في غرفة ذات أثاث بسيط، تطل نافذتها على حيٍ ريفيٍ جميل، كان يجلس على حافة السرير. تناول شيئاً صلباً - لعله منبه ساعة على شكل دُب صغير - ورماه على المرآة المنتصبة على يمينه، أدار بؤبؤ عينيه ونظر لملامح وجهه المتعرج على زجاجها المهشّم. هتف بصوت عالٍ وهو يعتصر بقبضتيه غطاء السرير:
- تباً لك أيها الوغد البدين، سأجعلك تدفع الثمن غاليا..
ً
كلما تمر بمخيلته تلك اللحظات، تتلبد في عقله غيمة سوداء تهطل سهاماً غزيرة تريق ماء كرامته، فيشعر بالدم يصعد أعلى رأسه، هو نفسه لا يدري كيف انعقد في ذلك الوقت لسانه ولم يستطع أن يدافع عن نفسه !! قال مخاطباً نفسه: لن أغفر لذلك المتعجرف فعلته تلك، كيف يطردني من بيته مثلما يطرد كلباً أجرب. لا بد أن أجد طريقة ما، لا بد، لن أستسلم، لن أدع اليأس يسيطر عليّ، خسارة جولتين لا يعني انتهاء المباراة، الملاكم الجيد هو من يعرف كيف يراوغ ويدير معركته بنجاح، حتى يعالج خصمه بالضربة القاضية.
فجأة يقف محدقّاً في فضاء الدار، وكأنما يتراءى لعينيّه نورٌ ينبعث من ثقب صغير يقوده نحو الخروج من كهف أفكاره المظلم.
يتناول هاتفه الجّوال، يضغط على أزراره بأصابع مرتعشة، قال:
- مرحباً ( ميّ ) هل أنتِ مستعدة للخيار الآخر؟
- أهلاً ( أحمد )، هل قررت أخيراً ؟
- نعم، لا يوجد خيار آخر.
- حسناً يا عزيزي، من أجلك أفعل المستحيل.
يرتدي معطفه الأسود، يمتطي سيارته العتيقة، وينطلق كالريح ينهب الشارع نهباً، يتجاوز السيارة تلو الأخرى بحركات متموجة رشيقة حتى بلغ الهدف، غاب لمدة نصف ساعة ثم عاد إلى المنزل وفي يده ورقتان.
في المساء كانت السماء تكتسي شالاً أسود، والرياح تلثم الأشجار فتجعلها تتراقص يمنة ويسرة، ومن خلف إحدى الشجيرات المحاذية للسور الرفيع والقريبة جداً من البوابة الخلفية للڤلة الضخمة، أقبلت بحقيبتها المتوسطة الحجم بعد أن أشار لها بإضاءة من مصابيح سيارته المتوارية، كانت تلبس معطفاً طويلاً وتعتمر قبعة فاخرة من الصوف، يعبُر من تحتها شعرٌ كستنائيٌ بالكاد يلامس كتفيها، تركب السيارة، تتعانق أعينهما في ابتسامٍ لذيذ. قال:
- كل شيء سيكون على ما يرام، سيوصلنا صديقي ( طلال ) للمطار، لقد رتبت معه كل الأمور.
كان التعارف الأول بينه وبين ( ميّ ) قبل سنتين في محله الخاص لتصليح وبرمجة الهواتف النقالة وبيع مستلزماتها، والقريب جداً من مدرستها الثانوية الخاصة، أصبحت زياراتها للمحل تتكرر، أحياناً يقدم لها خدمات مجانية، هو يكبرها في العمر تقريباً بثماني سنواتٍ، لا يقل طلاوة لسانه عن منظره الخارجي، له بشرة بيضاء نقية، عينان خضراوان، شعر بنيٌ غليظ. ذات ظهيرة وعند خروجها من مدرستها لمحت صديقتها المقربة ( رغد ) تبتسم له، احمر وجهها، سحبتها من يدها، عاتبتها، عنّفتها، نشب شجار معها أدى إلى انقطاع العلاقة بينهما.
كان المطار مزدحماً بالأشخاص المغادرين والقادمين، أُناس يشيعون أحبتهم بالقبلات، وآخرون يستقبلونهم بالأحضان والورود، جلسا معاً فوق كرسي بانتظار استكمال باقي الإجراءات الروتينية للسفر، فقد بقي ساعة ونصف تقريباً على موعد إقلاع الطائرة. الهاتف يرن باستمرار، تستله ( ميّ ) من بطن حقيبتها الصغيرة، تنظر في شاشته، تهز رأسها، تُصدر أفأفة من فمها ثم تعيده بسرعة لمكانه مرة أخرى.
- من المتصل ؟
- ....... يا إلهي.. إنه أبي.
- لا بأس يا عزيزتي، لا تخافي، كل الأمور تسير حسب الخطة المرسومة، سنجتاز هذه العقبة بسلام، وعندما تكملين بعد أسبوع سن الثامنة عشر سنعقد القران هناك، ثم نعود ونضع أباكِ والجميع أمام الأمر الواقع.
بعد بضع دقائق، تطلب منه أن تذهب لدورة المياه، وقبل أن تجتاز عتبة الباب يعاود الاتصال من جديد، وفي هذه المرة تجيب على الهاتف قبل أن يغيبها الباب: ألوووو.. تغيب لعدة دقائق ثم تعود.
- لماذا أجبتِ عليه ؟
تبتسم، ثم تهمس له وهي تعدل ياقة معطفه:
- لا تخف، إنها أمي، قلت لها فقط إني بخير.
في طابور عسكري كأنه سربٌ من النمل وقف ( أحمد ) و ( ميّ ) جنباً إلى جنب بانتظار استكمال بعض الإجراءات، يستلم موظف المطار جوازي سفرهما ويدقق فيهما، يستدير لزميله ويهمس له بكلمات مبهمة لا تصل للمسامع، يعود لوضعه الطبيعي وقبل أن يفتح فاه، يتوقف قليلاً ويتجه بنظره إلى الجانب الآخر، ثمة ضوضاء، ويبدو أن رجلي أمن يحققان مع أحدهم.
- هيا بسرعة من فضلك.
- ....... عفواً، لا يمكن أن تمر.
يمتقع وجه ( أحمد ) قبل أن يبادره باستفسار.
- لماذا ؟
- جواز سفرك على وشك الانتهاء، والقانون لا يسمح بعبورك.