الحصاد ..
" قصة واقعية "
الشمس تلّوح وجه الأرض في النهار.. ونسماتٌ عليلةٌ تلعب في أوتار المشاعر في الليل.. الليل وما وسق !
لذا قرروا الانطلاق ليلاً..
تحركت سيارة الـ ( البيك أب ) نوع شوفرليت يقودها أحمد في صحبة صديقيه معاذ وعمر، هادرة في طريقٍ ترابي وهي تغادر المدينة صوب البرّ، للاطمئنان على سير عملية الحصاد، إذ في هذا الوقت من السنة يكون حصاد القمح على أوجه.. وكان عليهم حتى يصلوا إلى وجهتهم أن يمرّوا بالوادي المعروف باسم تلّيه ( مسعود ـ مكرود ) المشهور بأنه وادي مسكونٌ بالجان !
كانت السيارة تقترب شيئاً فشيئاً من الوادي.. وشيئاً فشيئاً كان صوت السيارة يضطرب.. والسرعة تثاقل.. وأخيراً توقفت في عمق الوادي المسكون.. تعطلت !
حينها لم يكن قد خطر في بالٍ أحدهم شيئاً البتة.. مجرد سيارة تعطلت.. وليس شيء يدعو إلى الخوف والفزع وهم ثلاثة رجالٍ عاينوا أحوال الدنيا وخبروا صعابها..
حاولوا إصلاح السيارة، لكن جميع المحاولات باءت بالفشل.. ودبّ اليأس في قلوبهم.. فقرّروا أن يذهب أحمد وعمر سيراً على الأقدام لجلب المساعدة من موقع الحصاد، ويبقى معاذ في السيارة وحده يحرسها..
وافق معاذ دون تردد.. فمن ذا الذي يفوّت على نفسه هذا السحر الحلال.. برّية تتلاعب بها نسائم الليل المنعش، ومن فوق تظلله لوحة سماوية أخّاذة.. تتراصف فيها النجوم كقناديل تشبه عين المعشوقة في ليلةِ وصال، هذا السكون المطبق البعيد عن ضوضاء المدينة الخانقة.. مَنْ؟
انطلق أحمد وعمر.. بينما اعتلى معاذ سطح مقدمة السيارة مستلقياً متأملاً، محاولاً ولوج غفوة منعشة.. كل شيء كان هادئاً..
وبينما كان أحمد وعمر يتوغلان مبتعدين عن مكان السيارة.. كانت الأجواء تزداد هدوءاً وصمتاً..
مضى على مغادرتهما أكثر من نصف ساعة.. ومعاذ في صمته المتأمل غارق..
صمت آخر.. أحسّ بحركةٍ مريبةٍ خفيفةٍ.. تجاهلها.. فهو يعلم أنه في برّية يمكن له أن يصادف فيها أنواع من الحيوانات والمخلوقات التي لا يعلم سرّها إلا خالقاها..
مخلوقات !
ابتلع ريقه.. اضطرب قليلاً.. شعر بالحركة مرةً أخرى أقوى من ذي قبل، اعتمل في نفسه الوساوس..
أصوات أقدام تقترب.. تتحول الوساوس إلى مخاوف حقيقية.. تقترب.. فزع.. أصواتٌ تهمس : معاذ.. معاذ..
هلع.. جفّ ريقه في حلقه، حاول أن يستعيد رباطة جأشه.. يتأكد.. مجردُ وساوس.. تخيلات.. أوهام..
أصوات أقدام تقترب أكثر.. معاذ.. معاذ..
إرتبك.. نزل من فوق السيارة إلى داخلها، أقفل الباب.. الأصوات باتت معه.. أيادي تضرب السيارة.. يحركونها.. معاذ.. معاذ..
ينكمش.. يصارع مخاوفه.. ينزف عرقاً بارداً.. يكاد القلب يفلت من مكانه.. الأنفاس الحارة تتصاعد.. الضرب على السيارة تزداد.. معاذ.. معاذ.. ولا شيء يُرى !
أمسك قبضة الباب ليفلت من الكابوس.. الباب لا يفتح.. يسحب بقوة.. لا يفتح.. فتح الزجاج، حشر نفسه.. عَلق.. ثم أفلت..
يمّمَ وجهه تجاه موقع الحصاد.. جيشٌ من الأقدام تطارده، كأنهم في غزو.. يصيحون باسمه.. أرسل قدماه مع الريح.. قرأ كل آية يحفظها من القرآن الكريم.. كل دعاء.. يصيح الله أكبر الله أكبر ! دون أن يختفي شيء من الكابوس المرعب !
توقف.. جفل في مكانه.. جمد..
شيخ قزم يعترض طريقة.. لحيةٌ بيضاء مرسلة، عينان مدوّرتان كبيرتان كعملتين معدنيتين تلمعان، يحمل عصا.. جنّ.. شيطان !
توجه إلى ناحية أخرى.. اعترضه.. وبعد محاولات أفلت أخيراً من منطقة الكابوس هارباً لا يعقب..
كان قد مضى على مغادرة أحمد وعمر ما يقارب الساعة أو أكثر، ولكن معاذاً وصل إلى موقع الحصاد قبلهم !
لمح سيارة الحصاد فتوجّه إليها لائذاً.. تسلق السيارة من خلفها على حين غرّة.. مسك كتف السائق : أنت..
صعق السائق وخرّ مغشياً عليه ! توقفت السيارة..
توجّه نحو الخيمة.. سألوه عن سبب توقف السيارة فأجابهم أنها قد تعطلت !
ثم وقع فريسة مرضٍ عجيب..
السماء مشوّهة.. أصوات تتلاعب في عقله.. هلوسات وكوابيس..
يرتفع.. يرتفع.. يصيح دون أن يجيبه أحد.. يهوي على السرير.. ينتبه مرافقه على صوت سقوطه..
ـ آه.. كنت أناديك..
ـ لم أسمعك !
ـ بأعلى صوتي.. بأعلى صوتي.. نائمٌ أنت ؟
ـ لم أسمع ! ماذا حدث ؟
ـ رفعوني ثم رموني.. وأنت نائم.. كنت أناديك !
ـ لم أسمع !
.................................................. .................
نص أدبي يدخل ضمن ما هو عجائبي وغرائبي ، لا يبتعد عن الواقع في فقرته الأولى ، ويقترب من ما خيالي/ سحري / عجائبي في بقية فقرات النص ، وبذلك يكون النص هو نتاج تفاعل بين الواقع والمتخيل .
مهد السارد في بداية النص بوصف المكان والظروف المحيطة بالمرئي وغير المرئي ، بالحقيقة والمعتقد في الثقافة الشعبية ، بذكاء عمل السارد على زف معلومة للقارئ كتوطئة يستأنس بها ،وذلك من أجل تحفيزه وإغرائه على متابعة الأحداث المستجدة عن ما يشاع عن ( وادي الجن ) . إنه نوع من الاستنفار للنفس والذات والفكر ، بل للتجربة والثقافة الفردية والجماعة .
فحدث توقف السيارة بسبب عطب ما هو إلا حادث مألوف وعاد ، لكنه مع شخصية معاذ خرج من ما هو ممكن إلى غير ممكن ،حيث تبدلت طبيعة الحدث ،فلم تعد هناك علاقة منطقية قائمة بين عطب السيارة وسماع معاذ لأصوات غريبة وأشباح منفرة ومخيفة ، إنها تشكيلات جديدة طرأت على نفسية معاذ ، فخرجت من حالتها الطبيعية ومن النمط الاعتيادي لها ، فاقتربت من الشخصية المتفردة بل من الشخصية العجائبية والتي أصبحت لها القدرة على توليد أفعال خارقة للعادة . / سماع الصوت / أصوات أقدام تقترب /حركة مريبة خفيفة / أصوات تهمس ..معاذ ..معاذ../ أيادي تضرب السيارة/ يحركونها / جيشٌ من الأقدام تطارده، كأنهم في غزو/شيخ قزم يعترض طريقة/ توقف آلة الحصاد / سقوط السائق مغشيا عليه / المرض العجيب / عدم السماع والتواصل ..
فرغم سحر الطبيعة فإن الفراغ والخلاء لهما تأثير على حالته النفسية التي انتقلت من الاستقرار إلى الاضطراب ،فتغيرت وتبدلت وأصبحت لا تقوى على أن تميز بين الواقع والمتخيل ، بين المرئي واللامرئي . لأنه غرق في أوهام وخيالات لا يراها إلا هو ، حيث فقد العلاقة المنطقية القائمة بين الأشياء المرئية أو المتخيلة ودلالتها لتنصهر وفق تشكيلات جديدة ." ومن هنا يكون القلق والهذيان وأحلام اليقظة للقصة العجائبية بمثابة خروج من النمط الاعتيادي مما يزيد من قدرة انفتاحها وتفاعلها مع الأحداث المرئية على شكل توهم قريب من نفسية الشخصية " *
بمهارة فنية أدبية عمل السارد على تحويل القصة المحكية عن شخص آخر إلى فن أدبي يتميز بالعجائبية والغرائبية ، فشكل من شخصية معاذ شخصية أسطورية متفردة ومتميزة بأحوالها النفسية المضطربة والمهزوزة التي تعاني من الربط بين الواقع الممكن والتخيل غير الممكن ، والواقع إنها رحلة استكشاف للنفس البشرية وما يعتريها من اضطراب في الفكر والذهن والخواطر ، والرؤية غير السليمة للأحداث الماثلة أمامه. فاختلط عليه الزمن الماضي بالحاضر، فلم يعد للزمن ذلك التتابع الخطي ، فأزمنة تلك الأحداث التي وقعت لشخصية معاذ قد تداخلت ، فلم يعد لكل حدث زمن معين ، فالزمن يتكرر بنفس الوتيرة والرتابة، فالحدث يتشكل كلمحة ،كبريق ، كومضة لا يعطينا فرصة لتقييمه وفهمه بل وتفسيره ، لأنه مشبع بالخوف والرعب ، وتأثير ثقل الوهم وقوة التوجس والحذر من واقع جديد قابل للتشكيك وغير قابل للفهم والتفسير .
قد يتبادر للذهن السؤال التالي : هل هذه الأحداث واقعية أم متخيلة ؟ فقد وردت أقاصيص غريبة وعجيبة لا يصدقها العقل تحكى على لسان أصحابها بروايات مختلفة ، غالبا ما تنهل من القصص العجائبية التي تستحضر الحيوانات والأفاعي والذئاب والأشباح ، والجن وغيرها . وهذا النوع من القصص العجائبية ليست وليدة اليوم ، وإنما هي قديمة وموروثة عن الثقافة الشعبية ، ما شدني أكثر أثناء قراءة هذا النص هو قدرة الكاتب على تحويل النص السماعي / الشفهي إلى نص عجائبي وغرائبي .. وقدرته على تسخير لغة أدبية مناسبة لعالم لا يخضع للواقع ، عالم عجائبي متحرر ، وبذلك كانت اللغة هي الأخرى محررة من قيود التنميق والترصيف ، فجودتها تكمن في بساطة كلماتها وأفعالها المقتلعة من دلالتها الأصلية ، مع المحافظة على الحركة والحيوية والإنجاز .أفعال مرتبطة بالحالة النفسية لشخصية معاذ منها :
ابتلع ريقه /اضطرب/ ارتبك / نزل من فوق السيارة / أقفل الباب / ينكمش / يصارع مخاوفه /ينزف عرقا / أمسك قبضة الباب / يسحب بقوة /...
وأفعال مرتبطة بما هو عجائبي منها : أقدام تقترب / أصوات / أيادي تضرب / يحركونها / شيخ يعترضه / يحمل عصا / ...
تلك الأفعال ولدت مشاهد قصيرة ، ويمكن اعتبار كل مشهد صورة تستغرق زمنا يكفي التقاطها بآلة التصوير فقط .. مما أعطى للنص العجائبي قوته في السرعة والإنجاز ، فخرجت القصة من وجودها الواقعي المبني على المنطق والعقل إلى وجود أسطوري قابل لاستحضار مجموعة من الأوهام والتخوفات والأحلام الفضفاضة والغامضة التي تتداخل مع الهواجس والتصورات وأحلام اليقظة ، إنه عالم تصنعه النفس البشرية في غياب الإرادة والمنطق، فشخصية معاذ انتقلت من مكان ضيق إلى مكان مفتوح يتميز بالغموض والالتباس في رؤية الأشياء ، مكان مملوء بالإيحاءات النفسية .. فالبناء الفني لشخصية البطل معاذ هو احتفاء بما هو نفسي داخلي ، واهتمام كذلك في تواز بما هو خارجي عنها . إن الشخصية العجائبية تحاول هدم الواقع وتكسير الصورة الثابتة للشخصية مع إعادة تشكيلها وفق رؤية جديدة تخرق الواقع المعيش ..
نص أدبي يحكي أحداثا غريبة ، سحرية ، عجيبة ، مألوفة وغير مألوفة ، يستدعي الإدهاش والحيرة ، يدخل ضمن الأدب الاستيهامي الغرائبي /السحري.. الذي يدفع القارئ أن يشكك في الحدث لكنه لا يستطيع أن يفسره ..
جميل ما كتبت أخي المبدع المتألق بهجت .
تقديري واحترامي ..