( من حكايات العابرين)
ذلك الأوليمبي
وقف أمامي فجأة بانحنائة ظهرشيخ مهدم، سادا علي طريقي، محملقا في عيني بمقلتين حمراوتين،بينهما أنف كبيرة، فارتعب قلبي.
دق على كتفي بيد قوية آمرا :
هات جنيه!!
لفتت نظري الكم الهائل من الميداليات الرياضية الأوليمبية معلقة فوق رقبته، تتدلى على صدره، بأشرطة متسخة ألوانها بلا بهجة، وأقراص معدنية كالح معدنها بلا بريق، يكسوها صدأ الأيام، وهموم السنين.
$$$$
كم تصدرت صورته الشاشات، وكم هتف الآلاف باسمه ، وصفقوا له، وهوالبطل المتربع على عرش اللعبة الرياضية الفردية، في المصارعة؛ كان يشعر بالقوة وهو يحمل خصمه فوق ذراعيه وأكتافه، ويحس بالراحة حين يطرحه أرضا، وسط هدير المشجعين. إحساس غامض يتلبسه وكأنه يلقي بهمهومه ، ويهزم فقره وتواضعه الاجتماعي.
&&&
فهو مجرد سائق (كلارك) في مصنع للغزل. وظيفة من الله بها عليه ، كغيره من أرباب البطالة، الذين ارتأت الدولة في زمن ما، وفي خطوة غير مسبوقة، السعي لدرء الفقر والفاقة عن أهل مصر البسطاء من الأغلبية المسحوقة، فشرعت حينها لتحقيق شيئا من العدالة الاجتماعية؛ وآلت على نفسها بناء مصانع وتشغيل كل يد عاطلة.
فكان صاحبنا ،ممن لملمتهم يد الدولة من فوق أرصفة العمالة اليومية الكادحة ،وعمال التراحيل ، وتم محو شيئا من أميتهم، بالقدر الذي يتيح لهم كتابة أسمائهم، وقراة جمل قصيرة، وشيئا من العمليات الحسابية البسيطة. ودربوه على قيادة تلك المركبة الصغيرة التي تعمل بالبطارية ، لنقل إنتاج الماكينات من مرحلة إلى مرحلة داخل أقسام المصنع الواحد.
&&&&
كانت الأيام تمرعليه سعيدة، وكان فيها فرحا مسرورا، بين عمله لثمان ساعات ، يحصل خلالها على وجبة غذائية، وبين تدريباته في ملاعب وصالات الشركة، ثم بين أفراد أسرته الصغيرة مع زوجة تفك الخط بمشقة كبيرة ،وصبي على أبواب أول مرحلة تعليمية.كان راتبه يكفيه لمعيشته البسيطة التي هو قانع بها ، لذلك وجد مزيدا من الوقت لتنمية قدراته في تلك اللعبة ، ولم لا؟ وهو لم يتجاوز الخامسة و الثلاثين بعد ، وما زال يمتلك جسدا قويا ، مفتول العضلات؛ نتيجة للعمل الشاق في أعمال الحفر والهدم ، و حمل الأحجار وأكياس الأسمنت منذ صباه.
لقد تفتحت أمامه أبوابا لم يكن يحلم بها ؛ نحو مستقبل زاهر, فحق له الآن أن يحلم؛ وحق له أن يمارس أحلام يقظته، وكلما تطور مستواه في المصارعة، كان يواجه العالم بموهبته تلك وكأنه في صراع وجودي.
فمن حمل ذاك الحمل من الهموم لسنوات كما حمل. وقد تربى يتيما ، ونشأ أميا، لا يملك من مقدرات العمل سوى جهده البدني، فغادر قريته في الجنوب، نازحا نحو الشمال، سارحا وراء لقمة عيشه في المدينة الكبيرة، حيث تقلب فيها بين عدة مهن وأعمال تافهة، فمن بائع للفاكهة في سلة فوق رأسه، إلى صبي في مقهى شعبي يغسل الأكواب وزجاجات الشيشة، مقابل قروش زهيدة.إلى عامل حر باليومية، مقابل بذل جهد بدني شاق.
ووجد في تلك المناسبات الرياضية، فرصة له، أن يلقي بتلك الهموم والمخاوف فوق البساط الرياضي وسط عواصف من التصفيق
والهتاف، فيشعر بنشوة الانتصار.
$$$
خمس سنوات وهو بطل الشركة، حصل فيها على كم هائل من الميداليات، وخرج من ذلك المولد بأكداس من الصور الفوتوغرافية. وقليل من المكافآت المالية الضئيلة حتى تولى تدريب فريق الشباب بها لخمس سنين أخرى.
وفي تدريبه لهم استعدادا لمسابقة رياضية ، أصيب بانزلاق غضروفي ،واستفحلت إصابته ،وطالت فترة علاج ارتبطت بعموده الفقري ونخاعه الشوكي، لسنوات.فكان أن تحددت له نسبة عجز،وقد أصبح غير قادر على ممارسة عمله، وتزامن ذلك مع فترة سوداء ، ما زال العمال يذكرونها بالدموع والحسرات، حين تم تصفية مصانع الدولة وتسريح عمالها بمكافات ومعاشات تقاعدية هزيلة.في مواجهة هجمة رأسمالية شرسة تشتري الحجر والبشر.
وانزوى في ركن من شقته الصغيرة، تجالسه زوجة هدها المرض، ورطوبة المكان، محتفظا برزمة من خطابات قديمة،من ولد غاب في غربة بعيدة ولم يرجع.
$$$
لم ينجب سواه، كافح معه حتى حصل بالكاد على شهادة متوسطة ، أملا في إلحاقه مشرفا بذات المصنع. ولده الغائب هناك على شط العرب ، إذ ارتحل مع من هاجروا إلى هناك ، مع جموع شباب الوطن بحثا عن فرصة عمل ،بعيد تسريحهم من جيش منتصر في معركة دموية شرسة مع عدو جبان وخبيث. ومن سوء طالعهم أن حربا أخرى قد لاحقتهم هناك في بلاد الرافدين، أمسكت نيرانها بتلاليبهم، فقتل من قتل وغاب من غاب، ورجع من رجع، ولكن ابنه كان ممن فقدوا بلا خبر، وغابوا بلا تفسير، وتلاشوا بلا أثر.
فحطت فوق رأسه غربان الهم برحيل زوجه المريض ، بعد أن دار على مكاتب من خالطهم من المسئولين، وأعتاب من يعرفهم من الكبراء، حاملا أوسمته الرياضية من برونز ونحاس، راجيا منهم مساعدة في علاج، أو نفقة لمعيشة. دون جدوى.
وبين غيابين لأمرأته العزيزة، وولده الحبيب، صار وحيدا إلا من أوسمته وميدالياته التي تحوط عنقه.وذكريات صدئة
ورويدا ، رويدا ،ساءت حالته النفسية وصار يهدي بكلام غير مفهوم؛ يخرج هائما في شوارع المدينة الصغيرة التي كان واحدا من أشهر سكانها. صارت الآن مدينة متوحشة، تتفجر بأضواء المحال ،وزجاج المولات ،ولافتات الدكاكين ذات الأسماء الأجنبية؛ يسير في شوارعها المكدسة بأحدث السيارات ،ويتنفس غبارها في أجوائها المعطرة بأفخر العطور النسائية، ويتخبط في مشيته في زحام من شبابها اللين بملابسهم الأنثوية، يهيم بين ذلك كله بشعر غزير غير حليق، ولحية كثة لا تبدي من وجهه سوى أنف كبيرة بين تجاعيد شتى ، ونظرة حائرة للاشيء ، وطلب دائم يطرحه على المارة :
هات جنيه؟؟
والغريب أنه يتجاوزك، ويتركك دون أن يأخذ شيئا.ماضيا في دربه لا يلوي على شيء.