و الإبداع .

    كل التقدير لك .

  4. #4
    الصورة الرمزية أسماء حرمة الله شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2005
    الدولة : على أجنحــةِ حُلُــم ..
    المشاركات : 3,877
    المواضيع : 95
    الردود : 3877
    المعدل اليومي : 0.56

    افتراضي تحية ورد

    سلام اللـه عليك ورحمته وبركاته

    تحيـة قطفتُها من بساتين البنفسج

    المبدع العزيـز محمـد،

    لا أخفي إعجابي بالقصة، إعجابَ أستاذي د. سلطان وحرة..
    وصفٌ دقيق للأحداث واللوحات، وقدرة فائقة على شدّ الانتباه، والسفر بالمتلقي إلى مدائن الحرف والفكرة..عشتُ القصة حرفاً حرفاً، وكأنني كنتُ بالزمن النفسي والروحي لبطل قصتك..أعايش ما عايشه، وأنظر من زاوية نفسه المنهَكة إلى تفاصيلِ حكايا كأسه الأخيرة..

    --------
    فرائسه = فرائصه

    دمتَ لنا
    خالص تقديري واعتزازي نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    وألف باقة من الورد والمطر

  5. #5
    الصورة الرمزية خليل حلاوجي مفكر أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2005
    الدولة : نبض الكون
    العمر : 57
    المشاركات : 12,545
    المواضيع : 378
    الردود : 12545
    المعدل اليومي : 1.83

    افتراضي

    الناس ونحن منهم ... نيام

    أذا ما .... متنا .... أستفقنا

    ونحن الى الرحيل ... أقرب
    الإنسان : موقف

  6. #6
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    الأستاذ الفاضل / محمد المختار زادني
    تحية عطرة
    حقيقة لا أستطيع أن أضيف حرفا بعد ما قاله أستاذنا القدير د . سلطان الحريري سوى ان أقول أن قصتك يا أخي تعد نموذجا للقصةالقصيرة المكتملة عناصرها .. نموذجاافتقدناه كثيرا .
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  7. #7
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,110
    المواضيع : 317
    الردود : 21110
    المعدل اليومي : 4.95

    افتراضي

    قال الحق وهو أصدق القائلين :
    ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ﴾. [سورة القصص].
    قصة بديعة استوقفتني مطولا أمام محمولها الهام ، وأسلوب قصي ماتع، ومحتوى قوي ومعبر
    سرد مشوق لفكرة ذكية وقفلة مباغتة ملفتة
    اللهم أحسن خاتمتنا جميعا.
    راقت لي القصة حد الدهشة، واستمتعت بالمرور من هنا بصدق
    بوركت ـ ولك تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. اعترافات الكأس العاشرة(مع فاتحة للبكاء)
    بواسطة محمد الأمين سعيدي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 35
    آخر مشاركة: 30-07-2009, 07:04 AM
  2. ستشرب الكأس يا هذا بمعضلة
    بواسطة عمر الراجي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 29-11-2008, 01:49 PM
  3. أُترع الكأسُ....
    بواسطة ريمة الخاني في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 21-09-2008, 04:04 PM
  4. اعترافات الكأس التاسعة
    بواسطة معاذ الديري في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 04-08-2007, 08:38 PM
  5. الكأس الأخيرة
    بواسطة محمد المختار زادني في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 10-12-2005, 03:49 PM