أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: وسائل تأهيل الداعية

  1. #1
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي وسائل تأهيل الداعية

    وسائل تأهيل الداعية
    إعداد عبد الله بن حمد الشبانة
    وكيل الوزارة المساعد لشؤون المساجد

    مدخل :
    الحمد لله الملك الحق المبين إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد المصطفى الأمين المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :

    فإن الدعوة إلى الله تعالى من أجل الأعمال بل هي أجلها وأشرفها ، لكونها وظيفة أشرف الخلق وهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فلقد بعثهم ربهم لدعوة أقوامهم وأممهم إلى الدين الحق ولدلالتهم على الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى رضوان ربهم ونعيمه المقيم ، يقول تعالى : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ( النحل : 36 ) ، ويقول سبحانه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ( إبراهيم : 14 ) ، ويقول سبحانه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ( الأنبياء : 25 ) ، فإنه ما من رسول ولا نبي إلا وهو داعية في قومه يدعوهم إلى الحق إخراجا لهم من الباطل إلى الهدى وإنقاذا لهم من الضلال ومن سخط الله وناره وعذابه إلى رضوان الله وجنته ونعيمه المقيم في الآخرة .

    ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو إمام الدعاة جميعا فقد بعثه ربه لدعوة الناس كافة قومه وغيرهم ، وأرسله بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة فختم بنبوته النبوات وبرسالته الرسالات . فكانت رسالته خاتمة شاملة ممتدة بامتداد المكان حيث يوجد إنسان وبامتداد الزمان إلى قيام الساعة ، يقول تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ( سبأ : 128 ) .

    وقد أمره ربه بالدعوة إلى سبيله على بصيرة وعلم من ربه : قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( يوسف : 108 ) ، وبتبليغ دين الله المنزل إليه من ربه إلى كل أحد : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ( المائدة : 67 ) . ولأن رسالة الإسلام عالمية شاملة ممتدة بامتداد الزمان والمكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فإن الدعوة إليه ماضية إلى قيام الساعة يقوم بها ورثة الأنبياء من العلماء العاملين والدعاة المخلصين ، لمسيس حاجة البشرية إليها لإخراجها من ظلمات الشرك والوثنية والجهالة والخرافة والبدعة والمعصية إلى أنوار التوحيد والعلم والسنة والطاعة والانقياد له رب العالمين وحده لا شريك له .

    وعلى امتداد التاريخ الإسلامي نجد عناية الدولة الإسلامية بهذه الدعوة المباركة ورعاية القائمين بها ، وإعانتهم على تحقيق هدفهم في دعوة الخلق للحق إلى أن نصل إلى الدولة السعودية الحديثة الفَتِيَّة ، التي اصطلح على تسميتها بالدولة السعودية الثالثة ، والتي أسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - رحمه الله - وأقام بنيانها على أساس متين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

    فقد أعلن الملك عبد العزيز مؤسس هذا الكيان الشامخ : الدولة السعودية الحديثة ، أنه إنما جاهد ليقيم شريعة الله كما جاءت في كتابه الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتراث السلف الصالح من علماء المسلمين ، فكانت تلك هي السمة التي عرفت بها المملكة العربية السعودية منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا .

    وانطلاقا من تأسيس هذه المملكة الفتية على هذا النهج القويم ، وربطها بين الدين والدنيا في تواؤم تام ليمثل منهجها الوسطية التي هي منهج الإسلام وأبرز خصائصه ، فقد اعتنى المؤسس - رحمه الله - بالدعوة إلى الله اهتماما عظيما ، فكان رحمه الله يختار من متعلمي المدن القريبة من الهجر والقبائل في البادية من يذهب لتعليم الناس في تلك الهجر أمور دينهم ، حيث يبدأون بتعليمهم القرآن الكريم وأركان الإسلام والعبادات ومبادئ القراءة والكتابة .

    ولا يقتصر عمل " المطّوع " أو " المرشد " ، كما كان يسمى آنذاك ، على التعليم بل كان هو واعظ القبيلة وخطيب مسجدها وإمامها في صلواتها ، وقد يكون مرجعها الديني في كل شيء وله رأي مسموع في شئونها العامة والخاصة .

    وسار على منواله في ذلك أبناؤه من بعده ، حيث تجسدت عنايتهم بهذه الدعوة في إنشاء المؤسسات التي ترعاها وتنظم شؤونها وتشرف عليها ، حيث كان الإشراف على الوعاظ والمرشدين موكولا إلى " دار الإفتاء والإشراف على الشؤون الدينية " التي أنشئت عام 1374هـ برئاسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، رحمه الله .

    ثم أصبح الإشراف على أمور الدعوة وتنظيم شؤونها موكولا إلى " رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد " التي أنشئت عام 1391 هـ تعديلا للمسمى السابق ، وعدل مسماها إلى " الرئاسة العامة لإدارات . . . " عام 1395 هـ ، حيث إن من أهم اختصاصاتها وواجباتها : ( نشر الدعوة الإسلامية ، والتخطيط لها في إطار ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وسلف الأمة الإسلامية في داخل المملكة وخارجها ، وذلك بتوضيح العقيدة الصحيحة وتعاليم الإسلام . وبيان المخالفات الشرعية والأخطاء الشائعة والبدع والمحدثات ، وتحذير المسلمين من الفتن والإشاعات التي يدبرها أعداء الإسلام . واستمرت الرئاسة المذكورة مسؤولة عن الدعوة وشؤونها حتى تم إنشاء " وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد " عام 1414 هـ ، فانتقل إليها أمر المسؤولية عن الدعوة والعناية بها والاهتمام بكل شؤونها ، ولا شك أن تخصيص وزارة مستقلة تكون الدعوة في مقدمة مسؤولياتها دليل أكيد على عناية هذه الدولة المباركة بالدعوة والدعاة واعتبارها الدعوة إلى الله جزءا من مسؤولياتها الكبرى .


    المبحث الأول : أهمية تأهيل الداعية
    إن عملية تأهيل الداعية وإعداده إعدادا خاصا تأتي من أهمية العمل الذي يقوم به وهو الدعوة إلى الله تعالى وهداية الخلق إلى الحق . ذلك العمل العظيم الذي قلنا إنه أشرف الأعمال وأجلها ؛ لأنه عمل الأنبياء والمرسلين ، ومهمة تابعيهم من الدعاة والمصلحين . فإن هذا العمل الجليل يقتضي أن يكون القائم به ذا صفات ومواصفات خاصة تؤهله للقيام بهذه المهمة الجسيمة ، فيكون مدركا لقيمة ما يدعو إليه ، عالما بأساليب الدعوة التي تحقق له هدفه من دعوته ، عالما بمدعويه ونفسياتهم ، وأفضل الطرق التي توصله إلى قلوبهم .

    ولأن الدعوة هي دعوة إلى الله وإلى سبيله ، فإنه يلزم أن تكون وفق منهج الله الذي وضعه لرسله وأنبيائه وخاصة خاتمهم نبينا محمد ضدنا ، الذي ربى صحابته رضي الله عنهم على أساس من ذلك المنهج وربى الصحابة رضوان الله عليهم تابعيهم ومن جاء بعدهم على ذلك الأساس .

    فالداعية الذي يدعو الناس إلى الله عليه أن يلتزم بمنهج الله ورسوله في الدعوة لا بمناهج البشر أيًّا كانوا . وعليه أن يكون ذا وعي وإدراك لمميزات الدين الذي يدعو إليه وفضائله ومحاسنه ، وأن ينطلق في دعوته من منطلق القوة والاعتزاز بإيمانه وبدينه ودعوته ، وأن يكون قدوة حسنة لمن يدعوهم ، فيكون أول العاملين بما يدعو إليه ولا يخالف قوله فعله ، فيكون ذلك مانعا من تأثيره فيمن يدعوهم وقبولهم لما يقول . وأهم من ذلك كله أن يخلص عمله في هذا المجال المهم لله وحده سبحانه فلا يبتغي به غير وجه الله عز وجل .

    ونتيجة توافر هذه المقومات في الداعية إلى الله أن تلقى دعوته القبول ، فتنداح لها قلوب المدعوين ، وتنشرح لها صدورهم ، فيتحقق بذلك هدفه من الدعوة المتمثل في تعريف الخلق بخالقهم ، وإبانة الطريق السوي لهم ليسلكوه إليه سبحانه ، ليفوزوا برضاه عنهم وبالحياة الطيبة الآمنة المطمئنة في الدنيا ، والثواب الجزيل والعقبى الحسنة في الآخرة .

    ومن هنا يكتسب تأهيل الدعاة وإعدادهم ، ليكونوا قادرين على تحقيق ذلك ، أهميته ؛ لأن لا يفيد في هذا الميدان البالغ الأهمية إلا المؤهلون المعدون إعدادا خاصا ، أما سواهم فربما كان ضررهم أكثر من نفعهم أو كان نفعهم محدودا على الأقل .

    ولكي يكون الداعية قادرا على القيام بهذه المهمة السامية على خير وجه ، ومحققا لأهدافه منها ، ينبغي أن يعد بشكل خاص يتوافق مع شرف هذه المهمة وعظمها وسمو الهدف المرجو تحقيقه منها .

    ذلك أن الداعية يتحمل مسؤولية جسيمة ويقوم بعمل غير عادي ، إنه يسهم في نقل المدعوين من حال إلى حال ، وتغيير واقع الفرد أو المجتمع الذي يدعوه إلى واقع أحسن منه وأهدى سبيلا ، أي أنه يبني في مقابل الهدامين ويصلح في مقابل المفسدين ، فهي إذًا مهمة شاقة وعسيرة تحتاج إلى أن يهيأ من يقوم بها ويؤهل تأهيلا خاصا . فيؤهل بالعلم الشرعي المتمثل في معرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وأنبيائه ، ومعرفة ما أخبر الله عنه مما وقع في الماضي أو يقع في المستقبل ، ومعرفة ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم أو نَهَيَا عنه وهو الشريعة والأحكام . ويؤهل بتعويده على اتباع الحكمة والتحلي بها ، وهي الإصابة في الأقوال والأفعال ووضع الأشياء في موضعه بإحكام وإتقان ، فيكون ذا رفق ولين في دعوته ، آخذا بالموعظة الحسنة ، مجادلا بالتي هي أحسن ، مستفيدا من تجاربه وخبراته وتجارب من سبقوه في هذا الميدان وخبراتهم . متحريا للوقت المناسب لدعوته وللأسلوب المناسب لها والطريقة الأجدى في تحقيق ما يرمي إليه منها .

    ويؤهل أيضا بتخلقه خلق الحلم وتعويد نفسه عليه ، فيضبط نفسه وطبعه عن هيجان غضبه فالغضب ليس من صفات من يدعو إلى الله لأنه ينفر المدعو فيقضي على كل أمل في استماعه للحق أو قبوله له ، وصدق الله العظيم إذا يقول وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران : 159 ) .

    ويغرس في الداعية خلق الأناة والتثبت من كل ما يرى ويسمع بحيث يكون من ذوي العقل والرزانة والتؤدة ، لا من أهل التسرع والطيش والرعونة ، ملتزما بأدب القرآن في هذا الشأن ، حيث يقول الله جل جلاله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( الحجرات : 6 ) . ومن أهم ما ينبغي تأهيل الداعية به الصبر ، ذلك الخلق العظيم الذي امتدحه الله في كتابه وأثنى على المتصفين به . وإذا كان الصبر مهما لكل أحد فهو في حق الداعية أكثر أهمية ، وينبغي أن يكون عليه أشد حرصا ، وبه أعظم تخلقا لأنه بدونه لا يحقق غرضه ولا يصل إلى النتيجة التي يتوخاها من دعوته . فلا بد للداعية أن يصبر على دعوته ، وعلى ما يلقاه في سبيلها من مشقة أو لأواء أو شدة ، وأن يصبر في حال إعراض المدعوين أو مصادمتهم لدعوته فذلك شأن أئمة الدعاة من الأنبياء والمرسلين ، الذي يقول عنهم ربنا تبارك وتعالى آمرا نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في ذلك : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ( الأحقاف : 125 ) .

    ولعل حسن الخلق لا يقل أهمية عن كل ما تقدم مما ينبغي تأهيل الداعية به ، فبحسن الخلق يجتذب الداعية مدعويه إليه ، ويملك عليهم عقولهم وقلوبهم وتنشرح لدعوته صدورهم ، ويحبونه ويأنسون به ويركنون إليه فهو لا يستطيع أن يسعهم بماله ولكنه يستطيع أن يسعهم ببشاشته في وجوههم وتبسمه لهم وحسن خلقه معهم فيلين القول لهم ويحتمل ما قد يصدر منهم ويأخذ بجانب اليسر والسهولة في تعامله معهم . ولكي يكون الداعية مقنعا لمن يدعوهم من جميع الطبقات والمستويات باعتباره فردا من المجتمع يعيش في أوساط مختلفة علميا وثقافيا فإنه ينبغي تأهيله بمختلف ألوان الثقافات التي يحتاج إليها في دعوته ، والتي تكبره في عيون مدعويه وتفرض عليهم احترامه وتقديره ، وتجعل لديهم الاستعداد لسماع ما يقوله لهم .

    فيلزم تأهيله بالثقافة القرآنية بحيث يعرف كتاب ربه فهما لمعانيه وإدراكا لمراميه وتأدبا بآدابه والتزاما بالمنهج الرباني للدعوة الذي رسمه القرآن الكريم وبينه أوضح بيان ، ثم يحسن الاستدلال بآياته أثناء دعوته فيجمع الآيات المتعلقة بموضوعه وبعمل على تصنيفها بما يلائم غرضه ، ويوضح نظر في القرآن إلى الموضوع الذي يتحدث عنه أو يكتب فيه ، ويحرص على التأسي بأسلوب القرآن في إيراد القصص في مجال الدعوة والبلاغ ، فيعتني في مجال دعوته بهذا الأسلوب الناجع المفيد مركزا على الدروس المستفادة من تلك القصص والعبر المستخلصة منها . وعلى الداعية في مجال الثقافة القرآنية أن يستعمل في دعوته النماذج القرآنية التي تصور الشخصية الإنسانية في مختلف أحوالها ، كنموذج الغني الشاكر في شخصية نبي الله سليمان عليه السلام ، ونموذج الحاكم العادل الذي لم تمنعه سعة ملكه عن عبادة ربه ورعاية شعبه في شخصية ذي القرني ، ونموذج المبتلى الصابر في شخصية نبي الله أيوب عليه السلام ، وشخصية الشاب المتعفف عن الحرام رغم قدرته عليه وتوافر دواعيه في شخصية نبي الله يوسف عليه السلام ، وغير ذلك من النماذج الكثيرة للشخصية الإنسانية في القرآن الكريم .

    وعلى الداعية في مجال الثقافة القرآنية اتباع المحكم من آيات التنزيل العزيز ، وعدم الخوض في المتشابه منها ، وألا يفكك النصوص القرآنية ويجزئها تجزئة تضيع معالمها وتتداخل معانيها فلا يتحقق الغرض من إيرادها والاستدلال بها .

    ثم يلزم بعد ذلك تأهيل الداعية بالسنة النبوية فهما للأحاديث النبوية وتمييزا للصحيح منها من غيره وحذرا من وضعها في غير مواضعها ومن الاستدلال بالأحاديث الموضوعة أو الضعيفة الواهية .

    ولا بد للداعية مع ذلك من قدر مناسب من الثقافة الفقهية ، بحيث يعرف أهم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والآداب ويكون قادرا على مراجعة ما زاد عما يعرفه في مظانه من المصادر والمراجع الفقهية المعتبرة ، وأن يحرص على ربط الأحكام بأدلتها من الكتاب والسنة ، وأن يتزود بالقدر الكافي من علم أصول الفقه ليعرف كيف تستنبط الأحكام من الكتاب والسنة ، ومن الذي يجوز له الاستنباط . . . إلخ . وليعرف الراجح من المرجوح من الأقوال ليأخذ بالراجح ويعذر الآخذين بالمرجوح أو يقنعهم بالأخذ بما أخذ به ، لا بد له من ذلك كله لأنه وهو يقوم بالدعوة في أوساط الناس سيتعرض لأسئلتهم واستفساراتهم واستفتاءاتهم فيحسن أن يكون مستعدا لإفادتهم وشفاء غليلهم .

    ومن الثقافة اللازمة للداعية الثقافة التاريخية ، بحيث يعرف تاريخ الإسلام والأمة الإسلامية خاصة وتاريخ الإنسانية عامة بقدر الاستطاعة والإمكان ، ليتعلم من المواقف الحاسمة منه ، ويطبع على الملامح الرئيسة فيها ، وليتسع أفقه من خلال دراسته له ومعرفته به ووقوفه عليه باطلاعه على أحوال الأمم وتاريخ الرجال وتقلبات الأيام ، ولأن التاريخ أصدق شاهد على ما يدعو إليه الدين من قيم ومفاهيم ، ومن خلاله تتجلى سنة الله في الكون والحياة والأحياء فاستخلاص الدروس والعبر من أحداثه هو ما ينبغي أن يدفع الداعية لدراسته ، وصدق الله إذا يقول : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ( يوسف : 111 ) .

    ومن الأهمية بمكان أن يتم تأهيل الداعية في مجال اللغة العربية ، فيعد ليكون متحدثا بارعا بلغة سليمة فصيحة خالية من العيوب اللغوية والأخطاء النحوية التي تشوه الكلام وتنفر السامعين ، وقد تحيل المعنى المقصود وتغير المراد ، وما أشد قبح تلك الأخطاء حين تكون في شيء من الوحيين القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة .

    ولا يقل عن ذلك أهمية أن يكون الداعية ملما بقضايا عصره الذي يعيش فيه ، عارفا بما يسود فيه من نظم ومذاهب وأفكار وتيارات مختلفة ، وما يحركه من عوامل ، وما يصطرع فيه من قوى ، لئلا يكون الداعية خارج نطاق عصره بعيدا في تصوراته وأفكاره عن الواقع ، وليكون قادرا على التعامل مع هذا الواقع من خلال دعوته إبرازا للحق وإظهارا له وإعلاء لشأنه ودحرا للباطل وتحذيرا للناس منه . والداعية الذي يعد ليعمل في بيئات تختلف عن بيئته المحلية ، ينبغي أن يضاف إلى تأهيله بكل ما تقدم تأهيله بمعرفة كل ما يتعلق بالبيئة التي سيعمل فيها ، بدءا من لغة من سيدعوهم بحيث يجيدها ليستطيع إيصال ما يريد إيصاله إليهم بلغة فصيحة جيد سليمة من الخلل والأخطاء ، وانتهاء بعادات أولئك وتقاليدهم وأعرافهم وأقصر الطرق إلى قلوبهم وأفضل الأساليب لدعوتهم وجغرافية بلادهم وتاريخها وحاضرها . . . إلخ .

    فكل ما تقدم مما يلزم أن يؤهل به الداعية الذي يراد له أن يكون داعية بحق ، داعية ناجحا مؤثرا قادرا على تحقيق النتائج الموجود من الدعوة ، وعلى إقناع المدعوين بالإنصات إليه والاستماع لما يقول ، ومن ثم الاقتناع بما يقول وبصحة ما يدعوهم إليه لامتلاكه قلوبهم واستحواذه على أسماعهم ، لما يتصف به من إمكانات وقدرات ، ولما يحسونه من حرارة كلماته وصدق لهجته وظهور إخلاصه وحرصه على نفعهم وإسعادهم ، فهو طبيب القلوب الذي يعالج أدواءها وعللها بصدق واقتدار معا .


    يتبع

  2. #2
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2004
    الدولة : غزة فلسطين
    العمر : 72
    المشاركات : 2,005
    المواضيع : 323
    الردود : 2005
    المعدل اليومي : 0.28

    افتراضي

    المبحث الثاني : وسائل تحقيق هذا التأهيل
    هذا التأهيل المتعدد المناحي للداعية ، الذي تحدثنا عنه في الأسطر السابقة ، يحتاج تحقيقه على أرض الواقع إلى وسائل عدة يمكن بواسطتها إعداد الفرد القادر على القيام بهذا الواجب العظيم بطريقة تحقق أهدافه ، ويوصل بها إلى الغرض منه ويمكن إيجاز تلك الوسائل فيما يلي :

    1 - المساجد والدروس والحلقات العلمية فيها ، وهو ما يمكن تسميته بالتعليم غير النظامي .

    2 - التعليم النظامي من خلال :

    أ - المعهد العلمي السعودي بمكة .

    ب - مدرسة تحضير البعثات بمكة .

    جـ - دار التوحيد بالطائف .

    د - كلية الشريعة بمكة .

    هـ - المعاهد العلمية والكليات بالرياض .

    و - كليات الدعوة المتخصصة ببعض الجامعات .

    3 - الممارسة الشخصية للدعوة من قبل الداعية والدورات التدريبية .

    4 - الملتقيات الدعوية والدورات التدريبية .

    وغير خاف أن وسيلتي التعليم غير النظامي ثم النظامي غير خاصتين بإعداد الداعاة وتأهيلهم فقط ، وإنما كانتا لإعداد القوى البشرية العاملة في مختلف أوجه الحياة الأخرى ، حيث كانت تلك المؤسسات ، سواء كانت مساجد أو مدارس أو كليات أو جامعات ، تخرج المدرس والقاضي والمحتسب والموظف الإداري وغير ذلك .

    وغير خاف كذلك أن مفهوم الدعوة والداعية كان في الماضي مفهوما عاما وليس تخصصيا ، فكان يقوم به القاضي والمدرس والمحتسب وإمام المسجد وغيرهم لترابط المجتمع واقتصاره على أهله فقط دون سواهم من مقيم أو وافد ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإن ذلك يعود إلى كون التعليم في بداياته . فلما تطور مستوى التعليم في المملكة تبعا لتطورها جملة وأصبح التخصص سمة من سمات هذا العصر لزم تخصيص أشخاص معينين لهذا العمل ( الدعوة ) ، وتخصيص وظائف محدودة لهم ، وتخصيص جهات رسمية تنظم عمل هؤلاء الدعاة ، وتردى شؤونهم وتكون مسؤولة عنهم ، وتخصيص كليات أو أقسام في الجامعات تعنى بتعليم هذا التخصص وتخريج من يعمل فيه وتأهيلهم لهذا العمل الجليل وإعدادهم له خير إعداد .

    ونحاول أن نتحدث بشيء من التفصيل عن تلك الوسائل التي أوجزناها في ما سبق على النحو الآتي :

    أولا : التعليم غير النظامي ( الدروس والحلقات العلمية في المساجد ) :

    يعتبر التعليم من خلال المسجد من أبرز وظائف المسجد وأهم معالم رسالته في المجتمع الإسلامي ، وقد كان تاريخ المسجد في الإسلام حافلا بذلك على امتداد الرقعة الإسلامية ، ومنذ المسجد الأساس لكل مسجد في الإسلام وهو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، فلا غرو أن تهتم الدولة السعودية في أطوارها الستة بهذا الجانب اهتماما عظيما وأن تحيي رسالة المسجد التعليمية إحياء يلفت الأنظار ، ويبرز عناية هذه الدولة المباركة بالعلم الشرعي وتعليمه وبالدعوة إلى الله في آن واحد . وبما أن الذي يعنينا هنا هو ما يتعلق بالدولة السعودية الثالثة التي أسسها الملك عبد العزيز - رحمه الله - ، فإننا سنقصر الحديث في هذا الجانب على اهتمام الملك عبد العزيز - رحمه الله - وأبنائه من بعده بذلك :

    " فقد ركزت حركة المصلح الملك عبد العزيز - رحمه الله - على طلب العلم من داخل المسجد بجانب المعاهد والمدارس ومن حينها نمت حلقات علمية كبرى في مساجد المملكة وقراها يتصدرها مشايخ وقضاة أفاضل على جانب كبير من الفقه والخلق الحسن والحرص على إخلاص العقيدة وتوثيق معلوماتهم ودعوتهم من منهلها " .

    وكنموذج لذلك نشير إلى دروس سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في مسجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف - رحمهما الله - في حي دخنة بالرياض ، فقد شغل جل وقته في نشر العلم منذ صلاة الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء . وكان يدرس عليه مختلف فئات الطلاب صغارا وكبارا ومتوسطين ، وكان يدرسهم مختلف العلوم من النحو والفقه والحديث والتفسير والعقيدة والفرائض .

    كما نظم الملك عبد العزيز - رحمه الله - شؤون التدريس في المسجد الحرام ، حيث أصدر ، عندما دخل مكة سنة 1343 هـ ، نظاما جديدا للتدريس في الحرم المكي ، ثم أصدر في 15 /4 /1345 هـ أمره بتأليف لجنة علمية برئاسة الشيخ عبد الله بن بليهد تتكون من أربعة أعضاء تسمى " الهيئة العلمية " ، تقوم بالإشراف على سير الدروس في الحرم المكي ، وانتقاء الكتب النافعة ، وتعيين الأساتذة المشهود لهم بالكفاية وحسن السيرة والسير على طريقة السلف الصالح ، وقد اهتم هذا الأمر بمضمون التدريس في المسجد الحرام ، حيث حدد مواد التدريس وأوقاتها بأن يدرس فقه المذاهب الأربعة والعلوم العربية بكرة وأصيلا ، وأن تكون دروس التوحيد والحديث والوعظ بين العشاءين ، وأوجب على المدرسين عند تدريس أصول العقائد ومباحث الصفات أن يبينوا مذهب السلف الصالح الذي أجمع عليه أئمة أهل السنة على أنه أسلم المذاهب وأحراها بالقبول ، وأن يبينوا أثناء دروسهم البدع التي شوهت سمعة الدين الحنيف وأنواع الخرافات التي أخرت المسلمين وهبطت بهم إلى الحضيض .

    واستمرت حركة التدريس في المساجد خلال كافة عهود هذه الدولة مرورا بعهد الملك سعود - رحمه الله - ، فالملك فيصل - رحمه الله - ، فالملك خالد - رحمه الله - وصولا إلى العهد الحاضر الذي ينعم بقيادة وريادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - حفظه الله - ، حيث تغص معظم المساجد في كافة أنحاء المملكة بالدروس العلمية المنظمة ، التي يتولاها عدد من طلبة العلم والمشايخ والدعاة والقضاة الموثوقين ، فيفيدون الناس ويلتف حولهم الراغبون في النهل من هذا المنهل العذب الصافي . وتشرف على تنظيم هذه الدروس وترتيبها مراكز الدعوة والإرشاد المنتشرة في كافة مناطق المملكة ، وهي المراكز التي تشرف عليها وتتولى رعايتها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد .

    وكنموذج لذلك فإن دروس سماحة الشيخ /عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله - ، المفتى العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء ، تشبه إلى حد كبير دروس شيخه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - ، التي سبق الحديث عنها في شمولها وتنوعها واستيعابها لمعظم فترات الأسبوع ، رغم مسؤوليات كليهما والأعباء التي حملاها .

    ثانيا : التعليم النظامي من خلال :

    أ - المعهد العلمي السعودي بمكة :

    تم تأسيس هذا المعهد سنة 1345 هـ بمكة ، وأطلق عليه في البداية اسم " المعهد العلمي الإسلامي " ، وحددت الدراسة فيه بثلاث سنوات ، ولم تبدأ فيه الدراسة فعليا إلا في عام 1347 هـ ويعتبر أقدم مؤسسة تعليمية حكومية في المملكة لما فوق المرحلة الابتدائية ، وكان الملك عبد العزيز - رحمه الله - مهتما بهذا المعهد ويتابع تطوره ، وقد شارك في اختيار مديره وأساتذته ، كما اختار خمسين طالبا من نجد للدراسة فيه ، وبلغ من اهتمامه - رحمه الله - به وبطلابه أن التقى بأول دفعة تخرجت منه وخطب فيهم حاثا إياهم على قرن العلم بالعمل وأن يعرفوا قدر ما تعلموه . . . إلخ .

    وتشمل المواد الدراسية في المعهد : القرآن الكريم مع التجويد ، والدروس الدينية ، والإملاء ، والحساب ، والقراءة ، والمحادثة ، والإنشاء ، والقواعد ، والخطابة ، ومسك الدفاتر ، وتقويم البلدان ، وسنن الأخلاق ، واللغة الفرنسية . وبعد نجاح تجربة هذا المعهد تقرر فتح فرع له في المدينة ، وقد استمر المعهد وفرعه في تأدية رسالتهما حتى عام 1381 هـ ، حيث حلت محلهما معاهد إعداد المعلمين .

    ب - مدرسة تحضير البعثات بمكة :

    تم تأسيسها في سنة 1355هـ بمكة ، وهي أول مدرسة ثانوية بالمفهوم الحديث ، وقد كانت نافذة على العلوم الحديثة حيث فتح المجال لتخصصات جديدة ، بعد مرور عشر سنوات على تأسيس " المعهد العلمي السعودي " ، لتؤهل الطالب بعد التخرج منها للالتحاق بالكليات المتخصصة النظرية والعملية في الجامعات العربية وخاصة في مصر ، وقد دل اتجاه الملك عبد العزيز - رحمه الله - إلى إنشاء هذه المدرسة على سعة أفقه ، إذ أدرك بثاقب نظره أن تقدم البلاد ورقيها ، والقيام بواجب الدعوة ونشر الإسلام ، يحتاجان كلاهما ، بالإضافة إلى العلوم الدينية والشرعية ، إلى التعرف على أسباب المدنية والأخذ بالعلوم الحديثة . والمتتبع يلحظ أن من أبرز خصائص هذه المدرسة استشراف المستقبل ، والإفادة من العلم الحديث بخطوات محسوبة في ضوء تعاليم الدين الحنيف .

    وقد كانت هذه المدرسة من أجدى المعاهد السعودية نفعا في ذلك العهد ، حيث وضع لها منهج الدراسة في مصر ، وزودت بمعمل للمواد العلمية ( الكيمياء والطبيعة ) وببعض وسائل الإيضاح العلمية الحديثة . وكانت مدة الدراسة بها أربع سنوات للقسم العام ، وخمس سنوات للقسم الخاص ، ضمانا لثقة الكليات وما في مستواها في الخارج - ولا سيما في مصر - بخريجيها ، انتدب للتدريس فيها عدد من المدرسين المصريين أكفاء .

    وقد تخرج من البعثات التي أوفدت من خريجي هذه المدرسة إلى الجامعات المصرية ثلاثة وأربعون طالبا فيما بين عامي 1365هـ و 1368 هـ .

    ورب قائل يقول : وما دخل هذا المعهد وهذه المدرسة في تأهيل الدعاة ، ونجيبه بأن فاتح آفاق العلم أمام الطالب المسلم يعتبر إسهاما في تهيئته ليكون عضوا فاعلا في مجتمعه عاملا لخدمة دينه وأمته . وما الدعوة إلى الله إلا جزء من تلك الآلية المطوبة ، والعمل المتواصل لخدمة الدين وإعلاء شأنه بنشره وبيانه والدعوة إليه .

    جـ - دار التوحيد بالطائف :

    أنشئت بالطائف سنة 1364 هـ فكانت نواة لتطوير مؤسسات التعليم الديني ، وتخريج الأفواج الأولى من المؤهلين لمتابعة دراستهم العليا في المجال الديني ، كما كانت نموذجا للمعاهد العلمية الدينية التي فتحت بعدها بست سنوات عام 1370هـ ، واتجاه الملك عبد العزيز - رحمه الله - إلى إنشاء هذه الدار كان يهدف إلى تحقق غاية تعليمية سامية هي فهم الإسلام فهما صحيحا متكاملا ، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها ، وتزويد الطلاب بالقيم والتعاليم الإسلامية .

    لقد وفق الملك عبد العزيز - رحمه الله - بافتتاحه هذه الدار في تجربة جديدة من تجاربه التعليمية ، وكأنما كان يستشرف المستقبل ويرى الطريق الذي ستفتحه دار التوحيد أمام تطور مؤسسات التعليم الديني في المملكة وازدهارها على جميع المراحل والمستويات . وأن تطور هذه المؤسسات التعليمية الدينية ما هو إلا تطوير في الأساليب الدعوية التي كان لها أكبر الأثر في نشر الدعوة السلفية في أنحاء الجزيرة العريية .

    وقد اهتم الملك عبد العزيز - رحمه الله - بهذه الدار كاهتمامه بالمعهد العلمي السعودي أو أشد ، فكان يتابع أخبارها ويشرف عليها إشرافا مباشرا تمثل في ربطها بالقصر ، وأمره لسمو الأمير منصور بن عبد العزيز بتلبية كل مطالبها ، واختياره للشيخ محمد بهجة البيطار ، العالم الأثرى الشامي المعروف ، لإدارتها لخبرته في تأسيس المعهد العلمي السعودي السابق بمكة وفي التدريس بمدارس دمشق ومعاهدها . ولقد ارتكزت مقررات دار التوحيد على تقديم منظومة معرفية عن العلوم الدينية بشكل مرتبط بالتخطيط المستقبلي لمصير الطلاب المتخرجين من هذه المؤسسة التعليمية ، وبالنظر إلى التطور التاريخي للمواد التي تقدمها الدار يمكن معرفة شدة العلاقة بين تاريخية الدعوة الإصلاحية وقيام دار التوحيد ، الأمر الذي جعل فكرة قيامها تحظى بالقبول لارتباطها الوثيق بالخدمة الدينية للدعوة السلفية دولة الوحدة .

    د - كلية الشريعة بمكة :

    أنشئت بمكة سنة 1368هـ كامتداد طبيعي لتأسيس " الدار التوحيد " ، ومن قبلهما المعهد العلمي السعودي ، ليواصل خريجوهما دراستهم العالية للعلوم الشرعية ، وهكذا بدأت أول تجربة رائدة للتعليم العالي في المملكة العربية السعودية لتخريج المدرسين في العلوم الدينية والعربية ومناصب القضاء .

    وبإنشاء هذه الكلية يكتمل عقد المراحل التعليمية في المملكة فهي عهد مؤسسها جلالة الملك عبد العزيز - رحمه الله - فقد افتتحت مدارس ابتدائية في الحجاز ، وأسست سنة 1362 هـ مدرسة طيبة الثانوية بالمدينة ومدرسة ثانوية بجدة ، إضافة إلى ما سبق بيانه من افتتاح المعهد العلمي السعودي ثم دار التوحيد . ولم تدخل سنة 1369 هـ إلا وفي نجد والمنطقة الشرقية وحدهما أربع وثمانون مدرسة يدرس بها ما يزيد على ثمانية آلاف طالب ، وقد كانت هذه الكلية تابعة لوزارة المعارف ثم ضمت إلى جامعة الملك عبد العزيز بجدة ، وفي سنة 1401 هـ أنشئت جامعة أم القرى التي صارت هذه الكلية هي النواة الأولى لها .

    هـ - المعاهد العلمية والكليات بالرياض :

    واستمرارا للحركة التعليمية النشطة التي بدأها الملك عبد العزيز - رحمه الله - عهد إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بافتتاح المعهد العلمي بالرياض والإشراف عليه وكان ذلك عام 1370 هـ ، ثم افتتاح كلية الشريعة ، ثم كليه اللغة العربية عام 1374هـ وكلتاهما بالرياض .

    ثم تتابع افتتاح المعاهد بعد ذلك ، فافتتح معهد عنيزة عام 1370 هـ ، ومعهد بريدة عام 1373 هـ ومعاهد المجمعة وشقراء وسامطة عام 1374 هـ ، وهكذا حتى بلغت حاليا ما يزيد على ستين معهدا ، وكانت تتولى الإشراف على هذه المعاهد والكليتين الإدارة العامة للكليات والمعاهد العلمية التي أصبحت فيما بعد " الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية " ، ثم تحولت في سنة 1394 هـ إلى " جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية " ، التي تضم ما يزيد على عشرين كلية ومعهدا للعلوم الإسلامية والعربية داخل المملكة وخارجها .

    وقد نفع الله بهذه المؤسسة التعليمية الشامخة في كلتا مرحلتيها ( معاهد وكليات ) و ( جامعة ) نفعا عظيما ، فخرجت الدعاة إلى الله القضاة والمدرسين ، وسدت فراغا كبير ، ، وأحدثت نقلة كبيرة في المستوى التعليمي في البلاد .

    و - جامعة أم القرى بمكة :

    تم إنشاء هذه الجامعة في عام 1401هـ ، وسبق أن أشرنا إلى أن كلية الشريعة بمكة التي كانت قد أنشئت عام 1386هـ كانت هي النواة الأولى لها ، وتضم حاليا عددا من الكليات والمعاهد المتخصصة التي تعنى في معظمها بالدعوة وتأهيل الدعاة وتزويدهم بالعلوم والمعارف التي تعينهم على القيام بواجب الدعوة وتعدهم للإسهام في هذا الميدان بعلم وبصيرة .

    ز - الجامعة الإسلامية بالمدينة :

    أسست هذه الجامعة عام 1380 /1381 هـ, لخدمة العالم الإسلامي وإمداده بالعلماء والدعاة والمدرسين والأئمة ، حيث خصص 85% من نسبة من تقبلهم من الطلاب من خارج المملكة و15% من السعوديين وقد بلغ عدد جنسيات طلاب الجامعة حوالي مائة وستين جنسية ، ولقد أرادت حكومة هذه البلاد - وفقها الله - من إنشائها أن تكون منارة إشعاع في مهبط الوحي ودار الهجرة ومأرز الإيمان عاصمة الإسلام الأولى, لإيقاظ همم أبناء العالم الإسلامي الوافدين إليها ، وتزويدهم بالعلوم والمعارف التي تنفعهم في دينهم ودنياهم ، وإعدادهم ليكونوا دعاة في بلادهم لأقوامهم بألسنتهم بعد السنوات الأربع التي يقضونها في إحدى كليات الجامعة ، وقد آتت هذه الجامعة أكلها الطيب وثمارها اليانعة فتخرج منها الآلاف من أبناء هذه البلاد والبلاد الإسلامية الأخرى ، فما من بلد إسلامي إلا وفيه أحد من خريجيها .


    ح - كليات الدعوة المتخصصة ببعض الجامعات :

    تحتوي بعض الجامعات في المملكة على كليات متخصصة في مجال الدعوة إلى الله تعالى ، حتى إنها لتحمل هذا الاسم ذاته ( كلية الدعوة ) مضافا إليها ( الإعلام ) ، باعتباره تشمل عددا من الوسائل البالغة الأهمية لاستخدامها في مجال الدعوة ( الصحافة ، الإذاعة المسموعة ، الإذاعة المرئية ( التلفاز ) .

    حيث يوجد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كليتان للدعوة والإسلام ، إحداهما بمقر الجامعة بالرياض والأخرى بالمدينة ، كما يوجد بجامعة أم القرى كلية للدعوة وأصول الدين ، وكذلك توجد كلية مماثلة بالجامعة الإسلامية بالمدينة ، ولا شك أن هذه الكليات ، التي أنشئت خصيصا لتأهيل الدعاة وتخيريجهم ، أدق في مسألة إعداد الدعاة من الكليات التي تعنى بالتأهيل لتخصصات متعددة تأتى الدعوة إلى الله من ضمنها عرضا لا قصدا ككليات الشريعة وأصول الدين والقرآن الكريم والحديث وعلومه ونحوها .

    فهذه الكليات المتخصصة تعنى بتخريج الدعاة فقط ، وهى لذلك تركز على تعليمهم مناهج الدعوة وطرائقها وأساليبها ووسائلها وتارخيها ، وسير أبرز الدعاة إلى الله بدءا بالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ثم كبار الدعاة والمصلحين بعدهم على امتداد تاريخ الإسلام . وهى بذلك تعد من يتخرج منها ليكون داعية متمكنا قادرا على خوض غمار هذا الميدان البالغ الأهمية ، متسلحا بالعلوم والخبرات التي تمكنه من النجاح في مهمته وتحقيق هدفه منها ، وهو بيان أحكام الإسلام وتعاليمه عقيدة وشريعة وأخلاقا وآدابا وإيضاحها لمن خفيت عليه , وتذكير من نسيها أو غفل عنها بها, ونشرها في الآفاق بوعي وحكمة وبصيرة .

    كما أن تلك الكليات المعنية بالدعوة وإعداد الدعاة تسهم في خدمة هذا الميدان الهام بالبحوث والدراسات التي تتطلبها مسيرة الدعوة ويقتضيها تطورها وازدهارها .


    المبحث الثالث : ممارسة الداعية للدعوة

    وهذا من أهم عناصر تأهيل الداعية لهذا العمل المهم ، فليس كالممارسة الشخصية في مجال التأهيل لأي عمل من الأعمال ، فضلا عن هذا العمل الذي يكتنفه الكثير من الحساسية ، ويحتاج إلى المزيد من الصبر والتحمل والتضحية وبذل الوقت والجهد وربما المال أيضا ، تحبيبا للناس فيما يدعوهم إليه وفتحا لمغاليق قلوبهم وتألفا لهم . فهذه الممارسة المباشرة تكسب الداعية خبرة حية يعيش أحداثها ويرى آثارها ويتعامل بموجبها في كل خطوة من خطوات دعوته ، وكلما ازدادت خبراته به وإدراكه لخفاياه فيصبح نتيجة هذه الخبرات المتراكمة أكثر حنكة في دعوته وأقدر على التفاعل معها والارتياح لها والبذل في سبيلها برضى وطمأنينة نفس وراحة بال ، وسيجد من خلال هذه الممارسة اليومية ما لم يجده في بطون الكتب أو على ألسنة المدرسين والأساتذة في فصول الدراسة ومدرجات الكليات .

    وإذا كان حب أي عمل شرطا للنجاح فيه فإن ذلك يظهر أوضح ما يكون في عمل الدعوة ، فإنه لن ينجح فيه إلا من أحبه واعتبره واجبا ومسؤولية دينية بالدرجة الأولى ورسالة لا وظيفة محددة فقط ، وذلك لما يكتنف هذا العمل من مشقة ، وما يصاحب أداءه من عقبات لتعلقه بالتعامل مع الناس تعاملا مباشرا والتعامل المباشر مع الناس بمختلف مستوياتهم وطبقاتهم لا يخلو من أذى في الغالب الأعم ، ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى التعامل مع الناس ومخالطتهم والصبر على أذاهم في الوقت نفسه في قوله عليه الصلاة والسلام : المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم


    المبحث الرابع : الملتقيات الدعوية والدورات التدريبية
    وهذا أيضا إحدى وسائل تأهيل الدعاة وإعدادهم إعدادا جيدا للقيام بعملهم على خير وجه . وهو في المملكة عمل قائم متواصل تقوم به الجهات المسؤولة عن الدعوة والدعاة كوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ، ورابطة العالم الإسلامي ، والندوة العالمية للشباب الإسلامي ، أو الجهات المهتمة بالدعوة والدعاة ؛ كالجامعات وبعض الهيئات والمؤسسات الخيرية الأخرى .

    فهذه الملتقيات الدعوية فرصة لتلاقي الدعاة وتدارس شؤون الدعوة وشجونها ، وإعداد البحوث عنها واستعراضها وكل ذلك يزيد حصيلة الداعية ويعمق فهمه لعمله الذي تصدى له .

    كما أن التدريب المستمر للدعاة عن طريق إقامة الدورات التدريبية لهم ، تلك التي يحاضر فيها عليهم من سبقهم في هذا الميدان من أصحاب الخبرة والتجربة وأهل العلم . هذا التدريب شديد الأهمية واضح الأثر في ارتفاع مستوى أداء الدعاة الذين يتاح لهم ، لعملهم وإفادتهم من هذا التدريب في شحذ هممهم وتطوير ملكاتهم وتقوية عزائمهم للاستمرار في السير في طريق الدعوة بكل صبر وثقة وتفان . وكثيرة هي الملتقيات والدوريات التي عقدتها تلك الجهات المسؤولة عن الدعوة أو المهتمة بها في الداخل والخارج في مختلف أنحاء العالم مما لا يتسع هذا البحث المختصر لتناوله .

    وإضافة إلى هذه الوسائل لتأهيل الداعية فإن هناك وسيلة لا تقل أهمية عنها هي : " الإعلام " بقنواته الثلاث ؛ المقروءة ، والمسموعة ، والمرئية .

    فعن طريق الصحافة صحفا ومجلات يمكن الاعتناء بتطوير الدعاة وترقية ملكاتهم والعمل على إعدادهم إعداد جيدا لممارسة الدعوة بواسطة تخصيص صحف أو مجلات مستقلة لذلك ، أو عن طريق إسهام الصحف والمجلات بصفحات معينة لهذا الغرض ، والشيء نفسه يقال بالنسبة للقناتين الأخريين ( الإذاعة ، والتلفاز ) فإنه يمكن الإفادة منهما فائدة قصوى في هذا المضمار ، وتخصيص برامج محددة في كليهما تهتم بالدعوة والدعاة منهجا وأسلوبا وأداء ، برامج يشترك فيها المتخصصون من أصحاب الخبرة والتجربة في ميدان الدعوة من العلماء والمفكرين وأساتذة الجامعات وقدامى الدعاة لصب خبراتهم وعلومهم وتجاربهم في قالب مشوق جذاب يغري الدعاة بمتابعته ويحضهم حضا على الإفادة منه .


    خاتمة :
    وهكذا رأينا أن الدعوة إلى الله تعالى كانت ولا تزال هاجسا في شعور ولاة أمر هذه البلاد ، يعيشونها قضية ارتبطت في أذهانهم . بمسؤولياتهم الأخرى عن الدولة والتشعب والأمة ، وأن ذلك لم يكن بدعا فهو شيء يتوارثه الخلف منهم عن السلف في تواصل حميم يقوم على الاعتزاز بالإسلام والشعور بالمسؤولية عن نشره والدعوة إليه . كان ذلك شيئا ورثه الملك عبد العزيز - رحمه الله - من آبائه وأجداده ؛ فهو شيء مؤسس ارتبط بالدولة وأصبح جزءا من مقوماتها الأساسية ، وورَّثه لأبنائه من بعده حتى نصل إلى عهد خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - ، الذي ترجم ذلك الاهتمام بالدعوة إلى الله بإنشاء وزارة مستقلة ترعاها وتنظم شؤونها وتشرف عليها .

    ورأينا كذلك أن لتأهيل الدعاة وإعدادهم وسائل عديدة استعرضنا بعضا منها ، وهي وسائل كان معمولا بها خلال تاريخ الدولة السعودية الحديثة ( الثالثة ) التي أسسها ووحد أجزاءها جلالة الملك عبد العزيز - رحمه الله - إلا أن الإفادة من تلك الوسائل كانت متفاوتة نوعا وقلة وكثرة بحسب الظروف والأحوال مكانا وزمانا ، وبحسب الإمكانات قوة أو ضعفا .

    أريد أن أقول : إن الأخذ بتلك الوسائل والإفادة منها كان يتطور بتطور الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وإمكاناتها ، فكلما تطورت تلك الأجهزة والمؤسسات تطور استخدام تلك الوسائل . وفي عصرنا الحاضر بلغ تطور الدولة مبلغا عظيما ، ولله الحمد ، مما ييسر الإفادة من جميع تلك الوسائل تعليما وإعلاما وتدريبا وممارسة .

    والله وحده ولي التوفيق .

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .


    مراجع البحث
    1 - الألباني ، سلسلة الأحاديث الصحيحة ، الطبعة الثانية ، 1399 هـ ، المكتب الإسلامي .
    2 - خير الدين الزركلي ، الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ، الطبعة الرابعة ، 1984 ، دار العلم للملايين .
    3 - خير الدين الزركلي ، شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز ، الطبعة الثالثة ، 1985 م .
    4 - د . صالح بن غانم السدلان ، الأنشطة الدعوية في المملكة العربية السعودية ، الطبعة الأولى ، 1417 هـ .
    5 - عبد الله بن راشد السنيدي ، مراحل تطور تنظيم الإدارة الحكومية ، الطبعة الأولى ، 1409 هـ .
    6 - د . محمد بن ناصر الشثري ، الدعوة في عهد الملك عبد العزيز ، الطبعة الأولى ،
    7 - د . يوسف القرضاوي ، ثقافة الداعية ، الطبعة الثانية ، 1399 هـ .
    8 - مجلة التوعية الإسلامية ، العدد ( 213 ) ، ذو الحجة 1417هـ .
    9 - من جهود المملكة العربية السعودية في الدعوة إلى الله ، من مطبوعات وزارة الشؤون الإسلامية والأوقام والدعوة والإرشاد ، الطبعة الأولى 1419 هـ .
    10 - مجلة الدارة ، العدد الثالث ، السنة ( 21 ) ، ربيع آخر وجماديان 1416 هـ .

المواضيع المتشابهه

  1. ضرورة تأهيل الأئمة في إيطاليا
    بواسطة فتحي العابد في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 25-05-2014, 12:14 AM
  2. السيناريو الأمريكى الأخطر : حروب تأهيل أيران
    بواسطة محمد دغيدى في المنتدى الحِوَارُ السِّيَاسِيُّ العَرَبِيُّ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 06-04-2007, 07:50 PM
  3. دورة تأهيل فني الكتروني
    بواسطة مصطفى بطحيش في المنتدى عُلُومٌ وَتِّقْنِيَةٌ
    مشاركات: 62
    آخر مشاركة: 15-01-2007, 12:08 AM
  4. إلى أختي الداعية
    بواسطة عدنان أحمد البحيصي في المنتدى مُنتَدَى الشَّهِيدِ عَدْنَان البحَيصٍي
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 17-10-2004, 10:22 PM
  5. قصص الانبياء (دروس بصوت الداعية الإسلامي/عمرو خالد ) حفظه الله
    بواسطة جمال حمدان في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 03-02-2003, 08:31 PM