* تعريف القيم :
جاء في قاموس المعاني : "هي الفضائل الدِّينيّة والخُلقيّة والاجتماعيّة التي تقوم عليها حياة المجتمع الإنسانيّ . "
ويقال عن الشيء الذي لا أهمية له ولا خير فيه " عديم القيمة " .
* أنواع القيم :
القيم متنوعة فهناك قيم دينية وقيم جمالية وقيم اجتماعية وقيم سياسية وقيم اقتصادية ، ويمكن أن ننظر إلى قيمة واحدة من عدة زوايا مثل " قيمة الوحدة " حيث تُصنّف في معظمها بسبب الترابط :
ـ فالدين يدعو إلى الوحدة { وأنّ هذه أمتكم أمة واحدة } .
ـ والسياسة تكرّس مفهوم الوحدة لأنه يحفظ الأمن .
ــ ومن الناحية الجمالية يُستهجن الانقسام والتباين في الصورة التي ينبغي أنْ تنسجم كافة ألوانها .
ــ والمجتمع المُفكّك لن يصمد أمام التحديات .
*معنى الموازنة بين القيم :
الموازنة مأخوذة من الميزان : وزَنَ يزن ، ووازن ..
والميزان يزِن لمعرفة أقدار الأشياء .
والموازنة في جوهرها هي معرفة أقدار الأشياء وأقدار الأعمال والأشخاص والأفعال ،وحين يُعرف وزنها تُعطى الثمن أو الترتيب ، فالميزان يتبعُه ترتيب الأشياء وأولوياتُها .
والموازنة بين القيم : هي عملية ترجيح بين القيم عندما تتزاحم أو تتعارض ، فتُقدّمُ القيمة الكبرى على القيمة الصغرى ،والقيمة التي تعود على العامة على القيمة الخاصة ، وقيمة الكثرة على قيمة القلة ، وهكذا يُقدّم الأهم على المهم .
قال تعالى { والسماء رفعها ووضع الميزان ألّا تطغوا في الميزان } { وأنزلنا الكتاب والميزان} .
ـ وقد قال العلماء : " ليس العاقلُ مَنْ يعرفُ الخير من الشر ، ولكنه مَن يعرف خيرَ الخيرين وشرَ الشرّين " .
وقالوا أيضا : " ليس العاقل الذي يعرف الحلال من الحرام إنما العاقل الذي يعرف أهون الشرين وأخف الضررين "
وقالوا " جاء الإسلام لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها, فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما هو المشروع " .
ـ والإنسان الذين لا يزن الأعمال يكون مُعطّلا للميزان الذي أنزله الله .
يقول الشيخ القرضاوي : " المصالح التي أقرَّها الشرع ليست في رتبة واحدة، بل هي - كما قرر الأُصوليون - مراتب أساسية ثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات. فالضروريات: ما لا حياة بغيره والحاجيات: ما يمكن العيش بغيره ولكن مع مشقة وحرج. والتحسينات: ما يزين الحياة ويجمِّلها، وهو ما نسميه عُرفاً بـ " الكماليات ".
وفقه الموازنات - وبالتالي فقه الأولويات - يقتضي منا:
تقديم الضروريات على الحاجيات، ومن باب أولى على التحسينات.
وتقديم الحاجيات على التحسينات والمكملات.
وفي الموازنة بين المصالح:
تُقدَّم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو الموهومة.
وتُقدَّم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة.
وتُقدَّم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.
وتُقدَّم مصلحة الكثرة على مصلحة القِلَّة.
وتُقدَّم المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المنقطعة.
وتُقدَّم المصلحة الجوهرية والأساسية على المصلحة الشكلية والهامشية.
وتُقدَّم المصلحة المستقبلية القوية على المصلحة الآنية الضعيفة.
وفي صلح الحديبية: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم، يُغلِّب المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية، على المصالح والاعتبارات الشكلية، التي يتشبث بها بعض الناس. فقبِل من الشروط ما قد يُظن - لأول وهلة - أنّ فيه إجحافاً بالجماعة المسلمة، أو رضا بالدون .. ورضي أن تٌحذف " البسملة " المعهودة من وثيقة الصلح، ويكتب بدلها: " باسمك اللَّهم ". وأن يُحذف وصف الرسالة الملاصق لاسمه الكريم: " محمد رسول الله "، ويُكتفى باسم " محمد بن عبد الله "! ليكسب من وراء ذلك " الهدنة " التي يتفرغ فيها لنشر الدعوة، ومخاطبة ملوك العالم. ولا غرو أن سمَّاها القرآن: " فتحاً مبيناً "انتهى .
*ــ بعض الأمثلة عن الموازنة :
1 ــ عن النعمان بن بشير ، قال : كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر : ما أبالي ألا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام ، وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم ، فزجرهم عمر وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت لكم فيما اختلفتم فيه ، فأنزل الله عز وجل { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } التوبة 19 .
وجه الدلالة :
نجدُ أنّ القرآن قابَلَ بين عمَلين : الأول وهو سقاية الحجاج وعمارة المسجد الحرام وهو مطلوب شرعا، والثاني الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله وهو عمل مطلوبا شرعا أيضا ، ثمّ رجّح العمل الثاني بناءً على الموازنة .
وبالتالي لا يستويان في الأجر وفي درجة الحرص عليهما ، لذلك قال الإمام الطبري شيخ المفسرين :
" وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت, فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية " .
2 ــ قصة جُريج العابد وهي من أشهر القصص التي تنطوي على دلالات مرتبطة بفقه الموازنة بين القيم والأعمال ؛ حيث كان جريج رجلاً عابداً فاتخذ صومعة ، فكان فيها فأتته أمُّهُ وهو يصلي فقالت : يا جريج . فقال : يا رب أمي وصلاتي . فأقبلَ على صلاته فانصرفت ، وجاءته ثلاث مرات ، وفي المرّة الأخيرة دَعتْ عليه فقالت : اللهم لا تُمته حتى ينظرَ إلى وجوه المُومِسات ( العاهرات ) ، فاستجاب الله دعاءها ووقع في الفاحشة .
الشاهد من القصة : هو أنّ الموازنة التي أجْراها جُريح كانت خاطئة حيث ظنّ أنّ البقاء في الصلاة النافلة أولى من تلبية نداء أمّه ، وهذا نموذج في اختلال ميزان القيم وعدم فهم مقاصد الدين ، فالموازنة الصحيحة هي أنّ تلبية نداء أمّه مقدّمٌ على صلاة النافلة ، وحاجةُ أمّه إليه أكبرُ مِن حاجته إلى النافلة التي يمكن تأجيلها أو تعويضها ، والدليل الشرعي على أنّ موازنة جريج كانت خاطئة هو استجابة الله لدعائها حيث فتنَتْه امرأة وحصل ما حصل .
ــ بعد التأمّل ندرك أنّ هذه الموازنات ليست عشوائية مزاجية وإنما هي مُبرّرة بقواعد نابعة من أهداف الإسلام ، ومِن بين هذه القواعد " النفعُ المتعدّي أولى مِن النفع القاصر " ، فالجهاد في سبيل الله لِردّ العدوان ونصرة المستضعفين أولى من العبادة في المسجد الحرام .
وقد فهِم هذا العلماء الكبار منهم عبد الله بن المبارك حيث أرسلَ قصيدة إلى الفضيل بن عياض وكان عابدا بالمسجد الحرام ، يُسجّل فيها موازنة بين عملين صالحين فجاء في مطلعها :
يا عابد الحرمين لو أبْصَرتنا = لعلمتَ أنّك في العبادة تلعبُ
مَنْ كان يخضبُ خدّهُ بدموعهِ = فنحُورُنا بدمائنا تتخضّبُ
معنى البيتين : عندما نوازن بين عملك الصالح المتمثل في العبادة في المسجد الحرام وبين الجهاد الذي مسَتْ إليه الحاجة فإنّ الجهاد أفضل و أولى و أهمّ .
*مثال واقعي عن اختلال ميزان القيم والأعمال :
ـ بعض الناس ينفقون على أداء العمرة بسخاء كل عام أو أكثر من مرة في العام الواحد ، لكنّهم يقبضون أيديهم ويقتّرون تقتيرا إذا تعلّق الأمر بالصدقة والزكاة وتفقّدِ الفقراء والمساكين والأرامل والمرضى والحالات الطبية العاجلة ، وهذا بلا شك مخالفٌ للهدي النبوي حيث كان رسول الله ص سبّاقا إلى الأعمال المتعدّي نفعُها حتى كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينَةِ، لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ ويطاوعها من أجل تنفيس كربها وحلّ مشاكلها ، وكان حاله أيضا مع الأرامل والأيتام وهو الذي قال : " الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل " فهل هؤلاء ـ الذين يعتمرون كل عام ــ أكثرُ تديّناً من رسول الله ص ؟ .
*موازنة طريفة للشيخ ابن تيمية :
قال ابن القيم: سمعتُ ابن تيمية يقول ( مَرَرْتُ أنا وَبَعْضُ أَصْحَابِي في زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ منهم يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فَأَنْكَرَ عليهم مَنْ كان مَعِي فَأَنْكَرْتُ عليه وَقُلْتُ له إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عن قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ ) .
والخلاصة هي : أنّ النصوص الشرعية ليستْ على ميزان واحد .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
نشرت هذا الموضوع في بعض مواقعي .
أهم المراجع :
ــ في فقه الأولويات للشيخ القرضاوي
ــ من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي للشيخ محمد الغزالي .
ــ فقه الموازنة : أحمد الريسوني ( محاضرة ) .