تنويه : كتبت هذا المقال قبل الربيع العربي يوم كان هناك ما يسمى دول الاعتدال التي أطلقت في ذلك الوقت شعار(السلام خيار استراتيجي) في عز المقاومة العربية في العراق وجنوب لبنان وغزة .
*****
أنا من الناس الذين يأكلون (الخيار) في موسمه، خصوصا إذا كان هذا الخيار (بعلا)، وليس الخيار المستنسخ في البيوت البلاستيكية الذي لا طعم له ولا رائحة، رغم لونه الأخضر الملتبس.
هذا الخيار "الطبيعي" ظهر له منافس شديد المراس، استطاع خبراء (البيو-سياسة) تهجينه واستزراعه، وطرحوه في الأسواق، وككل جديد، لاقى هذا الخيار معارضة شديدة من فئات شعبية شديدة الولاء (للطبيعة)، بينما لاقى استحسانا لدى فئات من اللاهثين وراء الحداثة والتجدد، تحت مسميات التحضر والتقدم والرفاه في عصر العولمة.
ولكن يبدو أن (الطبيعة) تراجعت لصالح الخيار الجديد الذي (هيمن) على الأنواع الأخرى من الخيار، حتى (الفقوس) انضوى تحت لوائه معلنا خضوعه للحداثة والليبرالية الجديدة.
وهكذا أصبح (الخيار الجديد) سيد القثاء بلا منازع، غير أن ثلة من الناس -وأنا منهم- لم تستسغ هذا الخيار المفروض على موائدنا في السلطة والفتوش، وبقية الأكلات والمقبلات، وتمردت ثلة أخرى على ذاتها، وأصبحت (تقضم) الخيار قضما وبقشره دون الحاجة إلى استعمال (اسلحة الدمار الشامل) التي تتكدس في مطابخنا، في الوقت الذي اخترع فيه آخرون أطباقا شهية من الخيارالجديد، فكنت ترى حلقات دائرية بيضاء، تحيط بها دوائر خضراء رقيقة، وقد رُصت بأشكال هندسية جذابة على أطباق بيضاء من الصيني الفاخر.
واستمر الحال، وازداد إنتاج الخيارالجديد، حتى فاض وبلغ (زبى) الأسواق المجاورة، وتبعا لقانون العرض والطلب، كان لا بد من أن يرخص سعره ويباع بثمن بخس، الأمر الذي أثار رعب (المزارعين) و(المستهلكين) على حد سواء.. ذلك ان (المزارع) لم يعد يحصل على رأس ماله، في حين كان الناس (المستهلكون) يتقيأون خيارا، و(يتغوطون) خيارا.. و..
وكان لا بد أن يحدث شيء يخرج الناس من هذا المأزق (الغذائي).. وفعلا حدث هذا الشيء فجأة..إذ صحا الناس في اليوم التالي ليجدوا أن (خيارهم) قد اختفى ولم يعد له أثر، واحتار الناس وراحوا يبحثون عن الـ(خيار البديل).. بحثوا طويلا، واجتهدوا في البحث، فلم يجدوا أمامهم سوى (الفقوس والكوسا)، أما الفقوس، فلا يمكن أن يحل محل الخيار، ولا يمكنه المنافسة، بينما الكوسا (وما أدراك ما الكوسا ؟!) فهي رغم انتشارها وتداولها جنبا إلى جنب مع (الخيار إياه) إلا أنها تبقى في قائمة الخضروات المطبوخة، شأنها شأن (القرع) الذي لا يصلح إلا للمقبلات،عكس الخيار.
وأسقط في أيدي جهابذة علماء (البيو-سياسة) ولم يستطيعوا تقديم البديل، واستبد بهم اليأس إلى أن جاءهم خبر(الخيار البديل) الذي استزرعه بسطاء المزارعين في العراق وجنوب لبنان وغزة فهل سيأتي الدور على هذا الخيار ليطرح في الأسواق (المركزية)؟
*****
نما إلى علمنا بعد مرور السنوات العجاف، ونحن نرى العام 2015 يلملم متاعه استعدادا للرحيل، أن الخير قادم بإذن الله، وأن العيون - كل العيون والآذان - تتجه إلى خيار المقاومة المنتج في غزة -حصرا- وبلغ من حماس البعض لهذا الخيار، وتجاوبا مع حسه القومي العروبي الأصيل، أن بدأ يحفر خنادق عريضة على طول حدود القطاع، وراح يضخ فيها ماء البحر المالح حرصا على نجاح الموسم، ودعما للخيار الغزاوي المحروم من الماء العذب، وأظن - والله أعلم- أن خيار غزة سيكون مختلفا عن كل ما ألفناه من أنواع الخيار، لأنه سيكون خيارا مالحاً بطعم النعناع،- لإزالة روائح الفم الكريهة - ويصلح للتناول على موائد الكادحين.. ولكنه يتحول بقدرة قادر إلى ما يشبه الملح الإنجليزي في البطون التي لا تؤمن بمعجزته، وتضطر لتناوله تحت ضغط الظروف.