لطالما كانت الحروف طيعة بين يدي، متى صارت تفصل بين الحرف والحرف دهور؟ قيل لي مرة أن ذروة نتاج الإنسان هي في سني ما يدعونه المراهقة، فهذا الكائن المقلقل الهش العنيد -كما مراهقو أيامنا- هو الجريء المخلص الهمام الذي غير وجه الدنيا في القرون الماضية. من منح الحياة العجيبة الآن حق بتر تلك السنين من حياتنا بأن نحياها في إطار ضيق يخنقنا ولا يتسع لطاقاتنا الهادرة؟؟؟
كان كل شيء يدفعني للكتابة، كل موقف وكل لفتة وكل تعبير يوحي لي بنثر! توق إلى الأوراق يدفعني حتى أخال أنني لو عاندته لقتلني! توق يفوق كل شيء، يفوق الواجبات وأساسيات الحياة، يستلني من الراحة أو العمل أو حتى من الساعات الأخيرة للتحضير لامتحان ما. ويدفعني إلى إخلاف موعد أو الاعتذار عن رحلة أو حفل أو اجتماع عائلي، رغم أنها لطالما كانت عندي من الكبائر. واليوم يراودني الورق فأتجاهله.. أنصرف إلى مشاغلي ببرود لست أدري متى تراكم في قلبي. وأعجب لمن يدون طرف فكرة ليتمها حين يفرغ! تلك اللحظة لن تتكرر، وهي ليست فكرة أستعيدها! بل لحظة بكل ما فيها، كيمياء لجزيئات معقدة ومستقبلات أكثر تعقيدا في الدماغ والقلب مع تراكيز خاصة للهرمونات وغيرها من الجزيئات الدقيقة في الدم، كلها تحتشد في خشوع لتملي حرفا لست أعلم منه إلا ما يعلمه كاتب يملى عليه من سواه فهو يعلم يقدر ما يكتب! كيف لي أن أكتب نصا مؤجلا لم يمل قط!
والأفكار عندما تلمس في القلب أشلاء أفكار سابقة زارته فأعرض عنها وازدراها، تزدريه وتجفل منه بدورها، وتمنعها كبرياؤها من النزول عليه بذاك الاندفاع البريء السابق، فتمر عليه متمهلة مقبلة معرضة، تنتظر منه أن يخف إليها ويمنحها حقها من التفرغ والالتفات حتى تنزل عليه بكل ما تحمل، وهو ما عاد يعرف كيف يخف ويرحب، فينتهي الحال بهما إلى فتور أصابهما كليهما ليسا يعرفان أين مبدأه وأين منتهاه.
عندما يطول الفراق يشتد الشوق، وعندما نفقد حاسة مرهفة ندرك عمق قيمتها ومرارة فقدها، والآن أجدني أتشبث بذبالة باهتة، أحاول نقل الحرف المطموس على ضوئها الضئيل خشية أن تنطفئ وتكون الذبالة الأخيرة، أخشى أن أخسر من القلم أكثر مما خسرته منه من قبل، ودون أمل باستعادته. أحيانا يصرفنا عن الكتابة نقد ذاتي زائد، أن يكتب القلم جديدا دن تطور في الأسلوب، أو أن يسعى لنص يهز الدنيا بقدر ارتجاف اعماقه الغامر تحت سطوة الفكرة، فلا يجد أنه يكتب بما يليق بها، أو أن تكون عظمة الفكرة من نفسه أكبر بكثير من أن يسردها في نص عابر، فيدخرها للتأمل والدراسة فإذا به يسلمها للذبول على قائمة المواعيد المؤجلة، وتطول القائمة وتتبدل اهتمامات النفس وشغفها، وتخبو الفكرة! ما الفرق بين وأد طفل ووأد فكرة؟ في قلبي لوأد الفكرة ذعر ورهبة وألم يستقي من وأد الإنسان وإن بالطبع لم يبلغ مبلغه.
النصوص في البدايات تكون متعثرة مرتبكة، نصوص الصبا تغدو مندفعة متألقة، كل ما فيها يتكلم ويتحرك، صور وأرواح ونبض! فإذا طرق القلم أبواب الكهولة انقلب إلى نبض هادئ متريث يرسمه العقل أكثر مما يقوده الشغف. النثر تأمل والرواية بوح والشعر نقض عقلاني لفكرة أو طرح عقلاني لأخرى. تفلت أقلام من هذا فتتألق، تغدو الواحة التي يلجأ إليها المرء لتوقد جذوة فؤاده وتمنحه نشوة وخفة مختلفتين لا يمنحهما الفكر مهما كان عميقا، وبين الحين والحين لا تعود الأفكار كافية، بل لا بد من ذلك الانطلاق والخفة في الأسلوب، ولا بد أن تسكرنا الفكرة.