رمزية الجبل في لجة الشعر ..
..
..
..
أتى على الإنسان حين من الشعر .. كانت الكلمة هي سَنانه ولسانه وجَنَانه ، وكرامته وهيبته ومِنعته،
بها يصول ويجول، وبها يطاول و يحاول في ميدان الرماية والغواية، والوشاية والشكاية والجود والعطاء، والمدح والذم،والفخر والرثاء، والغرام والهيام، والإحجام والإقدام.
يبكي بها ويضحك .. ويحب بها ويكره ... ويمدح بها ويذم ,, ويندم بها ويعتذر ..
ويتذكر بها ويتأمل ...
ينفعل بالزمان والمكان والبيئة .. يخالط أجناسها، ويمتزج بزرعها وضرعها، بسهولها وجبالها، وأرضها وسمائها، ونعومتها وصلادتها، ...
وكان كل ماحوله كأنما يسمعه ويؤانسه ويواسيه، ويجاوبه تجاوبَ أظآرٍ على رُبَعٍ رَدِي...
يعلو الإكام ويهبط ...يسيح في البر ولا يهابه ، ويركب البحر ويمخر عبابه... يراوح بين الزمان والمكان، والبعد والقرب، والسهل والعلم ..
يُضَمّن الكلمةَ المنظومة والمنثورة هاجسَه، ويكسوها بما يتراءى لعينه، وما يعتمل في صدره، وما يستشرف به عِزهُ ومجده،
يفتش حوله، فيري - فيما يرى - تيها في إثره تيه ... يترامى عبر صحراء مقفرة كثيرا ، ومعشوشبة قليلا ..
وكانت الأرض إذ ذاك مَفَاوز مهلكة ، تكبح جماح النزق عن فتنة الرحلة ، وتَغُلّ يد السير عن داعي المبارحة ...
ولعل رمزيتها للهلاك - وقتئذ - كانت أقوى من انبساطها امام العيون مروجا قليلة متناثرة في ايام معدودات؛ لتشي ببعض آمالٍ موجزة مرجوّة تتخلل - بحرج - مسافة العمر ..
ثم تستحيل بعدُ هشيما تذروه الرياح، وتسفّه السوافي...
وكان - بين الفينة والأخرى - يَشْخص قائما منتصبا بين هاتيك المفاوز ذلك الشي الوعر الموحش، ( الجبل )، الذي من اهم انعكاسات معانيه على النفس تلك القوة الصلدة القاهرة، والثبات الموغل في السكون، الذي لا يؤمل منه خير ولايندفع به شر، ولا تسمع فيه همسا ولا ركزا.. بل صمت موحش مخيف.. وعلو شاهق سامق عَسِر
واول ما تنبينا المعرفة عن العَلَم ( الجبل ) .. هي مضامين الشعر، التي جعلت لوهج هذه الكلمة في أبيات نظمهم أثرها البالغ من النفس،
وكان أشهر - وليس أول - هذه الإطلاقات استمدادا من ذلك العلو الذي ترَسّمُوهُ وتوسّموهُ في الجبل، هو قول الخنساء تصف أخاها في مرثية نسائية تليدة .. فتقول عن صخر ..
وإن صخراً لتأتم الهداة به..
كأنه عَلَم في رأسه نار ..
وهذا عندهم تمام السمو والسموق ؛ و غاية ما يبلغ العلو من حظ النظر ...
ومن هذا المعني البعيد، تدحرجت الكلمة عبر القرون الغابرة، حتى وصلت إلينا في موكب من العلو والسمو ، واخذت في النفوس وقعها ،
فأصبحنا نرددها إذا أردنا التعبير عن شهرة الشيء، أو وصف بلوغ صيته؛ فنقول عنه : (أشهر من نار على علم )، والعلم ( الجبل ) دون غيره؛ هو من يفى بتمام نقش المعنى في الصدور، ورسم أفق متعال يسرح في سطوة ارتفاعه الخيال المجنّح،
ولن نبعد كثير إذا عدنا قليلا للوراء؛ لنسمع صرير اقلام بدائية، تدون على محاجر التاريخ، كلمة الحارث بن حلزة؛ ذلك العجوز الداهية الذي صمت الخلق من حوله، إجلالا لوقع كلامه على النفوس، وتدفق المعاني من جَنَانه ولسانه، كأنها نهر لجب ... يُلجم بها الخصم لجما، وتمنح الصديق انفراجة مقبلة، وتملأ جوانحه فخرا وتيها، ولم يزل يرفع من قومه، ويخفض عدوه، في ﺩﻫﺎء ﻭﺇﻳﻤﺎء ﻭﻣﻠﻖ. حتى حُكم له في خصومته..
يقول
وبعينيكَ أوقدتْ هندٌ النا
رَ أخِيرا تُلْوِي بِهَا العَلْيَاءُ
فكان مشهدا رائقا، يحتاج إلى راصد حصيف، يرصد تلك الألسنة التي تعانق النار في العلياء، وهي تتماوج في منظر العين، على ظهر جبل عال بعيد، في ( خزازى )
يقول ( فتنورت نارها من بعيد ..
بخزازى هيهات منك الصلاء )
أي ابصرت ما اوقدت من نار، وقد كانت هند - كما قدمنا - في طرف عال على الجهة الاخرى ربما كان ( جبلا )، بين العقيق فشخصين بعود ... حتى أبصر تلك النار من علٍ ... فانطبعت ألسنتها في عين قلبه ؛ مرتسمة في قبتها العالية .... وقوله ( هيهات منك الصلاء )
تتوقعه النفس من أثر معنى البعد ثم العلو الساحق، لجبل مركوز في جهة النفس ذي خطر وسمو ورفعة
ثم يقول ويقول ويقول .. حتى يرصد شجاعة قومه حين أبان مفتخرا عن صولتهم وسطوتهم في دحض عدوهم ....
(وحملناهم على حزن ثهلان
شلالا ودُمِّيَ الأنساء ... )
لن نطيل في رصد الصورة التي تغري الروح بالانطلاق في اثرها، والتضمخ ببعض عبيرها ... ولكن نسلط ضوء على هذا الجبل - ثهلان - الذي طَمّ وادي الأدب بذكره من بعده .. كما لو كانت له على سائر الجبال مزية ليس كمثلها مزية ...
يقول الفرزدق ...
فادفعْ بكفكَ إنْ أردتَ بناءنا ...
ثهلانَ ذا الهضباتِ هلْ يتحلحلُ ....
...
ينبغي ان يكون للحديث بقية ! ????