...
ليس كل ما يُكتب أدبا..وليس كل من يكتب أديبا
لغتنا الأجمل ليس مطلوب منها إيراد المعاني وكفى. بل أيضا إخراجها قي حلل قشيبة وسبائك رائعة تخلب اللب وتشنف السمع وتزكم بعطر جمالها الانوف.
قالوا :
"ﻭاﻟﺒﺪﻳﻊ ﻣﻘﺼﻮﺭ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺮﺏ، ﻭﻣﻦ ﺃﺟﻠﻪ ﻓﺎﻗﺖ ﻟﻐﺘﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻟﻐﺔ، ﻭﺃﺭﺑﺖ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻟﺴﺎﻥ".
وقد كان سوق المعاني في مواكب الجمال ديدنهم منذ بزغ فجر الحرف ولاح في الناس نور صباحه، فكانوا يتفننون ولا يبالون.. ومازالت فنونهم وطرائقهم مقبولة غير مرزولة وان شططت بهم المعاني وقست منهم الألفاظ..
لاضير... فـ"ﻟﻢ ﻳُﺮَ ﻓﻲ ﺗﻮﺷﻴﺔ ﻧﺘﺎﺝ اﻟﻄﺒﻊ ﺑﺄﻟﻮاﻥ اﻟﺼﻨﻌﺔ اﻟﺴﺎﺣﺮﺓ ﺷﻴﺌﺎ ﻣﻦ اﻹﺛﻢ ﻳﺴﺘﺤﻘﻮﻥ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﺆاﺧﺬﺓ" كما قال ابن المعتز
فالأدب الذي نعرف ، هو القدرة المكينة على إيصال المعاني عبر قوارب لغوية صالحة للعبور إلى ضفة المتلقي.. ولا يكون ذلك إلا باللفظ الجزل الذي يشبع المعنى، ويدهش المتلقي في تراكيب معروفة مألوفة مأهولة، وحسن سبك وعبارة مشرقة، حسنة الوصف، جميلة الرصف بلمحة دالة وايماءة بالغة، زلل سبلها من فار وسبق، وعبَّدَها من لحق واتسق ، وأجمع على اعتبارها وتلقيها بالقبول اللاحقون النابغون..
كل ذلك في اعتدال طبعي، وأناقة لغوية، بعيدا عن الغريب الوحشي والساقط السوقي، والاحتشام عن خسيس الكلام وردئ المعاني..
وأما ما نقرأه في الصحف والمجلات من قصص ومقالات وروايات؛ فلا علاقة له بالأدب البتة، فهو ( في مجال الشعر والرواية خاصة) أقرب إلى ان يكون حملا سفاحا هجينا لاتعرفه لغتنا ولا يعرفها.. ولا يكاد ينتمي إليها سببا ونسبا، بل هو سرد ردئ مغشوش تشوبه العجمة، ونظم بائس مجانب يعتوره العي، ويباين جمال اللغة لفظا وتركيبا ...ويرفع فقط من قدر الحدث برسائل تالفة لغةً، جل اهتمامها استجماع القدرة السردية واللفظية التحريضية على ابرازه.. ولا يكاد يخلص هذا السرد الكئيب من تكلف ولا يسلم من تَزَيُّد.. وﻻﻳُﺤﺴﻦ راقمه ﺃﻥ ﻳﺰاﻭﺝ ﺑﻴﻦ ﻟﻔﻈﻴﻦ فضلا عن جملتين، ولا يعرف متى ﻳﻜﻮﻥ اﻹﻳﺠﺎﺯ ﻣﺨﺘﺎﺭاً ﻭﻣﺘﻰ ﻳﻘﻊ اﻹﻃﻨﺎﺏ ﻣﺮﺿﻴﺎ ﻣﺤﻤﻮﺩا..
وكل هذه المحاولات الفاشلة لا تُمتع الذائقة المطبوعة ناهيك عن اشباع نُهمتها وإرواء غُلّتها ... هي فقط تمنح اللذة العارضة للكسالى والمتبلدين وتروج بضاعةً عند ساقطي الذوق..
.. واذا أردت أن تقع على منسوب الجهل والجهالة عند من انتشرت رواياته واشتهر بالادب، انظر إلى محاوراته وردوده .
إذا هَم بكتابةٍ مضطرا دون تروٍ؛ أخرج الجهل من جحره، وانحسرت معانيه عن مراحيض وكُنُف، فلا يكاد يتصرف في اللفظ الذي يختاره تصرفا صحيحا غير فاسد..
بل عياء ومراء وتطاول وبلادة وقلة حياء..
حتى يقول المشفق عليه : ليته سكت.
والسكوت من الأديب عيّ، وليس من ذهب..
بل ان اﻟﻤﻤﺎﺭاﺓ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻓﻴﻬﺎ حظ نفس ﻷﻗﻞ ﺿﺮﺭاً ﻣﻦ اﻟﺴﻜﺘﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻮﺭﺙ ﺃﺩﻭاءً ﺃﻳﺴﺮﻫﺎ اﻟﻌﻲ،
وان السكوت الذي من ذهب انما هو ذلك الذي ينوب عن قبح المعنى، ودمامة اللفظ، و هُجر القول..
هؤلاء( الحدثاء ) جمعوا القبح من كل جهاته... واستكملوا بعيّهم عدة الجهل..
وقد يعيب بعضهم المتأخرين لكونهم متأخرين لما في ألفاظهم من تساهل وغرابة ولما في معانيهم من تكلف واعتساف .. والأمر ليس كذلك بإطلاق وإلا، فﻟﻴﺲ ﻟﻘﺪﻡ اﻟﻌﻬﺪ ﻳﻔﻀُﻞ اﻟﻘﺎﺋﻞ، ﻭﻻ ﻟﺤﺪﺛﺎﻥ ﻋﻬﺪ ﻳﻬﺘﻀﻢ اﻟﻤﺼﻴﺐ.. كما أشار بعضهم..
مايهم عند المتلقي أن "تأخذ رقاب المعاني بعضها ببعض ( دون) ﻋﻴﺐ ﻓﺎﺣﺶ ﺑﻞ لا بأس بﺃﻟﻔﺎﻅ ﻤﺴﺘﻌﻤﻠﺔ، ﻣﺴﺒﻮﻛﺔ ﺳﺒﻜﺎ ﻏﺮﻳﺒﺎ، ﻳﻈﻦ اﻟﺴﺎﻣﻊ ﺃﻧﻬﺎ ﻏﻴﺮ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺃﻳﺪﻱ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻫﻲ ﻣﻤﺎ ﻓﻲ ﺃﻳﺪﻱ اﻟﻨﺎﺱ. ذلك ﻣﻌﺘﺮﻙ اﻟﻔﺼﺎﺣﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﻈﻬﺮ ﻓﻴﻪ اﻟﺨﻮاﻃﺮ ﺑﺮاﻋﺘﻬﺎ، ﻭاﻷﻗﻼﻡ ﺷﺠﺎﻋﺘﻬﺎ. ﻭﻫﺬا اﻟﻤﻮﺿﻊ ﺑﻌﻴﺪ اﻟﻤﻨﺎﻝ ﻛﺜﻴﺮ اﻹﺷﻜﺎﻝ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻟﻄﻒ ﺫﻭﻕ ﻭﺷﻬﺎﻣﺔ ﺧﺎﻃﺮ ﻭﻟﻴﺲ ﻛﻞ ﺧﺎﻃﺮ ﺑﺮاﻕ ﺇﻟﻰ ﻫﺬﻩ اﻟﺪﺭﺟﺔ (ﺫﻟﻚ ﻓﻀﻞ اﻟﻠﻪ ﻳﺆﺗﻴﻪ ﻣﻦ ﻳﺸﺂء ﻭاﻟﻠﻪ ﺫﻭ اﻟﻔﻀﻞ اﻟﻌﻈﻴﻢ)
ويندر لمن رام فصاحةً في عصرنا ان يسلم من
اﻟﺴﻤﺎﻉ اﻟﺼﺤﻴﺢ ﻭاﻟﻘﻴﺎﺱ اﻟﻤﻄﺮﺩ التي ﻻ ﺗﻌﺘﺮﺽ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺮﻭاﻳﺔ اﻟﺸﺎﺫﺓ..
فكيف ننظم الكلام اذن،
ﺇﺫا ﺃﺭﺩﺕ ﺃﻥ ﺗﺼﻨﻊ ﻛﻼﻣﺎ ﻓﺄﺧﻄﺮ ﻣﻌﺎﻧﻴﻪ ﺑﺒﺎﻟﻚ. ﻭﺗﻨﻖ ﻟﻪ ﻛﺮاﺋﻢ اﻟﻠﻔﻆ ﻭاﺟﻌﻠﻬﺎ ﻋﻠﻰ ﺫﻛﺮ ﻣﻨﻚ ﻟﻴﻘﺮﺏ ﻋﻠﻴﻚ ﺗﻨﺎﻭﻟﻬﺎ ﻭﻻ ﻳﺘﻌﺒﻚ ﺗﻄﻠﺒﻬﺎ. ﻭاﻋﻠﻤﻪ ﻣﺎ ﺩﻣﺖ ﻓﻲ ﺷﺒﺎﺏ ﻧﺸﺎﻃﻚ ﻓﺈﺫا ﻏﺸﻴﻚ اﻟﻔﺘﻮﺭ ﻭﺗﺨﻮﻧﻚ اﻟﻤﻼﻝ ﻓﺄﻣﺴﻚ. ﻓﺈﻥ اﻟﻜﺜﻴﺮ ﻣﻊ اﻟﻤﻼﻝ ﻗﻠﻴﻞ ﻭاﻟﻨﻔﻴﺲ ﻣﻊ اﻟﻀﺠﺮ ﺧﺴﻴﺲ. ﻭاﻟﺨﻮاﻃﺮ ﻛﺎﻟﻴﻨﺎﺑﻴﻊ ﻳﺴﻘﻰ ﻣﻨﻬﺎ ﺷﻲء ﺑﻌﺪ ﺷﻲء ﻓﺘﺠﺪ ﺣﺎﺟﺘﻚ ﻣﻦ اﻟﺮﻱ ﻭﺗﻨﺎﻝ ﺃﺭﺑﻚ ﻣﻦ اﻟﻤﻨﻔﻌﺔ ﻓﺈﺫا ﺃﻛﺜﺮﺕ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻧﻀﺐ ﻣﺎﺅﻫﺎ ﻭﻗﻞ ﻋﻨﻚ ﻭﻋﻨﺎﺅﻫﺎ. ﻭاﻋﻠﻢ ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﺃﺟﺪﻯ ﻋﻠﻴﻚ ﻣﻤﺎ ﻳﻌﻄﻴﻚ ﻳﻮﻣﻚ اﻷﻃﻮﻝ ﺑﺎﻟﻜﺪ ﻭاﻟﻤﻄﺎﻟﺒﺔ ﻭاﻟﻤﺠﺎﻫﺪﺓ ﻭاﻟﺘﻜﻠﻒ ﻭاﻟﻤﻌﺎﻭﺩﺓ. ﻭﺇﻳﺎﻙ ﻭاﻟﺘﻮﻋﺮ ﻓﺈﻥ اﻟﺘﻮﻋﺮ ﻳﺴﻠﻤﻚ ﺇﻟﻰ اﻟﺘﻌﻘﻴﺪ، ﻭاﻟﺘﻌﻘﻴﺪ ﻫﻮ اﻟﺬﻱ ﻳﺴﺘﻬﻠﻚ ﻣﻌﺎﻧﻴﻚ ﻭﻳﺸﻴﻦ ﺃﻟﻔﺎﻇﻚ.
..
ﻭﻣﻦ ﺃﺭاﺩ ﻣﻌﻨﻰ ﻛﺮﻳﻤﺎ؛ ﻓﻠﻴﻠﺘﻤﺲ ﻟﻪ ﻟﻔﻈﺎ ﻛﺮﻳﻤﺎ؛ ﻓﺈﻥ ﻣﻦ ﺣﻖ اﻟﻤﻌﻨﻰ اﻟﺸﺮﻳﻒ اﻟﻠﻔﻆ اﻟﺸﺮﻳﻒ. ﻓﺈﺫا ﻟﻢ ﺗﺠﺪ اﻟﻠﻔﻈﺔ ﻭاﻗﻌﺔ ﻣﻮﻗﻌﻬﺎ ﺻﺎﺋﺮﺓ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺘﻘﺮﻫﺎ ﺣﺎﻟَّﺔ ﻓﻲ ﻣﺮﻛﺰﻫﺎ ﻣﺘﺼﻠﺔ ﺑﺴﻠﻜﻬﺎ ﺑﻞ ﻭﺟﺪﺗﻬﺎ ﻗﻠﻘﺔ ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻌﻬﺎ ﻧﺎﻓﺮﺓ ﻋﻦ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ؛ ﻓﻼ ﺗﻜﺮﻫﻬﺎ اﻏﺘﺼﺎﺏ اﻷﻣﺎﻛﻦ، ﻭاﻟﻨﺰﻭﻝ ﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﺃﻭﻃﺎﻧﻬﺎ؛ ﻓﺈﻧﻚ ﺇﻥ ﻟﻢ ﺗﺘﻌﺎﻁ ﻗﺮﻳﺾ اﻟﺸﻌﺮ اﻟﻤﻨﻈﻮﻡ، ﻭﻟﻢ ﺗﺘﻜﻠﻒ اﺧﺘﻴﺎﺭ اﻟﻜﻼﻡ اﻟﻤﻨﺜﻮﺭ، ﻟﻢ ﻳﻌﺒﻚ ﺑﺬﻟﻚ ﺃﺣﺪ. ﻭﺇﻥ ﺗﻜﻠﻔﺘﻪ ﻭﻟﻢ ﺗﻜﻦ ﺣﺎﺫﻗﺎ ﻣﻄﺒﻮﻋﺎ ﻭﻻ ﻣﺤﻜﻤﺎ ﻟﺸﺄﻧﻚ ﺑﺼﻴﺮا؛ ﻋﺎﺑﻚ ﻣﻦ ﺃﻧﺖ ﺃﻗﻞ ﻋﻴﺒﺎ ﻣﻨﻪ ﻭﺯﺭﻯ ﻋﻠﻴﻚ ﻣﻦ ﻫﻮ ﺩﻭﻧﻚ.
ﻓﺈﻥ ﻟﻢ ﺗﺴﻤﺢ ﻟﻚ اﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺑﻨﻈﻢ اﻟﻜﻼﻡ ﻓﻲ ﺃﻭﻝ ﻭﻫﻠﺔ، ﻭﺗﻌَﺼّﻰ ﻋﻠﻴﻚ ﺑﻌﺪ ﺇﺟﺎﻟﺔ اﻟﻔﻜﺮﺓ، ﻓﻼ ﺗﻌﺠﻞ، ﻭﺩﻋﻪ ﺳﺤﺎﺑﺔ ﻳﻮﻣﻚ، ﻭﻻ ﺗﻀﺠﺮ ﻭﺃﻣﻬﻠﻪ ﺳﻮاﺩ ﻟﻴﻠﺘﻚ، ﻭﻋﺎﻭﺩﻩ ﻋﻨﺪ ﻧﺸﺎﻃﻚ، ﻓﺈﻧﻚ ﻻ ﺗﻌﺪﻡ اﻹﺟﺎﺑﺔ ﻭاﻟﻤﺆاﺗﺎﺓ. ﻓﺈﻥ ﺗﻤﻨﻊ ﻋﻠﻴﻚ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ ﻣﻊ ﺗﺮﻭﻳﺢ اﻟﺨﺎﻃﺮ ﻭﻃﻮﻝ اﻹﻣﻬﺎﻝ؛ ﻓﺘﺤﻮﻝ...
(من كتاب جوهر الأدب..)
ويقول الثعالبي رحمه الله :
خير الكلام ما قل ودل وجل ولم يمل،
ويقول ابن الأعرابي: البلاغة التقرب من البغية ودلالة قليل على كثير.
واخيرا؛ ما دمت قد اخترت لنفسك أن تكون اديبا فإنه يتعين عليك (معرفة رتق الكلام وفتقه)
.....
تحياتي للجميع ..