أهداف وغايات الأدب
المستشار الأدبي
حسين علي الهنداوي
شاعر وناقد
مدرس في جامعة دمشق
صاحب الموسوعة الأدبية (النرصدالأدبي )
حجم الموسوعة( خس عشرة ألف صفحة )
سوريا -درعا-

الأدب كغيره من الفنون يعتمد على ركائز وأسس، وله أهداف وغايات تتبدل وتتغير بتبدل العلاقات الإنسانية و الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية و السياسية ذلك أن أي حديث عن غايات الأدب لابد و أن يأخذ في حسبانه نقطتين رئيستين الأولى : تبدي لنا تلازم طبيعة الأدب ووظيفته لأن استعمال الشعر ينتج من طبيعتة كما أشار إلى ذلك ( رينيه ويليك و أوستن وارين ) صاحبا نظرية الأدب والثانية : تشير إلى أن للأدب جانبين متلازمين تلازم الروح للجسد (الوظيفة الجمالية والغاية الحياتية )، لأن الأدب ضرورة حياتية تشبع في حياة الناس رغبات وحاجات ملحة لا تقل خطورة عن الحاجات المادية ، فالشعر عذب ومفيد ولكن ذلك لا يتأتى إلا لمن يجيدون استعماله ومن واجب الأديب أن يسهم في تنظيم وبرمجة العلاقات الإنسانية بمستوياتها كافة ليحقق التكافؤ و العدالة بصورتهما المطلقة. لقد طرح دارسو الأدب منذ القديم مسائل متعددة الجوانب حول وظائف وغايات الأدب وتبنوا نظرات مختلفة حول ذلك ومن بين تلك المسائل المطروحة : هل الأدب كغيره من الفنون نوع من الترف ؟! أوظيفة الأدب ذاتية أم موضوعية ؟ّ! أيجب أن يكون الأدب فرديا أم جماعيا ؟! أيفترض في الأدب أن يكون أدب جمال أم أدب حياة ؟ّ أيحسن أن يكون الأدب أدب شرح وعرض وإيضاح أم أدب دعوة وتوجيه و إرشاد؟! هل الأدب هروب وحياد أم رأي و التزام ؟!
وبادئ ذي بدء يجدر بنا أن نشير إلى أن الأدب بمفهومه الخاص لم ينشأ ولم يتكون إلا ليؤدي غايات ووظائف لهذا الإنسان الذي وجد نفسه مأزوماً منذ وجوده على هذا الكوكب ويحسن بالأدب من خلال خدمته لصانعه أن يبقى أمينا لطبيعته ألا وهى الوظيفة الجمالية فالأدب استبصار فني و الأديب داعية مسؤول غايته إيصال الحقيقة والجمال إلى الآخرين ، لقد ولد الإنسان وفي ذاته نهم للجمال أيا كان نوعه أو شكله وارتبط به ارتباطا لا تفك عراه وأصبحت غاية الإنسان في بحثه المفيد يفتش عن الصورة الجميلة المشرقة . لقد كان الشعر عند العرب سجلا للمشاهدات الاجتماعية والحربية والنفسية مما يدعونا إلى القول: إن الأدب لم ينشأ عند العرب إلا لضرورات حياتية وجمالية . يقول (رينيه ويليك و أوستن وارين ) : بإمكان الروائي أن يعلمك عن الطبيعة البشرية أكثر من عالم النفس ، و هذا يشير إلى ما قاله فرويد من أنه عرف النفس البشرية من خلال الأدب أكثر مما عرفها من خلال الواقع ؛ وتعتبر الروايات العظيمة مراجع لعلماء النفس وما قيل في شخصية ( هاملت ) بعد (شكسبير) أكثر مما تحتمله هذه الشخصية التي غدت أسطورة من أساطير الأدب . إن نفع الأدب هو نفع مقرون بالمتعة و إلا لما كان هناك فارق بين أنواع المعارف الإنسانية ولاختلط الدين بالفلسفة والأدب بالفكر حتى إنه يمكن للأدب أن يحمل في طياته بعضاً من الفلسفة و التاريخ ولكنه لا يكون أدبا حتى يحقق الغاية الجمالية إلى جانب الغاية الحياتية ؛ لأن الأدب جزء من فن الكلمة . يقول أرسطو : غاية التراجيديا تطهير النفس بإثارة الخوف و الشفقة في نفوسنا وتخليصها مما هو مكبوت وقد قصر التطهير على التراجيديا الإغريقية لأن محورها الأساسي الصراع بين الآلهة على زعمهم أو بين الآلهة والملوك، و الأمراء وأنصاف الآلهة أو بين قوى الكون المتضاربة. وقد وسّع مندور نظرية التطهير ولم يقصرها على الخوف والشفقة فقط بل أضاف إليها انفعالات ومشاعر أخرى مكبوتة ، فالمأساة التي تعالج تجربة غرام عاتٍ تطهير للنفس من رغبة مكبوتة ، وقد تكون التجربة خالية حيث تصبح التجربة البشرية المعروضة في المسرحية أو القصيدة ادّخارا لطاقة فعّالة وتطهيرا للنفس من رغبة مكبوتة عند الكاتب أو القارئ على حد سواء . يقول (إدغار آلا نبو) : الشعر أداة للتهذيب لأن الفنان إن لم يكن لديه غاية يستطيع أن يغدو هداما بمجرد التغني . صحيح أنه عبر التاريخ تغيرت المفهومات المتعلقة بطبيعة الأدب ووظيفته إذ إنه مر زمن لم تفترق فيه الفلسفة عن الأدب و الدين وهذا عند الإغريق بشكل خاص ومع ذلك فقد بقي الأدب منمازاً عن غيره من المعارف و لقد كان كهان العرب يستعملون لغة الأدب من أجل التأثير على نفوس الآخرين حتى أن مدّعي النبوة الكاذبين عندما عارضوا القرآن الكريم استخدموا الكلام كأدب له وقع و تأثير في المتلقي . لقد أدرك الأدباء أنفسهم ومنهم الشعراء أن الأدب يحمل رسالة عظيمة غايتها المساهمة في تطوير الآخرين وما احتفال القبيلة العربية بمولد شاعر جديد إلا دلالة على أهمية الأدب عند الآخرين وضرورته . إن المذهب الكلاسيكي في الأدب حين يتخذ الإنسان موضوعا لدراسته يحقق أهدافا في السلوك الفردي والاجتماعي لتهذيب الجنس البشري والرقي بمستواه الإنساني العام بينما تبدو الذاتية الفردية في الأدب الرومانسي ذلك أنه يتمثل في الشعر الغنائي بشكل خاص وهذا بدوره يشير إلى الصراع بين الذاتية الموضوعية . يقول نزار قباني ( القصيدة عملية استشهاد على الورق وليست مجرد عملية للتطريب والتخدير والشعر عملية صدامية لأنه هو الناس وهو الشارع ووظيفة الشعر أن يحرض الإنسان على نفسه ولا شعر حقيقي دون تحريض والشاعر يجب أن يكون دائما في قلب المعركة في قلب التاريخ ) وهذا بدوره يفسر لنا عملية الصراع حول القيمة الجمالية والنفعية للأدب فلا يجب أن يفهم أنه لا قيمة نفعية للأدب ، فالأدب هو القدرة على صنع القيمة النفعية من خلال القيمة الجمالية والأديب الحق هو الذي يعبر عن النفس البشرية ( الذات والآخرين ) لأن هذه النفس تحفل بالموضوعات المتصلة بالمجتمع وهذا هو الالتزام عينه إننا لا نوافق من لا يقتنع بالمتعة الجمالية للأدب ويدعو فقط إلى أدب يضحي بالذات في سبيل الغير. وهذا يعني أن الأدب قد يهدف إلى تصوير الواقع بكل ما فيه من خير وشر وأن هذا الأدب يجب أن يكون هادفا إلى تغليب عامل الخير والثقة بالإنسان وقدرته . ومن الغريب العجيب أن (البرناسيه ) ترى في الشعر غاية في ذاته لا وسيلة للتعبير لأنها تريد أن تجعل الشعر فنا موضوعيا غايته نحت الجمال و استخراجه من الطبيعة وهذا يلغي وظيفة الشعر الحياتية التي هى خلق القيم وتهذيب النفس وتعليم الآخرين جوانب الحياة . إن ( لو كونت دي ليل) زعيم البرناسية لم يتمسك بهذه النظرية للشعر إلا بعد أن استوت له فلسفة خاصة في الحياة تسخر من ألم الإنسان وبكائه وترى أن (النرفانا) هي سبيل الخلاص لهذا الإنسان والأعجب من ذلك أن ( السريالية ) أو ( ما فوق الواقعية ) لم تعد ترى أن للأدب هدفا لا في ذاته ولا من أجل غيره و كأنها تريد أن تلغي دور الأدب كما ألغت دور الأخلاق في الحياة . إن السرياليين بتحللهم من الماضي إنما يهتمون بما فوق الواقع( اللاوعي) المكبوت في داخل النفس البشرية ويحاولون إطلاقه وتسجيله فقط وكأن الأدب قد تحول إلى مصحّ نفسي . صحيح أن الإنسان أحرز نجاحا ساحقا على مستوى الحضارة المادية وحقق أحلاما عظيمة ولكنه مازال مأزوما ًفي حياته الروحية ، و باعتبار أن الأدب هو جزء من الروح فمن حقه أن يتغذى منها ومن واجبه أن يغذّيها فهو يغرف من معينها ويصب في بحرها .وحسبه صنيعا أنه كبقية الفنون أسهم في بناء الإنسانية وثبت دعائم الإنسان وجعله يلتصق بكوكبه ويعيش فيه آماله وآلامه فأحيانا كان الأدب ترفا للإنسان و أحيانا كان مسليا له وتارة كان عبثا ولعبا ولكنه في الأعم الأغلب كان سلاح الإنسان في مواجهة أخطبوط الحياة الفكري والاجتماعي و النفسي و السياسي ؛ فالثورة الفرنسية ضد آلام الباستيل مهدّ لها الكتاب و الشعراء وكذلك الثورة الروسية ولم يكن حسان بن ثابت و عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلا كتائب مسلحة في شعرهم الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أوقع في المشركين من النبال . إن الأدب الجدير بالحياة هو الأدب الذي يسهم في بناء أسس الحياة الصحيحة السلمية المعافاة من الأمراض ويهدم القيم الفاسدة العفنة التي تقف عائقا أمام تحرر وتطور الإنسان والحياة . والأدب إن لم يكن نبراسا ومشعلا فأولى به ألا يكون .