- في قريتنا لصّ ..!
..هكذا أسرّ "عمران" ممرضُ العيادة الوحيدةِ في القرية حديثه إلى زوجته ، طالباً منها أن تبقي الخبر طيّ الكتمان ، فحسب اولادهما رهبة الامتحاناتِ وعصا ناظـر المدرسة لهم بالمرصاد ..!
القرية التي تحتضن بين جنباتها ألف نسمة ، ينبجس من بين طياتها عينا ماء ، إحداهما لمختار القرية ،تربض على فوّهتها مضخةٌ حديثة تضخّ ماءً للشرب ، يباعُ لمن أراده صافياً .. والعين الأخرى لوثها حصان الناطور يستقي من مائها الرّعاة ، ومعزة الحاجة "أم حلمي ".. وكثيرٌ من الناس ..
لم تكن عينا الحاجة "أمّ حلمي" أحسنَ حالاً من عيني ماء القرية .. إحداهما تسحّ دمعاً صافيا وإن ْخالطه ملحُ الألم .. فزوجها غيّبه الموت .. وولدها ابتلعته الغربة.. ، والعينُ الأخرى أصابها الداءُ وبالكاد ترى البصيصَ من النور .. الجيل الكبير من أهل القرية يعرف الحاجة أم حلمي جيداً أكثر من اليافعين .. لطالما مرّت بأصابعها على رقاب أكثرهم.. عند نزول اللوزتين كان العلاج عندها بضغطاتٍ من أصابعها المخضبة بزيت الزيتون مشفوعةً بالبسملة والذكر .. لقد كان علاجها أنجع ، لكنّ الجيل الجديد تحولَ إلى أقراص المضادات الحيوية.. ربما صار ابتلاعُ الأقراص أخفَّ وطئاً من ضغطات أصابع الحاجةِ على رقابهم ..
عقودُها السبعة تركتْ على وجهها تجاعيدَ تقصّ حكايا سنينَ مجبولة ٍ بالمرارة والفاقة.. ، يعملُ ابنها الوحيد خارج البلادِ منذ عشرة سنين ، وتعيش معها ابنتها يتقاسمان البُؤسَ والبيتَ المكوّن من حجرةٍ وفناء .. وكمْ اشتكت من عقوق ابنها المهاجـر.. كان " حِلمي" يمنيها بعودةٍ ميمونة تختم سفراً لن يطول.. يستقرّ بعدها إلى جوارها في بيتٍ أوسع .. واليوم لا يصلها منه سوى رسائل مكتوبة بحروفٍ ركيكةٍ تحكي فشلَه، وخيبةَ أملها فيه .. لم يعدْ ينصبُّ اهتمامَها سوى على ابنتها..ومعزتها الشهباء.. وسربِ الدجاج ..
القرية الصغيرة يزورها تيارُ الكهرباء على استحياءٍ لسويعاتٍ تشرذمت ما بين النهار و الليل .. أعمدة الإنارة التي انتصبت على جانبٍ واحد من الطريق الرئيسي االمتعرج تبدو وكأنها تطأطئ خجلاً وسط الظلام ..لكنها تزهو إذا صافحها النور وتغامز بضوئها أشجار السرو الباسقة والمنتشرة بعشوائية، حينها يتراكض الصبيان داخلَ بقعِ ضوءٍ ارتسمتْ على الإسفلت خلفَ كرةٍ من جواربَ قديمةٍ ملتفـّة بعضُها على بعض .. فإذا شدّ النور رحاله انفضّ مرحُ الصغار عنْ لعبةٍ لم تكتمل ، وتراخت ْ ظلمةُ الليل حتى جثمت فوقَ سواد الإسفلت.. وانزوى الكلّ في بيته متحلقين حول مدافئ الحطب يتبادلون الحكايا .. أو متوارين تحت الأغطية انتظاراً لفجرٍ جديد ..
ملاصَقةً لبيت المختار .. ينتصب عمودُ إنارة متفرّداً.. بدلاً من أن ينيرَ الطريق دارت رقبة مصباحهِ مئةً وثمانينَ درجةً لينير بيته وحظيرة الماشية .. بينما تناثرتْ بيوتُ القرية على جوانب طرقٍ متعرجة ولا يصلها إلا بصيصُ نور .. بيت الحاجة أم حلمي لم يتعرف بعدُ على عداد الكهرباء ولا يزال مصباحُ الزيت مقادًا فيه حتى الآن . . ربما ساعدتْ ظلمة الليل اللصّ اللعين على التسللِ منْ أطراف القرية دون رقيب ..
ابتدأتْ قصةُ لصّ القرية عندما اشتكـت أمّ حلمي فقدانَ زوجينِ من دجاجاتها ،لأوّلِ وهلةٍ لم يصدق أحدٌ ما ادّعته .. بعضهم قال أنها أخطأت في إحصائها سيـّما وانها تمتلكُ الكثيرَ من الدجاج وأنّ امرأةً عوراءَ مثلَها لا يـُؤخذ منها عدْل.. "عمران" مازحها حينذاك بأنها لم تحسن تربية فراخها وأن دجاجاتها فرّت بعدما وقعتْ في هوى ديكٍ غريب!
ذلك اللص اللعين أصبح الشغل الشاغل للقرويين هنا ، ينسجون له حكايات لا يصدقها الا العجائز تارة أنه مدسوسٌ من قرية أخرى بسبب نزاع بين المخاتير ، وأنه مسلّح .. وأخرى أنه يسلك أخاديد خطوط المياه .. تلك الأخاديد التي حفرها مقاولٌ منذ سنين خلت، توقف العمل بينما بقيت الحفر فاغرة فاها للميت من الدوابّ ، والمتسللين، ولسيل المياه شتاءً..
..واليوم أصبح لصُّ القرية أمراً مسلّماً بـه، فقد سُرق الطقم الذهبي الذي احتفظتْ به لأ كثر من ثلاثين سنة زوجةُ ناظـر المدرسة .. واليوم يحترقُ قلبُ أم حلمي بعدَ أنْ سُرقت معزتها الشهباء ...!
- ما الذي بقي إذنْ يا ابنتي ..ألأنني امرأةٌ ضعيفة ..
..تردّد أم حلمي وهي تقلّب ناظريها في السماء بينما افترش خدّها المخضب بالدمع كفّها المتجعدة..
- ... سيدركون أن المعزة " معشّرة " – حامل - .... الله لا يبارك فيهم..!
أحدهم أرسلَ إليها تحذيراً مع الناطور بأن تكفّ عن اتهاماتها .. وإلا سيأخذون عينها الأخرى بعد قطعِ لسانها !
ليلاً .. الكلّ هنا مترقب ،لا شيء يقطع حبل الصمت إلا نقيق دجاجاتٍ تتقافز.. ونباح كلابٍ ضالة .. وحفيف أوراق شجر عبثت بها رياحُ الخريف ..البعض من أهالي القرية لا يخشون اللصّ .. هم يعللون ذلك بأنْ ليس لديهم ثمّـة شيءٍ يستحق السرقة..لكنهمْ يترقبون حكاية َسطوٍ جديدة تـُـذْكي مدافيءَ الحطب وتذكي حكاياتهم لوقتٍ أطول قبلَ الهجوعِ للنوم ..
بعد أربعة أسابيع أفزعَ سكانَ القرية صوتُ زخـّـةُ رصاصٍ شقّـت رتابة الليل.. تلتها زخـّةٌ أخرى هي زغرودةٌ مجلجلة .. كانت الزغرودة كفيلةً بأن يعرف أهل القرية مصدرَ إطلاق النار.. إنه بيت المختار فزغرودة زوجته مميزة وهي أشبه ما تكون بصوتِ مثقاب آلـيٍّ متعَب..!
في الصباح كانَ سكانُ القرية يتناقلون أنّ اللصَّ وقعَ أخيرا في قبضة المختار و أنّ ابناءَه قد قبضوا عليه وأوسعوه ضرباً بعدما تسوّر جدارَ بيتهم.. امتدّ خيطُ الحكايا إلى أبعدَ من ذلك ، فقد أذعنَ اللص وسلّم كاملَ المسروقاتِ بعدما أقرّ بجرائمه قبلَ أن يسلّمَ للحكومة ...
- "ربي يحفظ المختار ..
حامي العرض وراعي الدار !" ..
هكذا هتف الناطور مِنْ على صهوة حصانه العجوز.. جائباً طرقاتِ القرية ..يقلّبُ عينيه في من يؤمّـن على دعائه..أمّـا الذين يكتفون بالصمت فهم مثيرون للبلبلة !
" عمران" ومعه جمعٌ من سكان القرية توجّهوا إلى بيت المختار لتهنئته تقديراً باسم الأهالي بالإنجـاز الكبير - الإيقاع باللص.
يسترخي المختار على مقعده الجلديّ العريض وأولادُه من خلفه .. حمرةٌ تعلو وجنتيه ابتهاجاً تحت جفنينِ أثقلهما الخمولُ بينما يلتقمُ فوهـةَ النارجيلة ..اكتفى بهزّ رأسه بعدما استمع لحديثِ الجمعِ من أهل القرية .. لوّح بطرف عصاه كأنما يصوّب على شيءٍ ما ..ويرسم دوائر في الهواء..
أطلق ضحكةً خفيفةً افترّتْ لها ثغور من حوله دون أن يعرفوا لها سبباً ..
- لم يكن هناك لصٌّ هذه المرة ..كنا نطلق النارَ فـرحةً بمعزتنا الشهباء .. هلْ تعلمون ..؟ هههه..لقد وضعت ثلاثة جِداء دفعـةً واحدة!!