بسم الله الرحمن الرحيم
البلاغة في آية (إن ترن أنا أقل منك)
د. ضياء الدين الجماس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين .
أقدم ومضة من تدبري حول تقصي المعاني البلاغية في آيتي الحوار بين الرجلين المتغايرين في العقيدة (أحدهما مؤمن والآخر كافر)، الواردة في سورة الكهف. وهي في قول الله تعالى : ( وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا 34 ... وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا 39 فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا 40 )
عندما نتأمل مكونات جملة الكافر (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) نجد عمادها مبتدأ وخبراً (أنا أكثر منك) مالاً وأعزُّ نفراً
(الأنا) عنده أقوى عماد في الجملة، فلقد جعلها مبتدأ كلامه ومحوراً أساسياً فيه وقد نطقها أكثر من مرة بدليل تعدد ثلاث قراءات في طريقة مد ألفها فتارة ينطقها خطفاً بلا ألف (أنَ) وتارة ينطقها بألف قصر-(أنا) حركتين فقط وتارة يركز عليها بالمد (4-6 حركات) -أنآ أكثر منك- متضمنة معنى التعالي، والله أعلم (وفق الروايات المتواترة بنطقها)، وقد يكون ذلك النطق في جلسة واحدة أو جلسات حوارية متفرقة، ويتضح من تركيب هذه الجملة أنه يرى في أناه ذاته المتفاخرة المتكبرة على الآخرين (والمتغطرسة بغيها) كما يرى قدرته المستقلة على تحصيل ما يشاء من ملكية المال بشتى أصنافه دون أن يرى فضل أحد عليه. بل يرى فقط كثرة الممتلكات والأولاد والعشيرة المناصرة له فجعلها مقياس المفاضلة بينه وبين الآخرين. الذي تجلى في العماد الثاني لجملته الذي يظهر في قوله (أكثر منك) : وفي هذا العماد من الجملة ركز على المفاضلة بينه وبين الآخرين بكثرة الممتلكات (من المال والنفر- الولد والعشيرة) كمؤشر على منزلة الأنا الاجتماعية. فقيمة الأنا عنده على قدر ما تملك وعلى مبدأ (عندك قرش تساوي قرش).
وأما إذا تأملنا مكونات جملة المؤمن المقابلة (إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا* فعسى..) فسنلاحظ أنَّ المؤمن لم يرد على خصمه بالمثل ، فلم يقل له مثلاٌ ( أنا أعز منك بإيماني) ، بل ركز على إبراز خطأ رؤية خصمه بأسلوب حواري لطيف يدل على بصيرة نافذة وهدفه إصلاحه ونصيحته.
1- أدخل المؤمن في تكوين جملة رده فعلاً متعدياً (ترى) على الأنا وخبرها ليجعلها مفعولين له وجعلها جملة فعلية شرطية (إن ترني) (أقل منك) فجعل الأنا ضمير ياء مضاف في محل مفعولا به أول و(أقلَّ) أصبحت مفعولاً به ثانياً
2- أدخل ضمير الأنا بينهما لغرضين متكاملين الأول التأكيد على أهمية الأنا الكامنة في ضمير ياء الإضافة وتمثل الأنا المتواضعة ذات البصيرة المستنيرة رغم بقائها مفعولاً به ضمن رؤية خصمه وتركيز الانتباه إلى ما بعدها كعماد لا يستغنى عنه في الجملة رغم انعكاس المفهوم حسب رؤية خصمه من الأكثر للأقل.
فالفرق البلاغي في المعنى أن جملة الكافر تركز على الأنا وأنها هي الفاعلة وأن منزلتها تكون على قدر ممتلكاتها. وأما الجملة بعد إدخال الفعل المتعدي لو كانت بدون ضمير الفصل والتوكيد (إنْ ترن أقلَّ منك) ففيها تركيز على مفاضلة القلة والكثرة فقط. وأما بعد إدخال ضمير الفصل والتوكيد (إنْ ترن أنا أقلَّ منك) فقد أبقت للأنا قيمتها بدون استعلاء وتكبر كما أعطت لنتائج ما تجنيه أهمية كبيرة عمادية ولكن بمنظور التواضع ورؤية فضل الخالق عليها تربية ورزقاً.
ولقد نطق بالأنا التوكيدية الفاصلة بثلاثة مدود أيضاً مقابلة لردود الكافر ولكن اختلفت بمعانيها عن معاني مدود الكافر لأنا ذات الكافر الاستكبارية، فهي إما بالقصر لعدم التركيز عليها أو مدها بأسلوب الرد التوددي مع اليقين بتثبيت الله له ونصرته في الحوار . وقد بين جواب شرطه في الجملة بقوله (فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيداً زلقاً). إنه الأمل بنيل ثواب جنان الآخرة وعدم الاكتراث بأملاك الدنيا التي إن جمعت بالحرام فمصيرها أقدار الله المحسوبة.
والحمد لله رب العالمين