كلما اخترتكٓ.... أفقدكٓ
قانعة هي بما يأتيها من فضاء صغير على سعته، جزء من السماء تجود به الطاقة في أعلى جدار أكلته الرطوبة و عشعشت في تضاعيفه مخلوقات صغيرة، لا تعرف من الدنيا إلا ما يتسلل إليها من أحاديثِ السّجّان مع سجينات أخريات، لا يصلها منها إلا نبرات أصواتٍ، تتناهى إليها من وراء الباب الحديدي فتأتيها مترعة بأخلاط من روائح الرطوبة و نسائمٍ نسجها خيالها بألوان اللوحات المتعاقبة أمامها عبر الطاقة، فهذه نبرة بلون حمرة الأصيل و الأخرى براقة كسبائك أشعة الشمس و أحيانا تصلها نبرة فضية برقة هلال بداية الشهر، أما التي تملأها جزعا فنبرة ليلة عاصفة تجعلها ترتكن إلى أشدّ الزوايا قتامة.
كانت تنظر الى جزء من السماء ينذر بليلة سيختفي فيها القمر وراء غيوم كثيفة، فسمعت رنين المفاتيح الحديدية و فتح باب زنزانتها، استغربت، تعودت ان يرموا لها الطعام من فجوة في أسفل الباب، دخل سجّان لم تره قبلا، لم يكن ينظر إليها، تفحصته بنظرة عميقة بددت للحظة قتامة المكان و حركت باطنها بقوة مذهلة، خرج كما دخل في سكون، و أعقب اختفاؤه صمت رهيب، لأول مرة تسمع صمت المكان، لم تستطع يومها ان تقرب طعامها، و لا في اليوم التالي و لا الذي يليه، كان السّجّان يدخل صامتا و يخرج و كأنه لا يبالي أو لا يستوعب انها لم تلمس طعامها البتة، حركته مدروسة كأنه إنسان آلي.
تسربت وشوشة عبر الدهاليز بوجود حالة عصيان، و أنذر الأمر بوجوب التدخل السريع،
دخل ذات الصباح بحركاته المعتادة، وقف على كثب منها، و حين أطال الوقوف لم تجد بداً من ان تطالعه بوجه شاحب، غائر العينين، وهي تهم بتحويل نظرها عنه، استوقفها بريق تألقت له عيناه و أضفى على تقاسيم وجهه الحادة جمالا اختصت به الانسانية في ذروتها.
ترددت لبرهة ثم ابتسمت له ابتسامة شاحبة، بادلها النظر و هو يغوص في أعماق روحها، و بقلبٍ كلًّه هيام خُيِّلٓ إليها أنها لمحت شبه ابتسامة، وقبل أن يدركها اليقين، كان خياله العملاق يتوارى خلف الباب الحديدي.
لم تترك بعد تلك اللحظات و لو فتافيت في صحنها، كان يجلس بمحاذاتها الى أن تُكمل طعامها، و كانت تأمل أن تستزيد لكي لا يبرح مكانه، أضحت بسمته تنير كل الأركان المعتمة و كلماته تترك صداها نغما يشدو مع كلّ إطلالة بهيّة له، اخترق مراتٍ القوانين و هو يفُكُّ السلسلة من قدمها لترتع مبتهجة في فضائها الضيق و تشرئب بطولها لترى من الطاقة ما خفي عنها سنيناً عدة، اتّسع بسعادتها المكانُ، و تخطّت جدرانه مدى بصرها، و امتلأ جوُّه بنسائم دافئةٍ و رياحين و أزهار جذبت أسراب طيور مغرّدة من كلّ حدب و صوب.....
دخل كعادته يكسو دنياها ندى، فتح الباب الحديدي على مصراعيه و اقترب منها في هدوء، انحنى الى قدمها و فكّ القيد، ابتهجت و زغردت الفرحة في حناياها و تلألأت النجوم في عينيها الواسعتين و بادرته بنبرة رقيقة مرتعشة:
- أتأخذني معك إلى عمق الوجود؟
ابتسم لها و نظر الى الباب المفتوح:
- اذهبي فأنت حرّة....
فجأة ضاقت بها الدنيا بما رحُبت في خيالها و تحركت الجدران الرطبة لتعصر فؤادٓها، و مدّت قدمها اليه في جزع:
- رجاءا أعد قيدي
- هذه فرصتك ماذا دهاك
قلّبت وجهها في المكان و قد استعاد ظُلمته، و لفح بشرتها هواء ساخن قادم من فوهة الباب:
- ضلّلتني؟
- حرّرتكِ !!
- لكنني أحببتك بصدق
- و أنا أشفقت عليك من الدّمار صادقا.
همّت بالكلام فصدّتها صراحة عينيه الجامدة المبتسمة، همّت بالصراخ فخذلتها حنجرتها الملتهبة، استدارت ثانية إليه فشجّعها بتقاسيم وجهه الحادة على المضيِ قُدُما و فُوّهة الباب تتسع لتبتلعها....تنهّدت و الغصّة تملأ جوفها و رسمت وجها بلا ملامح، و مضت في طريقٍ يٓشُقُّ الضباب ... .
خديجة
٢٠١٥