اِحتـــراق (قصة قصيرة)
كفه المجعد لم يفارق خده ، ومنسأته الغليظة لم تفارق كفـه الآخر ، وبصره الضعيف تزاحمه
كثرة الصبيان والشبان، وهم يتعاطون، ويتبايعون أوراق البانجو - جهرا - عند مقتبل الطريق
الزراعي . وغيرهم يمارسون الطيش والإفساد في حقول الفلاحين ...
يتذكر طفولته التي خرجت عن حجمها اضطرارا إلى حجم الكبــار، كي يساعد والده في مؤنة
العيش. يتذكر شبابه الكادح... يتذكر زمانه الأصيل ... فيزداد ألما على زماننـــا المهدور في
مواطن الشياطين. ! يسرد على نفسه شريط الذكريات ... فينكمش أكثرعلى كرسيه الجريدي
المتهالك، المصلوب دوما جوار داره اللبنة ، المسقوفة بسوق النخيل . يزداد تعجبـا ! وهو
يضع الزمنين الماضي والحاضر على كفتي الميزان .
ماذا هو بفاعل؟ بعدما نفذت كل حيله تجـــاه ابنه الشاب الأوحد، الذي امتطى صهوة شيطـان
مارد، وانطلق به كفرس - شم الريح - تجاه اللهو المتمرد. ماذا هو بفاعل تجاه خزي مشاكل
ولده مع أهالي البلدة ؟ وتجـاه سداد العِوَض المتراكم ... ؟
تملصت دمعة تمسكت طويلا على جفنيه ، كانت حريصة ألا تخدش هيبته . ما أصعب دموع
الرجال الشوامخ حينما تزجرهــا الصعاب ، لترمي بأصحابها في مقابض الوجع ، وما أصعب
الوجع حينما يسببه أعز الناس. وما قيمة أعز الناس؟ وهم يحرقون في أنفسهم زينة البنون ،
الذي منحها الله للوالدين متاعا في للحياة الدنيا .
شد زفرة قويـة من قــاع صدره ، وكأنهـا خنجر اِنسل من بين دم ولحـم ، أو كانهـــــا شرارة
تطايرت من قعر جهنم . وعلى الفور استسلمت عينـاه للدموع ، لتنهال بلا تحسب على خديه
المترهلين ، وتنهـــال حنجرته بنهنهات ما مسهـا من ذي قبل مثل هذا اللغوب ؛ إلا صيـــاح
القوة والعزة. آهٍ .. لو كان لتلك الدموع مسافة بضع أشبار لحولت فرات الترعـــة التي تحت
قدميه إلى ملح أُجاج .
رفع رأسه المطروحة على كفه؛ ثم وقف متساندا، متثاقلا، ومد بصره صوب الحقل، ليترقب
عن بعيد زوجـه الموحولة في ري الزرع ، ويترقب من الناحيـة الأخرى ولده السواح ؛ عله
يعود اليوم من اللهو، كي يعتق أمه التي تمالكت - اضطرارا - مهام وجهد الرجال .
ما بقيَ من طرف االنهارغير بقية متوشحة بوشاح داكن، لم يشتد سواده . فنظر إلى الأفق،
وكأنما يرجو من الشفق أن يتمهل قليلا؛ لطفـا بزوجه، التي تغلفها الظلمة عن ناظريه شيئا
فشيئا . فمـا كان من الشمس إلا بقية - مدغمة حمرتها بالسواد - كانت في طريقهـــا لإكمال
اختراق جـدار العتمة ؛ وكأنما هي نطفة تخترق بويضة، ليتوالد يوما جديدا ، تستيقظ فيه
القرية على أجمل جريمة قتل .
عبدالله عيسى
14 / 11 / 2015