هي قصيدة من رحمِ الوجَعِ، أتت ردّا على قصيدةٍ للقديرِ جميل داري حُبلى بأوجاع الشّتاتِ والمنافي كان قد أهداها لصَديق.
وهذا هو نصّ قصيدته:
بقية من حجل شعر: جميل داري
إلى صديق مهترئ
تجر وراءك شمس القصيدة..
كي توقظ الحالمين
على شرفات الظلام
بأقصى المنافي
تجر خيولك..
أو عرباتك
أو روحك المكتواة
لكي تصل الأرض..
مسقط روحك
تحمل ينبوعها..
فتباغت بالريح تطرق قلبك..
بالليل يزحف..
بالنار ترجف ..
تسقط مغشية في نزيف القوافي
خرجت من العشب..
من زيزفون المقابر
عشب القصيدة..
من قدح القهوة المستحم
بفيض رؤاك
برفرفة الضحكات..
بروحك تركض لاهثة في الهواء
فثمة جرو يشم روائح حزنك
يلبس قلبك
والقلب حاف
تجر وراءك بحرا ضريرا
ونجما أخيرا
تفتش عن كل شيء
ولا أي شيء..
فأين كتابك حول الذين
كتبت لهم عن خروجك
من برعم الوقت..
حتى دخولك في قمقم الموت..؟
ماذا..؟
أما زلت تقضم فاكهة الحلم
والحلم جدا ثقيل؟
أما زلت تعبر ذاك الطريق الطويل؟
أما زلت تكتب نصك
ثم تمزقه حالما بسواه..؟
أوما زلت توهم نفسك
أنك ملء صداه..؟
تشبث بمنفاك
فهو المكان الأخير لموتك
لا تبتعد في نبيذ الكلام
تمهل.. وخلك أعقل
من كائنات الظلام
قرأتك هذا المساء
رأيت بوجهك صوتي الرجيم
وجرحي الذي لا ينام
رأيتك ممتشقا غيمة المستحيل
نحيلا.. كخيط دموع
وحيدا.. كفجر قتيل
ذات يوم بعيد
رفونا هوانا
أكلنا معا خبز أحلامنا
وشربنا صدانا
ذات يوم قريب
تهرأ خيط الزمان
فصرنا نلوك الهواء
ونجرع طين خطانا
نتشدق بالشعر.. والشعر
يهرب منا
يلوذ بحضن سوانا
فعلينا إذا أن نكبل هذا الفضاء
ونهرب من كل أرض
وكل سماء
هل تبدد شملك خلف الغياب؟
هل تعطل قلبك خلف السراب؟
هل سمعت تراتيل موتي
وأشعلت بحرا
لتدفئ ذاكرتي الخائنه؟
هل حبوت على طرقات القرى
ذات عصربعيد
وأنت تلملم
ما شئت من عدس وشعير
وأرغفة ساخنه؟
آه..يا سارق الريح والنار
والقبل الماجنه..!
هل كتبت الذي تشتهي..؟
هل محوت عن الشعر
آثار روحك
نبع رؤاك..؟
هل تجرأت أن تخدش الريح
توغر رجع صداك..؟
هل تذكرت ما كتبته الرياح
وما مسحته من الكلمات التي كم تلاك؟
هل.. وهل..؟؟
نفد ال"هل" ولم يبق في الريح
غير رمال مجرحة
وعيون لتوشك ألا تراك
عد إلى الخلف
إياك أن تغضب الغيم
أو تجرح النجم
لا.. لا تكن جارحا مثل منفى
وهشا كقلب ملاك
لا تكن طفل حب
ولا مثل فزاعة
في حقول الهلاك
كن حياتك أو موتك المر
بين هنا وهناك
كن هديل التعاسة..
سفر القصيدة..
سجل على دفتر الذاريات
هواك... هواك
أذكر الآن
أنك حاولت إنقاذ نفسك
من كل رجس
غير أنك في ذات غيبوبة
مت... ثم ولدت
ومت كثيرا
وها أنت بين براثن آت وأمس
أنت بينهما تقضم الريح
تمضي على غير هدي ونفس
أيها المثقل الآن بالموت
عش من جديد
لكي لا يموت الظلام بضربة شمس
عش كما حجل يائس
في مضارب يأس
أتخون القصيدة عشاقها؟
أتخون الكتابة أوراقها؟
لم.. لست أرى
في سماء الكلام البجع؟
لم.. أضحك.. أضحك حتى الوجع؟
أأشق فضائي؟
أأسكب فوق يد النار مائي؟
أأسافر في غيهب الأرض
أم أتسلق حبل السماء؟
آه.. من طرقات يجن عليها الجنون
آه.. من زمن الموت
حين أكون أنا
لا يكون
كيف أحصي دموعك؟
كيف أزف إليك تعاسة هذا المساء الزلال..؟
أتحب الرحيل إلى تلة
لم نعد نتسلقها
مثل غابر لن ينال..؟
أتحب الجلوس على عشبة يبست
وبكت في سديم المحال..؟
هل تبخر شوقك
أم هل تهشم صوتك
مرتطما بصخور الجبال..؟
أتحب الرجوع إلى البيت
- بيت أبيك وأمك-
تأكل خبزا وجبنا
وقرن غزال..؟
صور أنت علقتها
في جدارالكلام
ومزقتها
دونما ندم لائق وعضال
أسأل الوقت.. والوقت مجمرة
تتوقد حتى حدود الكمال
لا ضفاف لعمق الرحيل
أأنت الخلاص..؟
أأنت الرصاص الذي يتغلغل في
أأنت الحقيقة.. ؟
أنت الخيال...؟؟
إن تكن جبلا
إن تكن حجلا
إن تكن وهج نار
بتنور "بافي كال"
فرحيلك في الأبدية
أبقاك خارج حد السؤال
إن تكن رجلا
إن تكن أملا
فالرسول الذي خانه الأصدقاء
تقوقع في بيته
ثم.. زال
وصهيلك في أول الشعر..
في آخر القبر
أمطر منفى قصيا
وحبا بعيد المنال
كيف لي أن أفسر كونا كبيرا
وكل القصائد عاجزة
أن تسجل تاريخ موت..
تفسر معنى الجمال
أيها الحاضر الآن
في فلك الأبجديه..!
أيها الغائب الآن
في غبش الأبديه..!
لست تخسر أكثر مما خسرت
لست تربح أكثر مما ربحت
ولذلك لن تردم الهاويه..
لن تؤجج فوق جبال القصيدة
نيرانك الذاويه
آه.. شتان بيني وبينك..!
أنت تخوض حروبك خاسرة
وأنا خاسر دون حرب..
أنت تغمض عينيك
كي لا ترى السماء منكسة
وسمائي منكسة
منذ أن ضاع سربي..
أنت تؤمن بالكلمات التي تتواثب
مثل الأيائل في كل منفى
وأنا شبح ضائع
لست أعرف دربي..
أنت هاجرت.. غامرت
حاولت أن تلج الموت
من خرم أغنية
وأنا لم أعاقر سوى قمر الشعر
ميلاد نحبي..
أنت تسكر من شظف الليل..
كحل النساء
وأنا أبد الدهر سكران
من دون شرب..
أنت طفل عتيق
وقد تدخل الجنة الآن
أو بعد.. بعد قليل
وأنا لا أفكر إلا بناري التي
تتوسد قلبي..
أنت قس القصيدة..دير الهوى
قندلفت المدى
وأنا محض عاطفة رثة
يتلاعب فيها الخيال
فترجمني دون ذنب..
أنت تنبش في ذكريات المكان/ الزمان
يكونان طوع يديك
وأنا أقتفي أثر الحلم
طول الطريق..
أطالبه بالوصول إلي
ولكنه.. لا يلبي
أنت تبحث عن ملجأ آمن لضريحك
عن غيمة لسمائك
عن موعد لرحيلك
عن قبلة لحبيبك
لكن أنا..
ريشة في مهب الكمد
أتسلى بشم الهواء
وصيد الزبد..
أنت تقطن برج عاج
من الهذيان
تخفف عنك ديون الحياة
بارتياد المنافي..
وبالنوم فوق سرير الشتات
وأنا أتوضا بالجمر
حتى تصح صلاتي..
لست جمرا
لأغمد فيك لهيبي
أو لأغريك بالحور
يرفلن في ثوبهن القشيب
لست إلا غريبا
-أنا لست أعرفني-
آه.. طوبى لكل غريب..!
لست بحرا
لأمنحك الموج..
أو حجلا
لأحط على راحتيك
وأتلو عليك هيام الحبيب
لست إلا سرابا عتيقا
أهدهد قلبي بالكلمات
وأرفو ظلال الرؤى
بالنحيب
ارم نفسك في البحر..
مغتسلا بنشيد الزبد
ارم نفسك في الكون..
واقع جنونك
لا تكترث بأحد..
اجعل الموج عنوان روحك
راسل خيالك.. راسل غلوك
راسل صديقك.. راسل عدوك
راسل حريقك..راسل رمادك
راسل سهادك..راسل رقادك
راسل بذورك..راسل حصادك
حتى الهزيع الذي
لا يحد
قلت للريح :لا.. لا تهبي
غافلتني وهبت..
فقلت لها:
أتحداك.. هبي وهبي وهبي
كن كما أنت
طفلا يتيمايعض اللهيب
ويسائل عن أبويه
وما من مجيب
يشتهي النوم قبل المغيب
ثم يصحو على صوت مئذنة
في المكان البعيد/القريب
انس أنك عشت غريبا
لأنك منذ البلاد
غريب.. غريب
أيها المتأبط شعرا بمنفاه..
احمل على كتفيك" سيزيف"
وصخرته
ورماد الجهات
ثم أجج ضياءك بالظلمات
ثم ..لا تنس ظلك
فوق رماد الطريق
اقترف صوتك المنحني
واعتصم بصداه الغريق
سلام عليك..
على وردة من حريق
وهذا كان ردّي على قصيدته:
نَعَمْ يا صَديقي
إلى كُلِّ مَنفى
سَلَكْتُ طَريقي
وَدُسْتُ عَلى شَوْكِها
رَغْمَ ضَعفي
بِنَعْلٍ مِنَ الخَوْفِ
قَدْ هَرَّأَتْهُ
نُيوبُ الخُطوبِ
وَمِبْرَدُ قَلْبٍ كَثيرِ الشّقوقِ.
صَهيلُ الخُيولِ كَسَوْطٍ
مِنَ الجِلْدِ
يَجْلِدُ ماضيَّ
في غُرْبَتي.
إلى أينَ أمضي؟
وهذي الدّروبُ
تَلوكُ المُنى،
وَتَقضِمُ أحلامَنا اليانِعَة.
بَعيدٌ هُوَ العُشُّ عَنّي،
وأجْنِحَتي أجْهَدَتها الرّياحُ،
وَبَعْثَرَتِ الآهُ ريشاتِها.
يَنابيعُ أرضي تُسافِرُ في النّبضِ
رَغمَ البِعادِ،
فَيَنبُتُ في البالِ عُشبُ القَصيدَةِ،
يُزهِرُ لَيلُ المَنافي السّحيقُ،
فَتولَدُ بَعضُ النُّجَيماتِ
في عُتْمِهِ،
لِتَمْنَحَني بَعْضَ سَلوى،
تُجدِّدُ نَبْضَ الخُطى والمَسير.
وثَمّةَ نَهرٌ تَفَتّقَ مِنْ صَخْرَةِ القلبِ
يَروي بَوارَ المَهاجِرِ،
كَي يَزحَفَ الخِصْبُ
رَغمَ الخَواءِ المُحيطِ
إلى تُربِ أعمارِنا التّائِهَة.
سَأجمَعُ قشّ الحَنينِ
لأبنيهِ رَغمَ الشّتاتِ
بِلادًا،
عَلى أرضِ غَيري،
تَكونُ مَلاذًا
لِجَذْرٍ تَوَغَّلَ
في وَحْلِ تيهٍ
يُذيبُ خُطاهُ.
بِفَيْضِ رُؤايَ سأروي المُروجَ،
لتَزرَعَني فلّةً في مَداها.
وقلبي سينتعلُ الشّوقَ حينًا،
وحينًا سيكسوهُ عُشْبَ التَمَنّي.
أجرّ سحابًا
يزيدُ سُعارَ شِياهِ الفؤادِ،
وأبحثُ في جُعبَةِ النّجمِ عنّي،
وعنْ رُمحِ فَجْرٍ أخيرٍ،
سيستلّهُ البردُ مِنّي،
ليغتالَ بومَ التشظّي الّذي
مِنْ عَلى شَجَرِ العُمُرِ اقتاتَ بالوَعْدِ والأمنِيات.
وَهاكُمْ كِتابي
نقَشْتُ تَفاصيلَ جَرحي عَلَيْهِ،
فَألقَت سُطورُ المَرارَةِ تَعويذَةَ القَمعِ مِنْ كَفّتَيْها،
عَلى صَفَحاتٍ ذَراها الزّمانُ وَولّى.
منَ البَدْءِ حتّى النّهاياتِ
تَنْبِضُ فينا الحياةُ،
بِرَغْمِ تسلُّلِ جيشِ الرّدى
لمَيْدانِ بؤسٍ طَلَتهُ الرّياحُ بأسوَدِها،
حينَ مَرّت تَجوبُ المَوانِئَ ذاتَ انكِسار.
جميلٌ هوَ الوهمُ حينَ تُداعِبُ ريشاتُهُ شُعثَ يَوْمي.
فيَوْمُ الغريبِ طَويلٌ كأمعائِهِ يا صَديقي.
وبَعْضُ الحَساسينِ تَبْذُرُ تَغريدَها في طَريقي.
لتَمحُوَ بعضَ المرارَةِ مِنْ دَمْعَتي.
غَريبانِ نَحْنُ.
وَمَهما تجرّعَنا البُعْدُ نَعدو،
لنبحَثَ في بُرْدِهِ
عَنْ ثُقوبٍ، تُسَرِّبُ هذا الفضاءَ الفسيحَ،
إلى اللّجِّ في مُقلتينِ، سَمَحنا لِمَوْجَيْهِما
بافتِراسِ المسافاتِ والأزمِنَة.
سأجرُشُ حبَّ النّهاياتِ،
حبَّ البِداياتِ،
كَيْ أصنعَ الخُبزَ في لَيلِ جوعي.
وَلَنْ أَدَعَ الخَوْفَ يَغزو،
إذا ما ابتَعَدْتَ،
قِلاعَ ضُلوعي.
فَفي كُلّ يَوْمٍ
ستُشرِقُ نَجْمَتُنا مِن جَديدْ.
لِتُهدِيَ رَغْمَ الحُدودِ وَأوْجاعِها،
للقُلوبِ النّشيدْ.