حدثتها عن بؤس هذه المدينة ووحشتها، فحدثتني عن مجدها وأيام ازدهارها. ونحن نتجول بين أزقتها الضيقة المعتمة ونتأمل أبنيتها العتيقة الآيلة للسقوط ،في غفلة منا، تذكرت تلك الطفولة المحرومة التي عشناها والآمال التي عقدنها والخيبات التي أصبنا بها والأحلام التي انكسرت فوق صخرة واقع مرير. زاغ بصرها نحوي وذكرتني بلحظات سعيدة عشناها وتناسيتها، كيف كنا نفرح بكسرة خبز رشت بصلصة طماطم حارة نشتريها من أحد الدكاكين القريبة ببضع ريالات، ذكرتني ببهجة يوم العيد وفرحته العارمة التي كانت تجتاحنا طولا وعرضا لتستقر بدفء في قلوبنا الصغيرة.
أخذتها إلى ساحة عامة تتوسط المدينة، كانت تقام فيها سهرات تبذر فيها أموال كثيرة في ساعات قليلة وخطب سياسية في مواسم حصاد وزرع لا طائل منها، نقف مشدوهين أمام أشباح نزعوا ربطة العنق وارتدوا ملابس مثلنا واسمعونا كلمات نحب سماعها ووعدونا بوعود نحب تصديقها، ربما من همنا وكثرة كروبنا. نصوت لهم مرارا وننتظر أن تتغير الأحوال وكأننا نستنبت الأشواك ونأمل فاكهة طرية الملمس، حلوة المذاق. تطوى الخيام وتشد الرحال إلى وجهة نجهلها، نلمحهم بعيد ذلك في سيارات تبهرنا وثياب كنا قد حسبناهم تبرؤا منها للأبد، ثم يختفون من حولنا إلى أن يبعثوا في موسم حصاد وزرع جديدين، في زيارة ميمونة مباركة وقد استحالوا في هيئتهم المبتكرة إلى كائنات أسطورية لا تدركها عقولنا.
أخذتني إلى قصر بهيج بناه أحد الحكام الصالحين الذين مروا من هنا وتركوا أمجاد حضارة حولناها إلى مجرد أطلال نبكيها ونهرب إليها كلما اشتد بؤسنا وخابت آمالنا. تخيلنا بقاياه منتصبة وبنينا جدرانه وحجراته لبنة لبنة ولمسنا تربته بأناملنا وشممنا رائحته الزكية وعبقه الفائح من حبات لقاح تحملها نسمات رياح شرقية وسط فنائه الفسيح، قادمة من أعماق ماض سحيق. داعبنا مياهه العذبة، تتدفق من نافورة مزخرفة، زينة للزائرين. سمعتها تناجي التاريخ وهي تستند إلى أحد الأبواب القليلة المتبقية في غفلة من أيادي اللصوص : "اشهد يا تاريخ، مر من هنا رجال وعدوا فصدقوا وحكموا فأعدلوا".
طال بنا المسير وجلسنا نستريح، فنظرت إلى حديقة المحطة التي لعبنا فوق تربتها الرملية كرة القدم وألعاب أخرى وتسلقنا أغصان أشجارها وقفزنا فوق كراسيها الخشبية، فأحزنني ما ألت إليه، القذارة في كل مكان، الجدران محطمة والشجيرات مكسرة أغصانها وفروعها، الرائحة الكريهة تزكم الأنوف... تأملت وجهي في صمت مهيب وهمست لي ملامح وجهها الساكنة المطمئنة وهي تتجول بعينيها في أرجاء المكان، همسة سافرة بي فوق بساط الزمان وذكرتني بأولئك الرجال الطيبين، رجال كانوا يسهرون على تشذيب الأشجار وإصلاح الأضرار التي كان يحدثها الصغار والكبار...
تطلعت إلى الشجرة التي كنا نحتمي بظلالها الوافرة من أشعة الشمس الحارقة، فخالجني شعور بالتذمر والتحسر. أشرت بيدي، في انزعاج صدقته تعابر وجهي وحركات جسمي المتناقضة، إلى أغصان يابسة وجذوع عطشى لم تسلم من بؤس هذه البقعة المنسية كأبنائها المنفيين في وطن المركز والمحيط. تتبعت حركاتي حتى سكنت وانزعاجاتي حتى خمدت، تم لوحت بيدها إلى أحد الأسوار التاريخية خلفنا كما تلوح الحبيبة لحبيبها المنصرف إلى ساحة الوغى، سور تشهد عظمته وصموده عبر الزمان على حضارة عريقة وأجداد عظماء.
ضاق صدري فقفزت قائلا بغضب وحنق: "أنت، أنت تتشدقين بالثقافة والتاريخ في كل أمر سألناك عنه أو أوحينا لك به، ما بال هذا الجزء لا ينعم ببعض ما ينعم به غيره، وما سر هذه العزلة المطبقة عليه، لولا هذا التلفاز الحقير لأصبحنا خارج التاريخ". أخدت بيدي وربتت على كتفي بنعومة وحنان وأجلستني حيت كنت ورجتني فارتشفت بعض القطرات من كأس الشاي التي تجمعنا، تم تبادلنا الابتسامة والنظرات وتجولنا بأبصارنا بين زبائن المقهى. التفتنا خلفنا التفاتة عميقة، فانطلقنا إلى الأمام وقلنا بصوت هادئ مطمئن: "ليس ذنب هذه الجغرافيا أن يكون لها شمال وجنوب".
*القصة نشرت على صفحات "المجلة العربية"