وسائل تأهيل الداعية
إعداد عبد الله بن حمد الشبانة
وكيل الوزارة المساعد لشؤون المساجد
مدخل :
الحمد لله الملك الحق المبين إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد المصطفى الأمين المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فإن الدعوة إلى الله تعالى من أجل الأعمال بل هي أجلها وأشرفها ، لكونها وظيفة أشرف الخلق وهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فلقد بعثهم ربهم لدعوة أقوامهم وأممهم إلى الدين الحق ولدلالتهم على الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى رضوان ربهم ونعيمه المقيم ، يقول تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ( النحل : 36 ) ، ويقول سبحانه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ( إبراهيم : 14 ) ، ويقول سبحانه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ( الأنبياء : 25 ) ، فإنه ما من رسول ولا نبي إلا وهو داعية في قومه يدعوهم إلى الحق إخراجا لهم من الباطل إلى الهدى وإنقاذا لهم من الضلال ومن سخط الله وناره وعذابه إلى رضوان الله وجنته ونعيمه المقيم في الآخرة .
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو إمام الدعاة جميعا فقد بعثه ربه لدعوة الناس كافة قومه وغيرهم ، وأرسله بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة فختم بنبوته النبوات وبرسالته الرسالات . فكانت رسالته خاتمة شاملة ممتدة بامتداد المكان حيث يوجد إنسان وبامتداد الزمان إلى قيام الساعة ، يقول تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( سبأ : 128 ) .
وقد أمره ربه بالدعوة إلى سبيله على بصيرة وعلم من ربه : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( يوسف : 108 ) ، وبتبليغ دين الله المنزل إليه من ربه إلى كل أحد : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة : 67 ) . ولأن رسالة الإسلام عالمية شاملة ممتدة بامتداد الزمان والمكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فإن الدعوة إليه ماضية إلى قيام الساعة يقوم بها ورثة الأنبياء من العلماء العاملين والدعاة المخلصين ، لمسيس حاجة البشرية إليها لإخراجها من ظلمات الشرك والوثنية والجهالة والخرافة والبدعة والمعصية إلى أنوار التوحيد والعلم والسنة والطاعة والانقياد له رب العالمين وحده لا شريك له .
وعلى امتداد التاريخ الإسلامي نجد عناية الدولة الإسلامية بهذه الدعوة المباركة ورعاية القائمين بها ، وإعانتهم على تحقيق هدفهم في دعوة الخلق للحق إلى أن نصل إلى الدولة السعودية الحديثة الفَتِيَّة ، التي اصطلح على تسميتها بالدولة السعودية الثالثة ، والتي أسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - رحمه الله - وأقام بنيانها على أساس متين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
فقد أعلن الملك عبد العزيز مؤسس هذا الكيان الشامخ : الدولة السعودية الحديثة ، أنه إنما جاهد ليقيم شريعة الله كما جاءت في كتابه الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتراث السلف الصالح من علماء المسلمين ، فكانت تلك هي السمة التي عرفت بها المملكة العربية السعودية منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا .
وانطلاقا من تأسيس هذه المملكة الفتية على هذا النهج القويم ، وربطها بين الدين والدنيا في تواؤم تام ليمثل منهجها الوسطية التي هي منهج الإسلام وأبرز خصائصه ، فقد اعتنى المؤسس - رحمه الله - بالدعوة إلى الله اهتماما عظيما ، فكان رحمه الله يختار من متعلمي المدن القريبة من الهجر والقبائل في البادية من يذهب لتعليم الناس في تلك الهجر أمور دينهم ، حيث يبدأون بتعليمهم القرآن الكريم وأركان الإسلام والعبادات ومبادئ القراءة والكتابة .
ولا يقتصر عمل " المطّوع " أو " المرشد " ، كما كان يسمى آنذاك ، على التعليم بل كان هو واعظ القبيلة وخطيب مسجدها وإمامها في صلواتها ، وقد يكون مرجعها الديني في كل شيء وله رأي مسموع في شئونها العامة والخاصة .
وسار على منواله في ذلك أبناؤه من بعده ، حيث تجسدت عنايتهم بهذه الدعوة في إنشاء المؤسسات التي ترعاها وتنظم شؤونها وتشرف عليها ، حيث كان الإشراف على الوعاظ والمرشدين موكولا إلى " دار الإفتاء والإشراف على الشؤون الدينية " التي أنشئت عام 1374هـ برئاسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، رحمه الله .
ثم أصبح الإشراف على أمور الدعوة وتنظيم شؤونها موكولا إلى " رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد " التي أنشئت عام 1391 هـ تعديلا للمسمى السابق ، وعدل مسماها إلى " الرئاسة العامة لإدارات . . . " عام 1395 هـ ، حيث إن من أهم اختصاصاتها وواجباتها : ( نشر الدعوة الإسلامية ، والتخطيط لها في إطار ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وسلف الأمة الإسلامية في داخل المملكة وخارجها ، وذلك بتوضيح العقيدة الصحيحة وتعاليم الإسلام . وبيان المخالفات الشرعية والأخطاء الشائعة والبدع والمحدثات ، وتحذير المسلمين من الفتن والإشاعات التي يدبرها أعداء الإسلام . واستمرت الرئاسة المذكورة مسؤولة عن الدعوة وشؤونها حتى تم إنشاء " وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد " عام 1414 هـ ، فانتقل إليها أمر المسؤولية عن الدعوة والعناية بها والاهتمام بكل شؤونها ، ولا شك أن تخصيص وزارة مستقلة تكون الدعوة في مقدمة مسؤولياتها دليل أكيد على عناية هذه الدولة المباركة بالدعوة والدعاة واعتبارها الدعوة إلى الله جزءا من مسؤولياتها الكبرى .
المبحث الأول : أهمية تأهيل الداعية
إن عملية تأهيل الداعية وإعداده إعدادا خاصا تأتي من أهمية العمل الذي يقوم به وهو الدعوة إلى الله تعالى وهداية الخلق إلى الحق . ذلك العمل العظيم الذي قلنا إنه أشرف الأعمال وأجلها ؛ لأنه عمل الأنبياء والمرسلين ، ومهمة تابعيهم من الدعاة والمصلحين . فإن هذا العمل الجليل يقتضي أن يكون القائم به ذا صفات ومواصفات خاصة تؤهله للقيام بهذه المهمة الجسيمة ، فيكون مدركا لقيمة ما يدعو إليه ، عالما بأساليب الدعوة التي تحقق له هدفه من دعوته ، عالما بمدعويه ونفسياتهم ، وأفضل الطرق التي توصله إلى قلوبهم .
ولأن الدعوة هي دعوة إلى الله وإلى سبيله ، فإنه يلزم أن تكون وفق منهج الله الذي وضعه لرسله وأنبيائه وخاصة خاتمهم نبينا محمد ضدنا ، الذي ربى صحابته رضي الله عنهم على أساس من ذلك المنهج وربى الصحابة رضوان الله عليهم تابعيهم ومن جاء بعدهم على ذلك الأساس .
فالداعية الذي يدعو الناس إلى الله عليه أن يلتزم بمنهج الله ورسوله في الدعوة لا بمناهج البشر أيًّا كانوا . وعليه أن يكون ذا وعي وإدراك لمميزات الدين الذي يدعو إليه وفضائله ومحاسنه ، وأن ينطلق في دعوته من منطلق القوة والاعتزاز بإيمانه وبدينه ودعوته ، وأن يكون قدوة حسنة لمن يدعوهم ، فيكون أول العاملين بما يدعو إليه ولا يخالف قوله فعله ، فيكون ذلك مانعا من تأثيره فيمن يدعوهم وقبولهم لما يقول . وأهم من ذلك كله أن يخلص عمله في هذا المجال المهم لله وحده سبحانه فلا يبتغي به غير وجه الله عز وجل .
ونتيجة توافر هذه المقومات في الداعية إلى الله أن تلقى دعوته القبول ، فتنداح لها قلوب المدعوين ، وتنشرح لها صدورهم ، فيتحقق بذلك هدفه من الدعوة المتمثل في تعريف الخلق بخالقهم ، وإبانة الطريق السوي لهم ليسلكوه إليه سبحانه ، ليفوزوا برضاه عنهم وبالحياة الطيبة الآمنة المطمئنة في الدنيا ، والثواب الجزيل والعقبى الحسنة في الآخرة .
ومن هنا يكتسب تأهيل الدعاة وإعدادهم ، ليكونوا قادرين على تحقيق ذلك ، أهميته ؛ لأن لا يفيد في هذا الميدان البالغ الأهمية إلا المؤهلون المعدون إعدادا خاصا ، أما سواهم فربما كان ضررهم أكثر من نفعهم أو كان نفعهم محدودا على الأقل .
ولكي يكون الداعية قادرا على القيام بهذه المهمة السامية على خير وجه ، ومحققا لأهدافه منها ، ينبغي أن يعد بشكل خاص يتوافق مع شرف هذه المهمة وعظمها وسمو الهدف المرجو تحقيقه منها .
ذلك أن الداعية يتحمل مسؤولية جسيمة ويقوم بعمل غير عادي ، إنه يسهم في نقل المدعوين من حال إلى حال ، وتغيير واقع الفرد أو المجتمع الذي يدعوه إلى واقع أحسن منه وأهدى سبيلا ، أي أنه يبني في مقابل الهدامين ويصلح في مقابل المفسدين ، فهي إذًا مهمة شاقة وعسيرة تحتاج إلى أن يهيأ من يقوم بها ويؤهل تأهيلا خاصا . فيؤهل بالعلم الشرعي المتمثل في معرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وأنبيائه ، ومعرفة ما أخبر الله عنه مما وقع في الماضي أو يقع في المستقبل ، ومعرفة ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم أو نَهَيَا عنه وهو الشريعة والأحكام . ويؤهل بتعويده على اتباع الحكمة والتحلي بها ، وهي الإصابة في الأقوال والأفعال ووضع الأشياء في موضعه بإحكام وإتقان ، فيكون ذا رفق ولين في دعوته ، آخذا بالموعظة الحسنة ، مجادلا بالتي هي أحسن ، مستفيدا من تجاربه وخبراته وتجارب من سبقوه في هذا الميدان وخبراتهم . متحريا للوقت المناسب لدعوته وللأسلوب المناسب لها والطريقة الأجدى في تحقيق ما يرمي إليه منها .
ويؤهل أيضا بتخلقه خلق الحلم وتعويد نفسه عليه ، فيضبط نفسه وطبعه عن هيجان غضبه فالغضب ليس من صفات من يدعو إلى الله لأنه ينفر المدعو فيقضي على كل أمل في استماعه للحق أو قبوله له ، وصدق الله العظيم إذا يقول وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران : 159 ) .
ويغرس في الداعية خلق الأناة والتثبت من كل ما يرى ويسمع بحيث يكون من ذوي العقل والرزانة والتؤدة ، لا من أهل التسرع والطيش والرعونة ، ملتزما بأدب القرآن في هذا الشأن ، حيث يقول الله جل جلاله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( الحجرات : 6 ) . ومن أهم ما ينبغي تأهيل الداعية به الصبر ، ذلك الخلق العظيم الذي امتدحه الله في كتابه وأثنى على المتصفين به . وإذا كان الصبر مهما لكل أحد فهو في حق الداعية أكثر أهمية ، وينبغي أن يكون عليه أشد حرصا ، وبه أعظم تخلقا لأنه بدونه لا يحقق غرضه ولا يصل إلى النتيجة التي يتوخاها من دعوته . فلا بد للداعية أن يصبر على دعوته ، وعلى ما يلقاه في سبيلها من مشقة أو لأواء أو شدة ، وأن يصبر في حال إعراض المدعوين أو مصادمتهم لدعوته فذلك شأن أئمة الدعاة من الأنبياء والمرسلين ، الذي يقول عنهم ربنا تبارك وتعالى آمرا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في ذلك : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ( الأحقاف : 125 ) .
ولعل حسن الخلق لا يقل أهمية عن كل ما تقدم مما ينبغي تأهيل الداعية به ، فبحسن الخلق يجتذب الداعية مدعويه إليه ، ويملك عليهم عقولهم وقلوبهم وتنشرح لدعوته صدورهم ، ويحبونه ويأنسون به ويركنون إليه فهو لا يستطيع أن يسعهم بماله ولكنه يستطيع أن يسعهم ببشاشته في وجوههم وتبسمه لهم وحسن خلقه معهم فيلين القول لهم ويحتمل ما قد يصدر منهم ويأخذ بجانب اليسر والسهولة في تعامله معهم . ولكي يكون الداعية مقنعا لمن يدعوهم من جميع الطبقات والمستويات باعتباره فردا من المجتمع يعيش في أوساط مختلفة علميا وثقافيا فإنه ينبغي تأهيله بمختلف ألوان الثقافات التي يحتاج إليها في دعوته ، والتي تكبره في عيون مدعويه وتفرض عليهم احترامه وتقديره ، وتجعل لديهم الاستعداد لسماع ما يقوله لهم .
فيلزم تأهيله بالثقافة القرآنية بحيث يعرف كتاب ربه فهما لمعانيه وإدراكا لمراميه وتأدبا بآدابه والتزاما بالمنهج الرباني للدعوة الذي رسمه القرآن الكريم وبينه أوضح بيان ، ثم يحسن الاستدلال بآياته أثناء دعوته فيجمع الآيات المتعلقة بموضوعه وبعمل على تصنيفها بما يلائم غرضه ، ويوضح نظر في القرآن إلى الموضوع الذي يتحدث عنه أو يكتب فيه ، ويحرص على التأسي بأسلوب القرآن في إيراد القصص في مجال الدعوة والبلاغ ، فيعتني في مجال دعوته بهذا الأسلوب الناجع المفيد مركزا على الدروس المستفادة من تلك القصص والعبر المستخلصة منها . وعلى الداعية في مجال الثقافة القرآنية أن يستعمل في دعوته النماذج القرآنية التي تصور الشخصية الإنسانية في مختلف أحوالها ، كنموذج الغني الشاكر في شخصية نبي الله سليمان عليه السلام ، ونموذج الحاكم العادل الذي لم تمنعه سعة ملكه عن عبادة ربه ورعاية شعبه في شخصية ذي القرني ، ونموذج المبتلى الصابر في شخصية نبي الله أيوب عليه السلام ، وشخصية الشاب المتعفف عن الحرام رغم قدرته عليه وتوافر دواعيه في شخصية نبي الله يوسف عليه السلام ، وغير ذلك من النماذج الكثيرة للشخصية الإنسانية في القرآن الكريم .
وعلى الداعية في مجال الثقافة القرآنية اتباع المحكم من آيات التنزيل العزيز ، وعدم الخوض في المتشابه منها ، وألا يفكك النصوص القرآنية ويجزئها تجزئة تضيع معالمها وتتداخل معانيها فلا يتحقق الغرض من إيرادها والاستدلال بها .
ثم يلزم بعد ذلك تأهيل الداعية بالسنة النبوية فهما للأحاديث النبوية وتمييزا للصحيح منها من غيره وحذرا من وضعها في غير مواضعها ومن الاستدلال بالأحاديث الموضوعة أو الضعيفة الواهية .
ولا بد للداعية مع ذلك من قدر مناسب من الثقافة الفقهية ، بحيث يعرف أهم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والآداب ويكون قادرا على مراجعة ما زاد عما يعرفه في مظانه من المصادر والمراجع الفقهية المعتبرة ، وأن يحرص على ربط الأحكام بأدلتها من الكتاب والسنة ، وأن يتزود بالقدر الكافي من علم أصول الفقه ليعرف كيف تستنبط الأحكام من الكتاب والسنة ، ومن الذي يجوز له الاستنباط . . . إلخ . وليعرف الراجح من المرجوح من الأقوال ليأخذ بالراجح ويعذر الآخذين بالمرجوح أو يقنعهم بالأخذ بما أخذ به ، لا بد له من ذلك كله لأنه وهو يقوم بالدعوة في أوساط الناس سيتعرض لأسئلتهم واستفساراتهم واستفتاءاتهم فيحسن أن يكون مستعدا لإفادتهم وشفاء غليلهم .
ومن الثقافة اللازمة للداعية الثقافة التاريخية ، بحيث يعرف تاريخ الإسلام والأمة الإسلامية خاصة وتاريخ الإنسانية عامة بقدر الاستطاعة والإمكان ، ليتعلم من المواقف الحاسمة منه ، ويطبع على الملامح الرئيسة فيها ، وليتسع أفقه من خلال دراسته له ومعرفته به ووقوفه عليه باطلاعه على أحوال الأمم وتاريخ الرجال وتقلبات الأيام ، ولأن التاريخ أصدق شاهد على ما يدعو إليه الدين من قيم ومفاهيم ، ومن خلاله تتجلى سنة الله في الكون والحياة والأحياء فاستخلاص الدروس والعبر من أحداثه هو ما ينبغي أن يدفع الداعية لدراسته ، وصدق الله إذا يقول : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ( يوسف : 111 ) .
ومن الأهمية بمكان أن يتم تأهيل الداعية في مجال اللغة العربية ، فيعد ليكون متحدثا بارعا بلغة سليمة فصيحة خالية من العيوب اللغوية والأخطاء النحوية التي تشوه الكلام وتنفر السامعين ، وقد تحيل المعنى المقصود وتغير المراد ، وما أشد قبح تلك الأخطاء حين تكون في شيء من الوحيين القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة .
ولا يقل عن ذلك أهمية أن يكون الداعية ملما بقضايا عصره الذي يعيش فيه ، عارفا بما يسود فيه من نظم ومذاهب وأفكار وتيارات مختلفة ، وما يحركه من عوامل ، وما يصطرع فيه من قوى ، لئلا يكون الداعية خارج نطاق عصره بعيدا في تصوراته وأفكاره عن الواقع ، وليكون قادرا على التعامل مع هذا الواقع من خلال دعوته إبرازا للحق وإظهارا له وإعلاء لشأنه ودحرا للباطل وتحذيرا للناس منه . والداعية الذي يعد ليعمل في بيئات تختلف عن بيئته المحلية ، ينبغي أن يضاف إلى تأهيله بكل ما تقدم تأهيله بمعرفة كل ما يتعلق بالبيئة التي سيعمل فيها ، بدءا من لغة من سيدعوهم بحيث يجيدها ليستطيع إيصال ما يريد إيصاله إليهم بلغة فصيحة جيد سليمة من الخلل والأخطاء ، وانتهاء بعادات أولئك وتقاليدهم وأعرافهم وأقصر الطرق إلى قلوبهم وأفضل الأساليب لدعوتهم وجغرافية بلادهم وتاريخها وحاضرها . . . إلخ .
فكل ما تقدم مما يلزم أن يؤهل به الداعية الذي يراد له أن يكون داعية بحق ، داعية ناجحا مؤثرا قادرا على تحقيق النتائج الموجود من الدعوة ، وعلى إقناع المدعوين بالإنصات إليه والاستماع لما يقول ، ومن ثم الاقتناع بما يقول وبصحة ما يدعوهم إليه لامتلاكه قلوبهم واستحواذه على أسماعهم ، لما يتصف به من إمكانات وقدرات ، ولما يحسونه من حرارة كلماته وصدق لهجته وظهور إخلاصه وحرصه على نفعهم وإسعادهم ، فهو طبيب القلوب الذي يعالج أدواءها وعللها بصدق واقتدار معا .
يتبع