معظم مشكلاتنا النفسية - إن لم تكن كلها _ تتلخص في عدم قدرتنا على الانقلاب الذاتي على أنفسنا ، لنقف ضد رغباتنا غير المنطقية ،ونطالب بإسقاطها والتخلص منها .
الانقلاب على الذات ليس بالأمر السهل ؛ فهو يتطلب شجاعة لا تتوفر إلا في القليل من الناس ؛لأن معظم الناس يفضلون تقبل ذواتهم على ما هي عليه من خلل واضطراب وأخطاء ، ويحاولون التعايش معها، و مجاملتها على حساب التحيز للعقل المجرد .
التحيز للعقل المجرد هو المطلوب؛ لأن العقل المجرد هو الذي يتخذ القرار الصحيح لصالح الحق .فإذا انتصر الحق ساد العدل، الذي يعني تحقيق التوازن النفسي ،بإعطاء الأولوية لما يستحق الأولوية من الدوافع النفسية، وذلك على حساب الدوافع العاطفية الأخرى، كالحب والجنس والأمومة وغيرها ، والتي تلبي احتياجات الغرائز .
لكن ورطة التحيز للعقل المجرد مكروهة من الإنسان نفسه تجاه ذاته لسببين :
أولهما :أن الوصول إليه متعب يتطلب الكثير من الضغط النفسي في بادئ الأمر. فهو يتطلب قهر النفس لإخضاعها للحق ، بإجبارها عن التخلي عن مخططاتها التي رسمتها سابقاً لتحقيق الإشباع العاطفي .
والثاني : العقل المجرد يعمل على إضعاف العواطف بتحليلها، لكشف الأخطاء التي تجبر الإنسان على ارتكابها، في سبيل تحقيق الإشباع العاطفي .وهذا يحتاج إلى الكثير من الجهد النفسي والتركيز، لقهر العاطفة وإيقافها عند حدها ،أو اجبارها على التراجع ،مع العلم أن الكثير من الناس لا يفضلون التعب، بل يتلذذون بالكسل والراحة ،فيتجنبون مشقة بذل الجهد لقهر العاطفة ،خوفاً من فقدان لذة الراحة،ولذة معطيات العاطفة .
لذا فنحن في معظم اوقاتنا متحيزون للعاطفة، التي تمثل شعورنا بحاجاتنا النفسية ومحاولة إشباعها . ولو حللنا معظم الجزئيات في سلوكياتنا وفق مبدأ السبب والنتيجة، لوجدناها كلها تقريبا ً تنحو نحو تلبية حاجاتنا النفسية ودوافعنا الغريزية وفق المتاح من معطيات الواقع ،دون الاحتكام إلى مقياس أو (ميزان) العقل المجرد .
وقد يستخدم الإنسان العقل لإيجاد التسويغات والتبريرات القريبة من المنطق ،والتي تخدم محاولة الإشباع العاطفي، فيمكن تسمية هذا العقل بالعقل التبعي لأنه يتبع العاطفة ،ويتوجه بأمرها ، وهو يفتقر إلى أهم ما يميز العقل المجرد ،وهو حرية النظر في المفاهيم. هذه الحرية التي تجعله مستقلاً عن تاثير العاطفة، ما يجعله يخرج خارج نطاق الذات، ليتبصر فيها وهو من خارجها ،فيتمكن من رؤية ما يخفى على العقل التبعي .
التبصر في المفاهيم من خارج الذات يمكن العقل المجرد من القيام بممارسة النقد الذاتي ،الذي يمثل بداية التحوّل في محاكمة المفاهيم التي تتظاهر في الوعي .هذا التحوّل الذي سيؤدي فعلاً إلى الانقلاب على الأخطاء الجسيمة التي أورثها العقل التبعي للشخصية ..
ولعل النفس اللوامة التي أقسم بها رب العزة، ليست سوى هذه المرحلة ،التي يتمكن فيها العقل المجرد من الوصول للحقيقة وتمثلها ،فيجبر النفس على اتخاذ القرارات التي تعدّل كافة السلوكيات بما يتناسب واعتقاد الحق والعدل في شأنها .
التحيز هو الأصل .نحن متحيزون لميولنا ورغباتنا ودوافعنا دائما ً .وحيال موضوع عاطفي متعلق بدوافعنا ليس هناك من موقف حيادي .الموقف الحيادي سكون .لكن مجرد وجود رأي خاص بنا ليس بسكون .فأما أن تكون في حالة انجذاب أو تكون في حالة نفور .وفي كلتا الحالتين انت متحرك ...
أنت خاضع لقوةٍ تحركك باتجاه ما .
الانجذاب قد يخف تدريجياً حتى ينعدم .وذلك عندما تتوجه بعكس اتجاه القوة التي تجذبك .فهنا أنت حر .وقادر على التملص من قيودك . قادر على التحرك بكل حريتك،وفي كل الاتجاهات .فاترك العقل المجرد يرى وينظر حوله، ثم دعه يقرر لك اتجاهاً جديداً .
لكن الانجذاب قد يكون قوياً ،فتزداد شدة القوة التي تجذبك كلما اقتربت منها . فقوتك في مقاومة الانجذاب الآن في طريقها إلى التلاشي .وستتلاشى تماما عندما تفقد قدرتك على التحكم بحركتك ،وتجد نفسك غير قادر على اختيار اتجاهك . فذلك يعني استسلامك للعقل التبعي الخاضع للرغبات والعواطف والدوافع الغريزية .
أما النفور بمعاندة الانجذاب والتغلب عليه، فهو طريق تحررك من الحقل الجاذب الذي يثبط حركتك، وهو ابتعادك السريع عما يعيقك .وهو تحيّزك للعقل المجرد .فاترك العقل المجرد يخرجك من حقل الجاذبية .وكن حراً في قرارك وفي رؤيتك وسلوكك.